اليسار: موت الفكرة وبقاء الزعيم

اليسار: موت الفكرة وبقاء الزعيم
هوية بريس – عبد الإله الرضواني
رحم الله والدي، كان من المواضبين على قراءة جريدة المحرر وبعدها الاتحاد الاشتراكي، الجرائد التي كانت تعبّر عن الخط السياسي والفكري لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومن المتابعين بشغف لكل ما يصدر عن رموزه ومناضليه. كنت أراه كل يوم بعد الرجوع من دوام الصباح يقلب الصفحات كما لو كان يتصفح ضميره، يقرأها بعين المواطن الحر الذي يؤمن أن الكلمة موقف، وأن الصحافة يمكن أن تكون سلاحًا للنضال لا بوقًا للسلطة.
كبرت وأنا أراه على تلك الحال، فكبر فيّ حب القراءة، وتشبعت بروح النقد والبحث عن المعنى. ومن هناك بدأت علاقتي بجريدة الاتحاد الاشتراكي وبأعمال رموز الاتحاد الاشتراكي الذين كنت أراهم يومًا رموزًا للنضال والجرأة والالتزام. في تلك الحقبة كان جزء كبير من الشعب المغربي يتعاطف مع اليسار، وخاصة حزب الاتحاد الاشتراكي، لأن رواده كانوا يعبرون عن هموم المواطن ويدافعون عنه بكل قوة تحت قبة البرلمان وفي النقابات والشارع…
لكن ما آل إليه الحزب اليوم يجعلني أتساءل بحسرة: أين ذهبت تلك الروح؟ أين اختفى ذلك الوهج الذي جعل من الاتحاد الاشتراكي مدرسة للنضال والفكر؟
لم يكن انتخاب إدريس لشكر أمينًا عامًا لحزب الاتحاد الاشتراكي لولاية رابعة مجرد حدث حزبي عابر، بل كان مشهدًا رمزيًا لانهيار الفكرة اليسارية في المغرب، وإعلانًا رسميًا عن نهاية مرحلةٍ كان فيها الفكر والنضال يشكلان جوهر العمل السياسي.
الاتحاد الاشتراكي لم يكن حزبًا عاديًا. لقد كان ضميرًا سياسيًا وفكريًا للمغاربة في لحظة من التاريخ، حزبًا خرج من رحم المعاناة، حمل راية العدالة الاجتماعية، ودافع عن حرية الكلمة والفكر، وضمّ أسماء لامعة في الفكر والسياسة والنقد الاجتماعي، رجالًا ناضلوا بشرف، ودفع بعضهم الثمن سجنًا، وتشريدًا، ونفيا، وإقصاءً.
لكنّ ما تبقّى من هذا الإرث العظيم اليوم لا يتجاوز صورة باهتة لحزبٍ فقد هويته، وتحوّل من حاملٍ للمشروع الوطني الديمقراطي إلى آلة انتخابية باهتة تُدار بمنطق الزعامة الأبدية.
إعادة انتخاب إدريس لشكر لولاية رابعة، وهو الذي قال في حوار سابق له مع قناة م24 في 2022 أنه لن يترشح لمنصب الكاتب الأول للحزب مجددا لأنه يفكر في الخروج معززا مكرما، بعد المجهود الكبير الذي قام به لحماية الحزب، ليست مجرّد ممارسة تنظيمية داخلية، بل هي فضيحة سياسية وفكرية. فهي تكشف عمق الأزمة التي يعيشها هذا الحزب واليسار بصفة عامة: أزمة في الفكرة، وفي الأخلاق، وفي الجرأة على التجديد. لقد تحوّل الحزب الذي كان منبرًا للنقد والمساءلة إلى فضاء للتصفيق والولاء، وصار المناضلون الحقيقيون يُقصون ويُهمّشون، بينما يُكافأ المطبّلون والمتسلقون.
أليست هذه هي الطريقة المثلى لصناعة الأصنام؟ نصنعها حين نُفرغ السياسة من معناها، ونحوّلها إلى سباق على المناصب. نصنعها حين نُقدّس الأشخاص ونُطفئ عقولنا. نصنعها حين نمنح الشرعية للجمود، ونصفّق للرداءة باسم الاستقرار التنظيمي.
لقد تحوّل حزب الإتحاد الاشتراكي من حركة فكرية تنويرية تدافع عن العدالة الاجتماعية إلى نخبة منزوعة الروح، تلهث وراء التموقع داخل المشهد السياسي. لم يعد هناك يسار بالمعنى الأخلاقي أو الإيديولوجي، بل مجرد واجهة تاريخية تُستعمل لتبرير وجود حزبي باهت يتخلى عن كل مبادئه من أجل المشاركة في الحكومة. ولى زمن المناضلين اليساريين الذين كانوا يرفضون المشاركة في الحكومة دون توفر الشروط الديموقراطية.
اليسار الذي كان صوت المقهورين صار اليوم صوت المكاتب المكيفة. اليسار الذي كان يواجه السلطة صار جزءًا منها. والاتحاد الاشتراكي الذي كان مدرسة للنقد صار مدرسة في التبرير والتطبيل.
المؤلم في المشهد ليس فقط استمرار نفس الزعامة، بل السكوت المريب للمناضلين القدامى والمثقفين الذين يعرفون حجم الانحدار. إنهم يرون الحزب يغرق في وحل الشعبوية والانتهازية، ولا أحد يرفع صوته. هكذا يموت الفكر، لا بضربة واحدة، بل بآلاف الصمتات اليومية.
لقد كان الاتحاد الاشتراكي تجربة عظيمة، لكنه اليوم تجربة منتهية. فحين تتحول الفكرة إلى وسيلة، والمبدأ إلى شعار انتخابي، والزعيم إلى إلهٍ صغير داخل حزبه، فاعلم أن النهاية قد كُتبت منذ زمن.
اليسار المغربي انتهى يوم فقد بوصلته الفكرية، ويوم صمت عن الظلم الاجتماعي الذي كان سبب وجوده الأول، ويوم استبدل النضال بالمساومات والتسول من اجل المناصب.
هكذا نصنع الأصنام: بالصمت، وبالمديح، وبالخوف، وبالاعتقاد أن الوطن لا يقوم إلا على أكتاف الزعيم. لكن الحقيقة أن الأوطان تُبنى بالأفكار لا بالأشخاص، وبالجرأة لا بالتطبيل، وبالإيمان بالمبادئ لا بعدّ الولايات.
لقد انتهى اليسار المغربي فعلاً، لأنه خان فكرته الأصلية، واستبدلها بمقاعد في البرلمان وبصور في الجرائد. انتهى لأنه فضّل البقاء في المشهد على البقاء في التاريخ.
ويبقى السؤال المرّ: هل يمكن أن ينهض فكرٌ من رمادٍ صُنعت منه الأصنام؟



