الدكتور الحضري يكتب: من فخر الكرة إلى وعي التنمية حين يتحول التميُز إلى مشروع وطني

22 أكتوبر 2025 11:18

هوية بريس- د. الحضري لطفي

مقدمة
كان فوز المنتخب المغربي ببطولة العالم لأقل من عشرين سنة لحظة فارقة في الوعي الوطني، تجاوزت كونها إنجازا رياضيا إلى كونها رسالة رمزية عميقة عن قدرة المغرب على التميز في الساحة العالمية. لم يكن ذلك الفوز مجرد انتصار في ملعب، بل تجليا لهوية وطنية تتقن التنظيم، وتؤمن بالعمل، وتثق في شبابها. لقد أعاد هذا التتويج تعريف التفوق في الرياضة العربية والإفريقية، وأثبت أن النجاح المغربي ليس استثناء عابرا، بل ثمرة رؤية واضحة وإدارة حكيمة واستثمار طويل في الإنسان.
لكن التحدي الأهم اليوم هو ألا يظل هذا النجاح حبيس الميدان الرياضي، بل أن يُستثمر كطاقة حضارية تُغذي ميادين العلم والاقتصاد والمجتمع. فكيف نحول روح الفوز إلى وعي تنموي شامل؟ وكيف ننقل نموذج التميز من الأكاديمية الرياضية إلى الجامعة والمختبر ومؤسسات الإنتاج؟
إن الإجابة تبدأ من إعادة بناء الثقة بالنفس الوطنية، ومن ترسيخ قناعة جماعية بأن ما تحقق في الرياضة يمكن أن يتحقق في كل مجال آخر متى توحدت الإرادة مع الرؤية والعلم.
ذلك التحول المنشود لا يُقاس بالمؤشرات المادية فقط، بل يبدأ من بناء شعور راسخ بالانتماء والفخر الوطني، حيث يشعر المغربي أن وطنه يفتح له أبواب النمو، ويكافئ جهده، ويمنحه أسباب الرفاه والسعادة. عندها يصبح النجاح الجماعي طريقا إلى الكرامة الفردية، وتتكامل السياسات الاقتصادية مع العدالة الاجتماعية والتنمية النفسية، ليتحول الوطن إلى فضاء للحياة والمعنى، لا مجرد أرض للإقامة والعمل.
علم الفروق
التفريق بين النجاح والتفوق والتميز ضروري لفهم طبيعة ما تحقق في كرة القدم، وما يمكن تحقيقه في الميادين الأخرى. فالنجاح هو بلوغ الهدف المرسوم وتحقيق النتائج الأساسية التي تدل على سير صحيح، أما التفوق فهو تجاوز الحد العادي من النجاح نحو أداء أفضل من المتوسط، يُظهر قدرة تنافسية واضحة. أما التميز، فهو أرقى المراتب، إذ يعني إبداع نموذج فريد في الرؤية والتنفيذ والتأثير، بحيث يصبح المرجع والمثال الذي يُقاس عليه الآخرون.
لقد حقق المغرب في كرة القدم مستوى التميز، لأنه لم يكتف بالنتائج بل بنى نموذجا إداريا وتكوينيا ناجحا يُحتذى به. ومع ذلك، يمكن القبول في المجالات الأخرى بمستويات متفاوتة من التقدم:
1. النجاح في بعضها كتأسيس البنية الصحيحة.
2. والتفوق في أخرى كتطوير الأداء وتجويد العمل.
3. والتميز في ميادين محددة تُبنى عليها الريادة الوطنية.
فليس المطلوب أن تتساوى كل القطاعات في السرعة أو النضج، بل أن تسير في الاتجاه ذاته بروح واحدة ومنهج متكامل، لأن النهضة الشاملة تقوم على تكامل النجاحات لا على تطابقها.
فقه الممكن
لقد كشفت التجربة الكروية المغربية عن طاقة كامنة في الوعي الجماعي، وأعادت تشكيل نظرتنا إلى الذات من خلال ما يمكن تسميته بـ “فقه الممكن”. فحين تحقق التميز الكروي، لم يكن مجرد تفوق رياضي، بل تجسيدا نفسانيا لإمكان التغيير حين تتوحد الإرادة مع الرؤية والعلم. لقد أظهر لنا هذا الإنجاز أن الممكن ليس درجة واحدة، بل مراتب تتدرج بحسب الوعي والإصرار والإدارة:
1. هناك ممكن لأنه سهل، يدل على قابلية الفعل المباشر.
2. وهناك ممكن وإن كان صعبا، لكنه يظل في متناول من يملك الصبر والمنهج.
3. وهناك ممكن وإن بدا شديد الصعوبة، لكنه لا يسقط من حساب الإرادة الواعية ما دامت تستند إلى التخطيط واليقين.
إن فقه الممكن بهذا المعنى ينقل الإنسان من منطق المستحيل إلى منطق المبادرة، ويُخرجه من دائرة الأعذار إلى فضاء الفعل. وهو تحول نفسي عميق يجعل الثقة بالذات قاعدة للفعل، لا شعورا عابرا بالحماس. ومن هنا تولدت روح التميز التي يجب ألا تقتصر على الميدان الكروي، بل أن تُستثمر في إعادة بناء بنية التفكير الوطني، حتى تصبح مبدأ عاما في التعليم والاقتصاد والإدارة، وتتحول الروح الرياضية إلى ثقافة وطنية تُغذي العمل المؤسسي وتربط بين الجهد الفردي والمصير الجماعي.
فكما أثبتت كرة القدم أن التميز لا يولد من الحظ بل من التخطيط، يمكن للمغرب أن يجعل من فقه الممكن قاعدة لنهضة شاملة، تمتد من الملعب إلى الجامعة، ومن لحظة الفخر إلى مشروع الوعي، حيث يصبح التميز سلوكا وطنيا لا حدثا استثنائيا.
المنظومة
لقد أثبت المغرب من خلال تجربته الرياضية أنه تجاوز مرحلة الشك إلى مرحلة الممكن؛ فبعد أن كان التفوق العالمي حلما بعيدا، صار واقعا ملموسا بفضل وضوح الرؤية، وحسن الإدارة، واستمرار العمل. وما تحقق في الميدان الرياضي لم يعد حكرا عليه، بل فتح الأفق أمام بقية الميادين العلمية والاقتصادية والاجتماعية لتسلك المسار نفسه. فكما تحققت المعادلة في الرياضة: موهبة + تدريب + إدارة جيدة = نتائج ملموسة. يمكن صياغة المعادلة نفسها في المجالات الأخرى مع مراعاة خصوصيتها وتعقيدها.
في الاقتصاد والعلم والمجتمع، لا يقوم النجاح والتميز على جهد فردي أو حدث استثنائي، بل على منظومة متكاملة تُنسق بين التعليم والبحث والاقتصاد والسياسات العامة، في إطار ثقافة مؤسسية وإرادة سياسية مستقرة. هذه المجالات تحتاج إلى نَفس أطول وصبر أكبر، لكنها تحمل ثمارا أعمق وأدوم.
لقد برهنت الرياضة على أن الاستثمار في الإنسان، حين يقترن بالإيمان بالممكن، يُنتج تميزا حقيقيا. ومن هنا يمكن للمغرب أن يُحول هذا النجاح إلى نموذج وطني شامل، ينقل روح التحدي من الملاعب إلى الجامعات، ومن الحماس الجماهيري إلى التخطيط الهادئ لبناء الحضارة.
العوامل التي صنعت النجاح الرياضي
من التجربة المغربية يمكن استخلاص مجموعة من القواعد الذهبية التي أسست لنهضة الكرة، ويمكن أن تتحول إلى مبادئ شاملة للتنمية:
1. رؤية استراتيجية طويلة الأمد تتجاوز الحسابات الآنية.
2. الاستثمار في التكوين المبكر واكتشاف المواهب في عمر صغير.
3. الإدارة الاحترافية القائمة على التخطيط لا على الارتجال.
4. المنافسة والجدارة بدل المحسوبية والانتماء الضيق.
5. الانفتاح على الخبرة الدولية دون التفريط في الهُوية الوطنية.
6. الشفافية والمحاسبة كأساس للثقة والفاعلية.
هذه القواعد التي نجحت في بناء منتخب قوي يمكن أن تُترجم إلى سياسات وطنية في التعليم والبحث والاقتصاد.
الثقة بالنفس: الوقود النفسي للنهضة
كل نهضة تبدأ من الداخل، وكل تغيير حقيقي تسبقه ثقة بالنفس تفتح أفق الإمكان. لقد منحت التجربة الكروية المغربية للمجتمع بأسره دفعة نفسية غير مسبوقة، إذ كسرت حاجز الخوف من المستحيل، وأعادت تعريف العلاقة بين الحُلم والقدرة. فحين يرى الفرد أبناء وطنه يحققون ما كان يُعد بعيد المنال، تنبعث في داخله فكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: “إذا كان النجاح أو التميز ممكنا لأحد أفراد وطني، فهو ممكنة لي”.
هذه المعادلة النفسية هي حجر الأساس في كل تحول حضاري. فالثقة بالنفس ليست شعورا عاطفيا عابرا، بل آلية دفاع داخلية وحافز تحول جماعي، تُمكن الفرد من مقاومة الإحباط وتحدي الصعاب واستثمار كل تجربة نجاح كمصدر للطاقة المعنوية. ما حدث في الملاعب لم يكن انتصارا رياضيا فقط، بل تحركا في الوعي الجمعي، حيث استعاد المغربي ثقته في ذاته وفي قدرته على المنافسة والريادة. وعندما تتجذر هذه الثقة، فإنها تتحول إلى وقود نفسي يحرك المجتمع بأكمله نحو مجالات جديدة من الإبداع العلمي والاقتصادي والثقافي.
إن الثقة بالنفس لا تُمنح، بل تُكتسب بالتجربة والمكابدة. وهي اليوم أعظم ما يمكن أن نحمله من دروس التميز الكروي، لأن من آمن بنفسه لم يعد بحاجة إلى معجزات، بل إلى طريق يسير فيه بثبات، مدفوعا بوعي جديد يقول له: لقد جُر ب الممكن، فامض إليه في كل ميدان.
الحافزية: طاقة الدفع نحو التميز
إذا كانت الثقة بالنفس هي الوقود الداخلي للنهضة، فإن الحافزية هي المحرك الذي يُحول الثقة إلى فعل. في علم النفس، تُقسم الحافزية إلى نوعين متكاملين: الحافزية الداخلية والحافزية الخارجية.
الأولى تنبع من داخل الإنسان، من إحساسه بالواجب، ورغبته في الإتقان، وسعيه للمعنى.
أما الثانية، فتأتي من الخارج، من التقدير، أو الانتصار، أو النموذج الملهم الذي يوقظ فينا الرغبة في المحاكاة والمشاركة.
والإنسان لا يستغني عن أي منهما، إذ هما جناحان متلازمان: أحدهما يوقظ، والآخر يدفع.
في الحالة المغربية، كان الانتصار الكروي حافزا خارجيا جماعيا، أي صدمة إيجابية في الوجدان الوطني أيقظت الإيمان بالممكن، وأعادت إلينا الإحساس بالقدرة. غير أن استدامة هذا الأثر تتطلب تحويله إلى حافزية داخلية دائمة، تجعل “كل” مغربي يجد في موقعه الخاص ميدانه الخاص للانتصار. فالمعلم، والطبيب، والمهندس، والعامل، والباحث، كل منهم قادر على أن يُمارس دوره بروح المنتخب، وأن يرى في إتقان عمله مشاركة في فوز وطني أكبر.
إن النمو الحقيقي يبدأ حين نفهم أن النماء مسؤولية مشتركة، وأننا لا ننتظر الآخر ليبدأ، بل نبدأ نحن، بدافع من الداخل، مدفوعين بقيم راسخة في الإيمان بأن العمل في سبيل الله عز وجل عبادة، وأن الإتقان أجر قبل أن يكون إنجازا. حينها تتحد الحافزية الداخلية التي تنبع من الإيمان، بالحافزية الخارجية التي يوقظها النجاح الجماعي، فينشأ من تلاقيهما تيار طاقة وطنية يدفع كل فرد إلى أن يضيف لبنة في صرح التميز المغربي.
وهكذا، كما أسعدَتنا المنتخبات المغربية بانتصاراتها، يصبح من الواجب أن نُسعد أبناء وطننا وأمتنا بإتقان ما نفعل، وبالعمل الدؤوب على تطوير قدراتنا. لأن النجاح، بل التميز، ممكن حتى وإن كان صعبا جدا، لكنه يبقى ممكنا. والفرق بين من يحلم ومن ينجز هو الحافزية: تلك الشعلة التي إذا وُجدت في القلب، جعلت كل جهد عبادة، وكل مهنة ميدانا من ميادين المجد.
الاعتقاد والنجاح الصغير: فلسفة الذرة
من أعظم القواعد النفسية التي تُبنى عليها مسيرة التميز أن النجاح الصغير هو بذرة النجاح الكبير. فكل إنجاز جزئي، مهما بدا بسيطا، يُحدث أثرا تراكميا في النفس والعقل، ويؤسس لبنية داخلية من الثقة والصبر واليقين. الاعتقاد بأن الخطوات الصغيرة قادرة على فتح الآفاق الكبرى ليس مجرد تفكير إيجابي، بل هو منهج نفسي–إيماني عميق يجعل الإنسان يرى في كل تقدم، مهما كان متواضعا، خطوة على طريق الاكتمال.
حين يُؤمن الإنسان بهذه القاعدة، يتغير موقفه من الصعوبات. فالصعب لا يعود مستحيلا، بل يصبح ممكنا يحتاج فقط إلى صبر أطول وجهد أعظم وزمن أوسع. ومع كل صعوبة تُقهر، تتولد طاقة جديدة من الداخل، تُغذي روح الاستمرار وتُنعش الإرادة. إن الطاقة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من يقين داخلي بأن كل جهد صادق يثمر، حتى وإن لم يُرَ أثره في اللحظة.
وهنا يمكن أن نستند إلى الرؤية القرآنية “للسلوك الذري”، حيث يقول الله عز وجل: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، [الزلزلة: 7]. إن الخطاب الإلهي هنا يرفع قيمة الفعل الصغير إلى مستوى الحساب الكوني، فيجعل من الذرة رمزا للجدوى المطلقة لكل خير يُفعل، مهما خفي أثره أو صغر حجمه. إذا كان الله عز وجل، في عظمته، يولي لعمل بقدر الذرة أهمية تستحق الجزاء والرؤية، فكيف نقلل نحن من شأن خطواتنا الأولى أو إنجازاتنا المتواضعة؟
بهذا الفهم العميق، يتحول الفعل الصغير إلى نقطة ضوء في مسار طويل من البناء. فذرة الخير ليست مجرد وحدة قياس أخلاقية، بل هي بنية وجودية في قانون التغيير: ما دمت تتحرك في اتجاه الخير، فكل ذرة من جهدك تساهم في تشكيل مصيرك، وكل لحظة صدق تفتح بابا لنتائج أكبر. هكذا يُحدد القرآن الكريم السلوك الإنساني: تراكم، استمرار، وتحفيز من الداخل.
وفي قراءة فطرية للواقع المغربي، يمكن القول إن كل مبادرة ناجحة، مهما بدت صغيرة، هي جزء من هذا السلوك الذري الإيجابي الذي يهيئ لتغيير أكبر. نجاح لاعب، أو مهندس، أو معلم، أو فلاح، ليس حدثًا معزولًا، بل ذرة خير في البنية الوطنية تُلهم غيره وتدفعه إلى المحاولة. وكل ذرة من هذا النوع تُقربنا من لحظة التراكم التي يصير فيها النجاح الفردي مشروعا جماعيا للنهضة.
فالإيمان بالنجاح الصغير لا يعني القناعة بالقليل، بل الوعي بأن الكبير لا يولد إلا من رحم الصغير، وأن من يحتقر الذرة يفقد الطريق إلى الجبل. هذه القاعدة هي التي تحمي الأوطان من اليأس، وتمنح الأفراد قوة الصبر على البناء، لأنها تجعلهم يرون القيمة في كل خطوة، والمعنى في كل جهد، والممكن في كل صعب.
خاتمة
لقد أظهر الإنجاز الكروي المغربي أن التميز ليس حدثا استثنائيا، بل حالة وعي يمكن أن تتحول إلى منهج حياة متى آمن الإنسان بقدرته على التغيير. فالمغاربة حين اجتمعوا حول منتخبهم، لم يحتفلوا بفوز في مباراة فحسب، بل اكتشفوا في أنفسهم طاقة نفسية هائلة كانت تنتظر لحظة الثقة والانطلاق. تلك اللحظة يجب ألا تبقى في حدود الفخر العاطفي، بل أن تتحول إلى وعي تنموي شامل، يجعل من كل مجال ساحة للتميز، ومن كل مهنة ميدانا للنهضة.
إن نقل النجاح من الرياضة إلى ميادين العلم والاقتصاد والمجتمع لا يحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، بل إلى استثمار المنهج الذي أثبت نجاحه في الميدان الكروي: وضوح الرؤية، وانضباط الإدارة، وثقافة الجدارة، والإيمان بالعمل الجماعي. ولكن قبل كل ذلك، يحتاج إلى بنية نفسية متماسكة، تؤمن بأن الممكن ممكن، وأن الصعب مهما طال طريقه يبقى في متناول من يملك الصبر والعزيمة.
وهكذا يصبح الفوز الحقيقي ليس ما نحققه في الملعب، بل ما ننجزه في المختبر، وما نبنيه في المدرسة، وما نخلقه من قيم في المجتمع. فكما رفعت الكرة المغربية راية الوطن عاليا، يمكن لكل مغربي أن يرفع رايته الخاصة بإتقان عمله، وإخلاص نيته، وإيمانه بأن النهضة مسؤولية مشتركة تبدأ من الذات.
حين تتحول الثقة بالنفس إلى ثقافة، والحافزية إلى سلوك، والإيمان بالنجاح الصغير إلى فلسفة في الحياة، سنكون قد انتقلنا فعلا من فخر الكرة إلى وعي التنمية، ومن الانتصار في الميدان إلى التميز في الوجدان والحضارة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
17°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة