قبل أن تسأل «أين هو الله؟» اسأل: أين علمي؟

قبل أن تسأل «أين هو الله؟» اسأل: أين علمي؟
هوية بريس – عبد الإله الرضواني*
ظهر في زمننا نوع جديد من المفكرين يملؤون فضاءات التواصل الاجتماعي ضجيجًا: فلاسفة الهاتف الذكي. يحمل أحدهم هاتفًا، يحفظ بضع عبارات رنانة، ثم يبدأ في الحديث عن اللاهوت والميتافيزيقا وكأنه خريج السوربون أو أكسفورد أو هارفارد. والحقيقة أن أغلبهم لم يقرأ في حياته كتابًا جادًا واحدًا في الفلسفة أو الدين، ومع ذلك يتحدثون بثقة من يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة.
سلاحهم المفضل؟ السؤال المكرر حتى الملل: أين هو الله؟
يسألونه بنبرة المنتصر، ظانّين أنهم بهذه الجملة القصيرة قد نسفوا قرونًا من الإيمان والفكر الفلسفي. يسألونها وكأن الله شيء مادي يمكن تحديد موقعه بإحداثيات على غوغل ماب أو وايز! يا للسخرية… إنهم جيلٌ يخلط بين الاستفزاز والفكر، وبين الجهل والتنوير. ينسون أن الإيمان ليس مادةً تُوزن أو تُقاس، بل هو قناعة داخلية، وثقة روحية، وتوجّه نحو معنى أسمى. فالإيمان لا يُختبر بالمجهر ولا يُقاس بالمتر. لغته ليست لغة الفيزياء ولا الكيمياء، بل لغة القيم والمعنى والوجود. حين يقول أحدهم: أرِني الله!، فإنه لا يُظهر فقط ضعف إيمانه، بل أيضًا جهله العميق بطبيعة السؤال نفسه. أنت لا ترى الحب ولا الوعي ولا الادراك ولا الروح ولا الجمال، ولكنك تدرك وجودها لأنك تلمس آثارها.
وما يغيب عن هؤلاء أن غياب الدليل لا يعني دليل الغياب. فالكثير من كبار الفلاسفة والعلماء — من سقراط إلى كانط، ومن باسكال إلى أينشتاين — تساءلوا عن وجود الله بتواضع، لا بسخرية. وحتى بين علماء العصر من فيزيائيين، وفلاسفة وعلماء فلك، وعلماء الاحياء نجد كثيرين يصفون أنفسهم بأنهم لا أدريون، لأنهم ببساطة يعترفون: لا نعلم.
هم يدركون أن العلم يمكن أن يجيب على سؤال «كيف يعمل الكون؟»، لكنه لا يستطيع الإجابة على سؤال «كيف ولماذا وُجد الكون أصلًا؟».
لكن التواضع لا يحقق مشاهدات على “تيك توك”، بينما الغرور يفعل. وهكذا نرى جيوشًا من “المؤثرين” يعلنون بكل خفة أنهم اكتشفوا ما عجز عنه الفلاسفة منذ آلاف السنين. حججهم سطحية، ومراجعهم غائبة، ومنطقهم متهافت، لكن أصواتهم عالية. ففي زمن الضجيج، يُقاس الفكر بعدد المتابعين لا بعمق البرهان. إن هذه الظاهرة ليست خطرًا لأنها تُهاجم الإيمان، بل لأنها تفرّغ النقاش من مضمونه وتحوله إلى عرضٍ استعراضيّ. فالباحث الحقيقي عن الحقيقة، لا يسخر، بل يتعلّم. فأن تشكّ بعلم، خيرٌ من أن تسخر بجهل. الباحث عن الحقيقة لا يصرخ، بل يُصغي. الباحث عن الحقيقة لا يعتبر أن مقطع فيديو مدته عشر دقائق يُغني عن سنوات من الدراسة والتأمل. إنه يدرك أن أسئلة الإله والوجود تنتمي إلى فضاء اللانهائي، لا إلى قائمة المواضيع الرائجة في وسائل التواصل.
لذا، إلى كل من يصرخون: أين هو الله؟، أطرح عليهم سؤالًا آخر: أين تواضعكم؟ أين علمكم؟ أين عقولكم المدربة على التمييز بين الحجة والضوضاء؟
إن سؤال: «أين هو الله؟» قد طُرح عبر القرون من قِبل قديسين وفلاسفة وشكّاكين، لكنه لم يُطرح يومًا بهذه الخفة والغرور كما يُطرح اليوم. من لا يستطيع أن يُعرّف ما يُنكر، لا يملك حجة، بل مزاجًا. وحين يلبس الجهل قناع الحكمة، تتحول الساحة الفكرية إلى فوضى من الادعاء والسطحية. المشكلة ليست في الإيمان، بل في الجدية. فحتى نتعلم التفكير قبل الكلام، سيظل الأعلى صوتًا هو الأكثر فراغًا.
أيها الشباب المغربي، لا تجعلوا من النقاش حول الإيمان والفكر ساحةَ تهكّمٍ أو تقليدٍ أعمى، بل مَدارسَ للتأمل والبحث. فالفكر لا يُبنى بالضجيج، والإيمان لا يُهدم بالسخرية. من أراد أن يفكر حقًّا، فليتعلم أولًا، ومن أراد أن يُقنع، فليحترم من يخالفه. إنّ الوطن الذي نريده هو وطنٌ يناقش بإخلاص، ويسأل بعقل، ويختلف بأدب. فالجدل الحقيقي ليس من يعلو صوته، بل من يسمو فكره.
ــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ باحث في علوم الطب الحيوي / معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، جامعة حمد بن خليفة



