أحمد عصيد والإفلاس الفكري

أحمد عصيد والإفلاس الفكري
هوية بريس – عبد الإله الرضواني
من يتابع مسار أحمد عصيد يلحظ بسهولة أنه جعل عداءه للإسلام عملة لكل إنتاجه الفكري والإعلامي. فمن اتهام المسلمين بالتخلف وعدم تقديم أي إنجاز للبشرية، وانهم سبب كل مشاكل العالم، إلى اتهام رسول الإسلام بالإرهاب، وصولاً إلى اتهامه الجديد بأن حضارة الإسلام هي حضارة المثلية… هذا المسار يكشف إفلاساً فكرياً وغياباً لأي تحليل علمي أو موضوعي، ويؤكد أن همّه ليس التاريخ ولا الفكر، بل النيل من الإسلام بأي وسيلة.
المثلية ليست ظاهرة حديثة، بل عرفتها البشرية منذ القدم كما يذكر القرآن الكريم في قصة قوم لوط عليه السلام. لكن أن يجعل عصيد بعض التصرفات الفردية لأمراء أو حكام معياراً للحكم على حضارة عمرها أكثر من أربعة عشر قرناً، فذلك سطحية ومغالطة فاضحة. ثم إنه يتجاهل حقيقة تاريخية مهمة: أن العلماء المسلمين على مر العصور شجبوا هذه الممارسات وحاربوها، معتبرينها انحرافات فردية لا تمثل الإسلام ولا حضارته.
سؤال إلى عصيد: كيف نفسر التاريخ؟
إذا كان الإسلام كما يصوره عصيد دين “تخلف” أو “مثلية”، فليجبنا بوضوح:
-كيف تمكنت الدولة الإسلامية من أن تمتد من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً؟
-كيف استطاعت الدولة العثمانية مثلا أن تحكم نصف العالم لأكثر من 600 سنة؟
-هل توجد حضارة “متخلفة” قادرة على إسقاط حضارات عريقة مثل الروم والفرس؟
التاريخ لا يرحم، والوقائع أقوى من الشعارات، الحضارة الإسلامية لم تسقط تلك الإمبراطوريات الكبرى بالقصائد أو الجدال العقيم، بل بقوة العلم والتنظيم والعقيدة والرؤية الحضارية. هذه هي الحقائق التي يحاول عصيد طمسها لأنه يقرأ التاريخ بعين أيديولوجية لا بعين الباحث الموضوعي.
ضعف التحليل العلمي لعصيد
تحليل عصيد يقوم على قاعدة واهية: الانطباع العاطفي لا الدليل العلمي. فهو يختزل حضارة كاملة في تصرفات فردية، متناسياً أن كل الحضارات الكبرى شهدت مثل هذه الانحرافات. ولو أردنا تبسيط أسلوبه أكثر، لقلنا إنه يتعامل مع التاريخ كما يتعامل قارئ عابر مع جريدة في مقهى: يلتقط العنوان الصادم ويترك السياق، ثم يظن أنه اكتشف الحقيقة!
فلننظر قليلاً إلى الحضارات الأخرى:
-اليونان: عرفت المثلية والفجور، لكنها أيضاً أنجبت الفلسفة والرياضيات.
-الرومان: فتحوا العالم لكنهم غرقوا في البغاء والفساد السياسي.
-الغرب الحديث: قاد الثورة الصناعية، لكنه ارتكب أبشع المجازر الاستعمارية.
-اليابان: صنعت المعجزات التكنولوجية، لكنها أيضاً قادت نزعات عسكرية عدوانية.
-الفراعنة: شيدوا الأهرامات لكنهم مارسوا الاستعباد بأبشع صوره.
-الفرس: أنشأوا حضارة سياسية متقدمة، لكن بعض ملوكهم غرقوا في الفساد.
-الروس: قدّموا أدباً وفكراً عظيماً، لكنهم عرفوا الاستبداد والقمع.
فهل يعقل أن نصف كل هذه الحضارات بالفساد والانحراف وننفي عنها الإنجازات بسبب بعض الأخطاء الفردية؟ إذا كان الجواب لا، فإن منطق عصيد يصبح ساذجاً وسطحيّاً، بل أقرب إلى نكتة فكرية.
الحضارة الإسلامية أكبر من الانحرافات
الحضارة الإسلامية، مثل غيرها من الحضارات العظيمة، لم تكن مسيرتها خطًّا مستقيمًا، بل عرفت لحظات إشراق وازدهار كما عرفت فترات ضعف وانحسار. ومن بين ما سجله التاريخ في أسباب سقوط الأندلس أن بعض حكام الإمارات استسلموا للنزوات واللهو، وانغمسوا في سلوكيات تناقض قيم العدالة والفضيلة. غير أنّ هذه الانحرافات لم تكن أبدًا مرآة صادقة للحضارة نفسها، فقد واجهها العلماء والمصلحون المسلمون بشجاعة، ودفع بعضهم ثمن موقفه سجنًا أو قتلاً حفاظًا على القيم التي تنهض بها الأمم.
هذه الحضارة عرفت إنشاء أول جامعة في العالم (القرويين) من طرف المغاربة، ووضعت أسس الجبر والكيمياء والطب والفلك، وأثرت في أوروبا بمناهج البحث العلمي والقانون، وهذا يعترف به علماء الغرب أنفسهم. هذه الحضارة قدمت للعالم فلاسفة وعلماء من طراز ابن رشد، الفارابي، الرازي، ابن سينا، الخوارزمي، البيروني وغيرهم. لكن يبدو ان عصيد لا يعترف بهم او لا يعتبرهم علماء ومفكرين.
كيف يمكن لعاقل، مهما كان عداؤه للإسلام، أن يختزل كل هذا الإرث في تصرفات فردية شاذة؟ هذا هو عين الإفلاس الفكري.
مفكر حقيقي… أم مفكر إعلام؟
السؤال وحده كافٍ لفضح الهوة السحيقة بين الاثنين. فالمفكر الحقيقي يُنصت للتاريخ بصبر الباحث، يغوص في تفاصيله، يمحّص الروايات، يستند إلى الدليل، ويحاكم الأحداث بميزان العقل والموضوعية والتجرد. هو أشبه بجراحٍ يمسك المشرط بدقة، يعرف أن أي خطأ قد يؤدي الى كارثة صحية، بل وحتى الموت.
أما “مفكر الإعلام”، فهو حالة أخرى تماماً: يعيش على الإثارة كسمكة تعيش على الأكسجين، ويقتات على التصفيق الرخيص والنجومية المصطنعة. بدل أن يبحث في بطون الكتب وينظر الى مجموع الدليل تجده يبحث عن الاستثناءات ويجعلها قاعدة؛ وبدل أن يستشهد بالمصادر، يستشهد بالانطباعات الشخصية. لا يخاطب العقول، بل الغرائز، ولا يقود الناس إلى المعرفة، بل إلى الصخب.
وما يمثّله فكر أحمد عصيد، مع احترامي لشخصه، في نظري ليس فكراً بقدر ما هو شو إعلامي: جُمل لامعة لكنها فارغة، أحكام قاطعة لكنها بلا أدلة، شجاعة في مهاجمة حضارة بأكملها، وجُبنٌ في مواجهة البديهيات العلمية والتاريخية. هو لا يكتب التاريخ ولا يدرسه، بل يعيد تأليفه كما يحلو له، في دقائق معدودة، وكأنه يعلّق على مباراة كرة قدم في مقهى شعبي.
المفكر الحقيقي يرهق نفسه في البحث والتنقيب، بينما مفكر الإعلام لا يرهق سوى أوتاره الصوتية. المفكر الحقيقي يحترم عقل القارئ، بينما مفكر الإعلام يتعامل مع الجمهور كجماعة تحتاج إلى الإثارة لا إلى الحقيقة. الأول يصنع معرفة، والثاني يصنع ضجيجاً.
الخطر ليس في وجود مفكري الإعلام ـ فقد عرف التاريخ دائمًا أمثالهم ـ بل في أن يجدوا منابر تُلمّعهم وتقدّمهم للجمهور بديلاً عن المفكرين الحقيقيين. حينها يصبح التاريخ مادة للتسلية، والفكر مجرد مسرحية، والحضارة كلها لعبة عبارات رنانة لا أكثر.
لسنا ضد النقد، ولكن…
لستُ ضد انتقاد تاريخ المسلمين ولا أرفض النظر إليه بعيون ناقدة، بل إنّ النقد الموضوعي ضرورة لفهم الماضي وتجنّب أخطائه. غير أنّ ما أراه مجانبا للمنهج العلمي هو القراءة الأيديولوجية التي تُسقط أهواء الحاضر على وقائع الأمس، فتُضخِّم بعض الأحداث الهامشية وتُهمِّش الإنجازات العظيمة، أو تُحمِّل حضارة بأكملها وزر انحرافات أشخاص. إنّ الإنصاف يقتضي أن نعطي كل حدث حجمه الحقيقي، بعيدًا عن المبالغة أو التهوين، لأنّ الحضارة الإسلامية ـ مثل غيرها ـ مزيج من القوة والضعف، المجد والتراجع، ولا يجوز أن يُختزل تاريخ أمة بأكملها في لحظات انحطاط عابرة.
الخلاصة
الحضارة الإسلامية، مثل كل الحضارات الكبرى، شهدت أخطاء وانحرافات، لكنها في النهاية قدمت للعالم علماً وفكراً وقوة سياسية غيرت مجرى التاريخ. من يختزلها في لحظات فردية شاذة إنما يكشف عن سطحية فكرية وإفلاس تحليلي.
ولذلك يبقى السؤال معلقاً في وجه عصيد:
إذا كان الإسلام دين تخلف كما تزعم، فاشرح لنا كيف استطاع أن يسقط إمبراطوريات عريقة، وأن يحكم نصف العالم لقرون؟ كيف تمكنت “حضارة المثلية” -حسب وصفك- من أن تبني علوماً، جامعات، دولاً وإمبراطوريات لا تزال البشرية تعيش على أثرها؟
الإجابة الوحيدة أن الإسلام لم يكن كما يصوره عصيد، وأن مشكلته الحقيقية ليست مع التاريخ، بل مع الإسلام ذاته. وما يسميه فكراً لا يعدو أن يكون نقاش مقاهي بلغة أكاديمية زائفة.



