لا عرب ولا أمازيغ… فقط مغاربة

26 أكتوبر 2025 20:53

لا عرب ولا أمازيغ… فقط مغاربة

هوية بريس – عبد الإله الرضواني

في زمنٍ تُنهك فيه الأوطان بأزماتها الاقتصادية والتعليمية والعلمية، وفي وقتٍ نحن أحوج فيه إلى التكاتف والنهضة، يظهر بيننا من يصرّ على نَبش قبور التاريخ ليبعث منها أوهام الأصل والنسب، ويحوّل الانتماء إلى معركة عبثية بين الأمازيغ والعرب، وكأننا لم نكن أبناء أرض واحدة ولا شركاء في مصير واحد لمدة مئات السنين. يخرج علينا من يزعم أن الأمازيغ هم الأصل وأن العرب غزاة ودخلاء، ومنهم من يسعى إلى إقناع الأجيال بأن هذه البلاد سُلبت منهم يوم دخلها الإسلام، وكأنهم يتحدثون عن احتلال لا عن رسالةٍ روحية جمعتنا ووحّدتنا منذ قرون. في المقابل يخرج علينا من يريد ان يقصي دور الامازيغ في تاريخ الامبراطورية المغربية العظيمة التي امتدت من غرب شمال إفريقيا إلى الأندلس، وجنوبًا إلى الصحراء الكبرى. من يعتقد ان هذا الامتداد كان بسبب حفنة من العرب الذين قدموا من المشرق فهو واهم. كما ان من يريد أن ينكر دور الإسلام، الذي أتى به العرب وتبناه الامازيغ، في هذا الامتداد فهو أيضا واهم.

الحقيقة التي يريد البعض طمسها هي أن الإسلام لم يُفرض على الأمازيغ بالسيف كما يروّج المتطرفون، بل تبناه الأمازيغ عن قناعةٍ وإيمان، لأنهم وجدوا فيه ما يوافق فطرتهم وقيمهم الأصيلة من عدلٍ، وشهامةٍ، وحريةٍ، ومروءة. أما العربية فلم تُفرض عليهم بقرارٍ سلطوي أو استعمارٍ لغوي، بل اختاروها عن وعيٍ وحكمة، لأنها، إضافة الى انها لغة القرآن، كانت في ذلك العصر لغة العلم والفكر والحضارة، تمامًا كما أصبحت الإنجليزية اليوم لغة العلم والمعرفة. لقد فهم الأمازيغ الأوائل، بذكائهم الحضاري، أن التقدم لا يتحقق بالعزلة اللغوية، بل بالانفتاح على اللغة السائدة في مراكز المعرفة. ولأن اللغة الأمازيغية لم تكن لغة مكتوبة أو علمية آنذاك، بل كانت لهجات شفهية متفرقة، فان الدولة المغربية المركزية منذ نشأتها في عهد المرابطين تبنت اللغة العربية رسميًا لكي تتمكن من التواصل مع الدول الأخرى. لم يكن في ذلك أي عدوان على الأمازيغية أو إنكار لوجودها، بل كان اختيارًا حضاريًا لبناء دولة موحدة بلسانٍ واحدٍ جامعٍ للناس، مثلما تتبنى اليوم الأمم الحديثة لغاتٍ مركزية لتوحيد شعوبها.

لقد أثبت التاريخ أن الأمازيغ لم يكونوا ضحايا التعريب أو الإسلام، بل كانوا روّادًا فيهما. فالعربية التي نعرفها اليوم ساهم الأمازيغ أنفسهم في تطويرها والدفاع عنها. من يجهل ذلك يجهل تاريخ المغرب والإسلام معًا. فقد أنجب الأمازيغ علماء كبارًا خدموا العربية والفقه والبلاغة والفكر الإسلامي أعظم خدمة.  هؤلاء العلماء رفعوا راية اللغة العربية والإسلام عاليًا، وكانوا أمازيغًا خُلّصًا في أصولهم، عربًا في ثقافتهم وانتمائهم الحضاري. هؤلاء لم يروا في العربية خطرًا على هويتهم، بل اعتبروها جسرًا نحو العالمية. لم يعيشوا عقدة الأصل، لأنهم كانوا منشغلين ببناء الفكر لا بتقسيم الهوية.

أما اليوم، فقد ظهر جيل من المتطرفين، ممن يختزلون الأمازيغية في كراهية العربية، ويحوّلون النضال الثقافي المشروع إلى معركة انتقامية ضد التاريخ. بلغ ببعضهم أن أنكر عروبة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بل إن منهم من يذهب إلى القول إن القرآن لم يُكتب بالعربية أصلًا! أي جنونٍ فكريّ هذا؟ وأي انحطاطٍ في مستوى الوعي؟ من يزعم هذا الكلام لا يدافع عن الهوية الأمازيغية، بل يضربها في مقتل من حيث لا يدري، لان جل الأمازيغ مسلمون محافظون ولن يقبلوا بأي حال من الأحوال ان يشكك أحد في دينهم باسم الدفاع عن الهوية الامازيغية. إنه خطاب لا يخدم إلا أعداء وحدة المغرب، لأنه يزرع الشك في الهوية الجامعة ويغذي العداء بين أبناء الوطن الواحد.

ومثلما ننتقد التطرف الأمازيغي، لا يمكننا السكوت عن التطرف العروبي الذي يختبئ خلف شعارات فارغة ويدنس تاريخ المغرب. كل من يحتقر الأمازيغ، ويسخر من لغتهم، وينكر دورها في تراثنا، هو متطرف يساهم في تمزيق وطنه. هؤلاء لا يرون في الهوية سوى ساحة صراع، وفي الوطن وسيلة للهيمنة باسم العرق أو اللغة. هل يعقل أن ينكر البعض أن الأمازيغ كانوا من قادة المقاومة في المغرب ضد الغزاة؟ هل يعقل أن يتجاهلوا أن الأمازيغ أسسوا حضارات وإمبراطوريات في شمال إفريقيا، وشاركوا في العبور الى الأندلس وتركوا بصمات خالدة؟ كل هذا يُمحى في نظر المتطرف العروبي، بينما يفاخر بنفسه بأصول ثقافية لم يساهم فيها إلا بالكلام الفارغ. الهوية ليست ملعبًا للغلبة ولا ساحةً للانتقام. العروبة ليست دمًا في العروق، بل ثقافة في العقول يمكن تبنيها دون محو الآخرين. والأمازيغية ليست مجرد نقش في متحف، بل روح حية تتنفس في جبال المغرب وسهوله. من يظن أنه يملك حق احتكار الوطن باسم الأصل أو اللغة، عليه أن يعرف أن التاريخ والحضارة لا تُحتكر، وأن المغرب ملك لمن يحترم مكوناته ويقدر كل لغاته وتراثه. كل محاولة لفرض الهيمنة باسم العروبة هي خيانة للذاكرة الوطنية وانتهاك للكرامة المغربية.

إن ما يحدث اليوم من إسفافٍ فكري هو أن بعض أشباه المفكرين استبدلوا الحجة بالمناداة بالعواطف، واستبدلوا البحث العلمي بغوغائية الشعارات. هم لا يقدمون دراسات محكمة ولا ابحاثًا تاريخيًة ولا توثيقًا علميًا، بل يحشدون الصور المؤلمة والعبارات الجارحة ويغذّون مشاعر الجماهير المضطربة كي يحصدوا ولاءها العاطفي المؤقت. إن مخاطبة العواطف هنا ليست وسيلة أقناع عقلاني، بل سلاح تدميري: تُشغل العاطفة العقل وتُغذّي الانقسام ثم تُترك المجتمعات كي تدخل في حلقة صراع لا طائل منها. من ينادي باسم الهوية وهو يغذي عقدة العداء ضد الآخر، فهو إن لم يكن خائنًا للوطن فهو على الأقل مغالٍ ومضلّل.

إن الهوية المغربية لم تُبنَ على نقاء الدم، بل على نقاء الفكرة، وعلى الانصهار الطبيعي بين الأمازيغية والعربية والإسلام في نسيجٍ واحد. لقد تزاوج الأمازيغ والعرب، وتعانقت ثقافاتهم، وتداخلت لهجاتهم، حتى صار التفريق بين العربي والأمازيغي في المغرب وهمًا لا وجود له إلا في عقول المتعصبين. فهل يعقل أن يأتي من يحاول اليوم تقسيم ما لم يفرّقه التاريخ في أكثر من ألف عام؟

إن أخطر ما يمكن أن نفعله بأنفسنا هو أن نحول المغرب إلى ساحة نزاعٍ لغوي وعرقي. فبينما تتسابق الأمم نحو التقدم العلمي والابتكار، ينشغل بعض أبنائنا بتصحيح أنساب وهمية، وكأننا في زمن القبائل لا في زمن الدول. من يريد أن يخدم الأمازيغية فليخدمها بالبحث العلمي الجاد، وبالعمل على تطويرها وتدوينها ونشرها في المدارس، لا بتحريض الشباب على كراهية العربية. ومن يريد أن يخدم العربية فليدافع عنها بالعلم والإبداع لا بالتعالي والعنصرية.

المغرب اليوم بحاجة إلى مشروع نهضوي وطني، لا إلى صراعات هوية. نحن في حاجة إلى عقلٍ يُبدع لا إلى لسانٍ يُهين. في حاجة إلى مدرسةٍ تُعلّم لا إلى منابر تُفرّق. في حاجة إلى جامعةٍ تُنتج المعرفة لا إلى جمعيات تُنتج الكراهية. الأوطان لا تبنى بالأنساب ولا بالأوهام، بل تُبنى بالعمل والعلم والعدل، وهذه الثلاث لا لغة لها إلا لغة المواطنة. انظروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية: خلال القرن العشرين جلبت علماء من كل الأعراق والأجناس، من أوروبا وآسيا وإفريقيا، وصنعت منهم أمةً موحدة تمكنت من السيطرة على الاقتصاد العالمي بفضل ذكائهم وتنوعهم لا بنقاء دمهم. فهل سأل أحدهم اليوم إن كان أصل جورج واشنطن والمئات من العلماء والمفكرين الأميركيين، الذين أبدعوا في كل المجالات، إنجليزيًا أم ألمانيًا أم إيرلنديًا أم مغربيا أم عربيا أم امازيغيا؟ بالطبع لا، لأن قيمة الإنسان تُقاس بما يقدمه لا بما يرثه.

فلْيسمعها الجميع: نحن مغاربة وفقط. لا أمازيغية تُقصي ولا عروبة تتعالى. لا ماضٍ يُستخدم لتقسيمنا، ولا حاضرٍ يُستغل لتفريقنا. لقد صهرنا التاريخ في بوتقة واحدة، فصرنا أمةً اسمها المغرب، لغةُ قلبها الأمازيغية، ولسانُ عقلها العربية، وروحُها الإسلام، ووجهتُها المستقبل. ومن أراد أن يقسّم هذا الكيان فليعلم أنه لا يضرب الهوية العربية ولا الأمازيغية، بل يضرب الامة المغربية نفسها، وهي وحدها الحقيقة الباقية التي لا تتبدل.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة