“المدخلية” في مواجهة المواقف الفقهية للعلامة “ابن العثيمين”

14 سبتمبر 2025 19:27

“المدخلية” في مواجهة المواقف الفقهية للعلامة “ابن العثيمين”

هوية بريس – محمد بوقنطار

قام حلف الفضول في شهر ذي القعدة عام 33 قبل الهجرة الموافق 591م بين خمس قبائل، وكانت فلسفته تقوم على حفظ الحقوق ونصرة المظلوم، وردّ المظالم لأهلها، وردع الظالم حتى يعود عن ظلمه، يستوي في ذلك الرفيع والوضيع، وقد تشرّف هذا الحلف بحضور سيد الخلق وهو ابن العشرين إلى جانب عمومته، وتلك سيرته العطرة قبل البعثة، وأما بعدها فقد أثنى على مشاركته تلك خيرا وأردف مقررا هذا الخيرية في ظل النبوة قائلا: “لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النّعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”.

وتلك سيرة نبي الإسلام مع الظلم ومعشر الظالمين إلى أن جاد بنفسه والتحق بالرفيق الأعلى، بل تلك رسالة الإسلام العظيم مع ترف وجور واعتساف الظالمين، فلم تهادن نصوصه ظالما، ولم تقم له وزنا ولا اعتبارا، إلا في سياق الترجيح بين مفسدة كبيرة حال مواجهته وأخرى صغيرة راجحة تذهب مذهب الصبر على آذاه وشروره، ولذلك جاء الفقه في أبواب الولاية آمرا ومقرِّرا عدم جواز الخروج على أئمة الجور حاضا على مكرهة الصبر على ظلمهم وعند ربها تلتقي الخصوم، وإنّما كان الفقه هاهنا حفيا بحق المظلوم خائفا عليه من بطش المترف المستبد حائلا دون تعرضه إلى قهر وفتك وقتل وترويع زائد، عاصما للمستضعفين من شدة بغيه وتسلطه الحائف الجارف لا مقدرا ومعظما وراعيا لحقوق الظالم ومنزلا إياه منزلة الإمام العادل، الذي جاء ذكره متصدرا قائمة أولئك السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظل عرشه كما جاء في صحيح السنة عن سيد الخلق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم…

وقد شطّ قوم فغرّدوا بعيدا عن هذه الحقيقة، وفهموا ومن ثم أفهموا الناس أن لولي الأمر سلطة مطلقة هي بمنأى عن كل تقييم واستدراك أو حتى توجيه وإرشاد أو الصدع بكلمة حق في وجهه والتي اعتبرها النص الحديثي الشريف من أعلى مقامات الجهاد، بل تراهم زادوا في خرجاتهم علينا المتكررة وقد أباحوا له إمكانية شرب الخمر، وارتكاب الخنا أما أنظار ومرأى الناس، منقولة إليهم هذه القذارة عبر الأثير ووثير أشعة النيون، بل منهم من أجاز له إن هو رأى ذلك أن يقتل ثلثي الرعية في سبيل أن يعيش هو والثلث الباقي في أمن ورغد عيش، وهم في ذلك قد أجروا منع الخروج على أئمة الجور كما دل منطوق النصوص مُجرى الثناء والمدح، وإنّما ديدن السلف في هذا المقام أنهم أجروا هذا المنع مُجرى العدل والإنصاف والموازنة بين مفسدة صغرى وأخرى أشنع وأفظع منها، وبلائهم غير الحسن وقد ساقوا في مهمتهم هذه نصوصا من ذلك الوحي النقي الصفي الذي ذكرنا من سيرته الزكية أنه لم يهادن ظلما ولم يساكن ظالما، وهم في تدليسهم قد نزلوا النصوص التي جاءت في حق الإمام العادل وألبسوا تاجها فوق هامة الكثير من الظلمة القتلة المفسدين في الأرض بغير حق، والأدهى من هذا أنهم شرعنوا لهم بما يوافق هواهم صنعة القتل والتعذيب في صفاقة لم يردفها تراجع منهم أو حتى ندم، كما ندم سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه لمجرد أنه: “حدّث الحجاج لمّا سأله عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم أحدا، فحدثه بقصة العرنيِّين، وأنه صلى الله عليه وسلّم قطّع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، حتى إن الرجل منهم كان يكدم الأرض بلسانه حتى يموت”

وقد جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: “ما ندمت على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، وقد أُثر عن الحسن البصري أنه قال عن نفس الواقعة: “وددتُّ أنه لم يحدثه بهذا”.

وانظر في هذا الدرك إلى دور مرجئة عصرنا كيف اصطفوا ودافعوا ونافحوا وشرعنوا وسوّغوا للظلم والإجرام والانقلاب، وكيف صفقوا للقتل المستحر في صفوف الآمنين من المواطنين المسلمين والذي بلغ ذروته في بلاد ليبيا حيث تمت تصفية واغتيال علماء محليين على أيدي ميلشياتهم العاملة جنبا إلى جنب المنقلب الجنرال “حفتر” المدعوم من قوى الغرب الصهيوصليبي، ناهيك على ما وقع تحت وقع مكائهم وتصديتهم ومباركتهم للقتل هنالك في مصر والعراق وسوريا، وكيف وافق ذلك الاعتداء الجاهلي هنالك هوى في صدورهم.

واليوم تراهم بوجه صلد صفق يخرجون من جحور الضب لينعتوا المقاومة الإسلامية في أرض الرباط وليصفوا رجالاتها البواسل الأشاوس بالجرذان، وليجرموا المقاومة الغزاوية، ويخوِّنوا سيرة من باعوا أنفسهم لله من أبطالها الأشاوس، حتى لا يكاد يفرق خطابهم، بل وتتحد كلماتهم الفاقعة السواد مع مضمون خرجات وتعليقات المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي “أفيخاي أدرعي”، وكأن مصدر النهل والاستدلال منهما واحد متشاكل متجانس يا سبحان الله ! والحال أنّها معركة بين مسلم بيِّن إسلامه وكافر طافح بيِّن كفره، فلا منطقة أعراف للوقوف والكف والإمساك، أو التولي يوم الزحف، فكيف باصطفافهم ومباركتهم لوحشية هذا الصائل الغائر المعتدي، ومحاولاتهم بإصرار لتسويغ جرائمه، وإلصاق المسؤولية التقصيرية بالمقاومة الإسلامية تحت طائلة كلمة باطل أُريد بها باطل هاهنا “البادئ أظلم” في إشارة منهم تصريحية لما واقع في عملية طوفان الأقصى…

ورحم الله الشيخ الإمام الجليل ابن العثيمين والذي يعتبره المنصفون من العلماء وطلبة العلم الربانيين أهم مرجعية فقهية سنية في عصرنا على وجه الإطلاق، فلطالما جاء في طي كلامه المبارك في مصنفاته وكذا مجالسه العلمية والوعظية والتعليمية الكلام عن “علماء الدولة”، حيث كان يقول: “عالم الدولة هو الذي ينظر ما تشتهيه الدولة فيلوي أعناق النصوص إلى ما تريد”، وعرفهم الشيخ رحمه الله في موضع آخر كما نقل عنه الأسير المفكر الأريب “إبراهيم بن عمر السكران” في كتابه الماتع ”’احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي”’ حيث قال رحمه الله: “وأما علماء الدولة فينظرون ماذا يريد الحاكم، فيصدرون الأحكام على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناق النصوص من الكتاب والسنة حتى تتفق مع هوى هذا الحاكم، وهؤلاء علماء دولة خاسرون”، وتجده في مواضع ومواقف أخرى يزيد من جرعة التشنيع على هذه الفئة الضالة المُضلة من العلماء فيقول: “عالم الدولة: الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتيهم مباشرة، ينظر ماذا يقول الرئيس أو الوزير وما أشبه ذلك، فما أحله الرئيس فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، هذا عالم دولة”.

وفي معرض ردّه على الذين نقلوا عنه أنه رحمه الله كان لا يرى بالإنكار العلني على ولاة الأمر، فقد انبرى رحمه الله لتوضيح قواعد تعاطيه بخصوص هذا الأمر، وهي القائمة على مبدأ تحقيق التوازن بين أصول الشريعة ومنها أن مسألة الإنكار العلني تظل مرتبطة بمصلحة الإنكار ذاته فأوضح قائلا: “فإذا رأينا أن الإنكار علنا يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علنا، وإذا رأينا أن الإنكار علنا لا يزول به الشر ولا يحصل به الخير، بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سرًّا، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علنا فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سرًّا فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل الخير”.

بل يجد المتتبع للرصيد الفقهي للشيخ وخاصة في كتابه الموسوعي “الشرح الممتع على زاد المستقنع” أنه رحمه الله قد حرّم على ولي الأمر قتال البغاة، وأوجب عليه قبل ذلك أن يحاورهم أولا قائلا: “لو قال ـ أي: ولي الأمر ـ مثلا: ارجعوا وراءكم أنا الإمام، ولا لأحد علي اعتراض، لا أُسأل عما أفعل، وأنتم تُسألون، فماذا نقول؟ نقول: هذا لا يجوز، وحرام عليه أن يقول هذا القول”.

وقد تواطأ لسان من عرفوا الشيخ وذاقوا طعم المصاحبة له وطول المجالسة والمذاكرة العلمية والأخذ عنه، ووقفوا على حجم ورعه ورصيد خوفه من الله، أنه رحمه الله لم يكن ليتماهى مع طرح مخالف مناقض للأحكام الشرعية، فلم يؤثر أو يُسجل عليه أنه انجر إلى أن يقدم غطاءً فقهيا لقرار سياسي صادر عن سلطة سيادية قد جاء مخالفا لشرع الله، ولعله استحضار كثيف له وزنه وثقله في مقام الرد على هذه الثلة المترفة والطغمة الفاسدة من هذه الطائفة المدخلية الجامّية، التي أصابت الصف الإسلامي في مقتل، وجاءت جهودها وظل ركز أتباعها تستهويه أتون الفُرقة والتشردم وذهاب الريح وانفراط العقد وإفقاد ذلك البنيان المرصوص لخصيصة التلاحم والتراص، يتم وتم ذلك منهم جميعا وأشتاتا باسم منهج السلف وتحري السنة ورد البدع والمحدثات…

على من قضى منهم نحبه ومن ينتظر من الله ما يستحقون، وكفانا الله فتنتهم بما شاء إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
8°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة