ميثاق التثبّت والعدل في القرارات الإدارية

ميثاق التثبّت والعدل في القرارات الإدارية
هوية بريس – ذ.نبيل العسال
أولا : نصيحة إلى أصحاب القرار في الشركات والمؤسسات
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (سورة الحجرات – الآية 6)
نزلت هذه الآية في حادثة عظيمة، تُعلّمنا مبدأً إداريًا وإنسانيًا عميقًا:
-أن القرار قبل التثبت ظلم، وأن الظن قبل التبيّن جور.
وفي واقع الشركات اليوم، نرى كثيرًا من الموظفين يتعرضون للظلم أو الفصل أو العقوبة بسبب وشاية أو تقرير كاذب أو كلام منقول بلا تحقق.
تنتشر الأقاويل بدافع الحسد أو المنافسة أو حب الظهور، فيُبنى القرار على رواية واحدة، ويُدان البريء بلا بينة، ويُكافأ الواشي على كذبه، ثم لا ينفع الندم بعد ذلك.
🔹 إلى أصحاب القرار:
تذكروا أن الله أمركم بالتثبت قبل الحكم، وأن العدل أساس كل نجاح.
فالتسرع في إصدار العقوبات أو الأحكام دون تحقيق هو خيانة للأمانة، وتدمير لروح الفريق، وظلمٌ يورث الندم.
🔹 فاحذروا أن تصيبوا قومًا بجهالة، فكم من موظفٍ بريء كُسرت نفسه بسبب تقرير لم يُتحقق منه،
وكم من مجتهدٍ ضاعت جهوده بسبب وشاية مغرضة.
– التثبّت قبل القرار ليس ضعفًا في الإدارة، بل هو قمة الحكمة والقيادة.
قال النبي ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم)
ثانيا: سبب نزول الآية
روى الإمام أحمد في مسنده ، وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم، عن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه – والد أم المؤمنين جويرية – قال:
قدمت على رسول الله ﷺ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت:
يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، ويرسل إلي رسول الله ﷺ رسولا في وقتٍ كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جاء الموعد الذي أراد رسول الله ﷺ أن يبعث إلي فيه، احتبس الرسول فلم يأتِ، فظن الحارث أنه قد حدث شيء من غضب الله ورسوله،
فدعا بسروات قومه وقال لهم:
“إن رسول الله ﷺ كان وقت لي وقتًا يرسل إلي رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سَخطةٍ كانت. فانطلقوا فنأتي رسول الله ﷺ.”
وبعث رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة،
فلما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق (أي خاف)، فرجع إلى النبي ﷺ وقال:
“يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي”.
فغضب النبي ﷺ وهمّ أن يبعث إليه بعثًا،
وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث، لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث.
فقال لهم: إلى من بعثكم؟ قالوا: إليك.
قال: ولم؟
قالوا: إن رسول الله ﷺ بعث الوليد إليك فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله.
فقال الحارث: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته ولا أتاني.
فلما قدم الحارث على رسول الله ﷺ قال:
“يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما رأيت الوليد ولا أتاني، وما أبطأ عليّ إلا خشية أن تكون سخطة من الله ورسوله”.
فأنزل الله تعالى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (سورة الحجرات – الآية 6)
ثالثا: أسباب نقل الأخبار في بيئات العمل
إنّ من أخطر ما يُضعف الثقة داخل المؤسسات وينشر الفتن بين العاملين هو نقل الأخبار دون تثبّت أو نية صالحة.
وهذه الظاهرة لا تنشأ من فراغ، بل لها أسباب نفسية وأخلاقية وإدارية متداخلة، من أبرزها:
1️⃣ الغيبة والنميمة
كثيرٌ ممن ينقلون الأخبار لا يقصدون النصح، وإنما يقعون في الغيبة بذكر زملائهم بما يكرهون،
أو يقعون في النميمة بنقل الكلام بين الأطراف لإثارة الفتنة.
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضًا﴾ (الحجرات: 12)
وقال ﷺ: «لا يدخل الجنة نمّام» (رواه البخاري)
2️⃣ الحسد والبغضاء
من حسدَ غيره على منصبٍ أو نجاحٍ أو ثقةٍ من الإدارة، قد يدفعه الحسد إلى تشويه سمعته أو نقل الأخبار عنه ليزاحمه أو يسقطه.
قال ﷺ: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.» (رواه أبو داود).
3️⃣ حب المناصب والترقي الوظيفي :
بعض الموظفين ينقل الأخبار ليتقرب إلى الرئيس أو ليُظهر نفسه أكثر حرصًا وإخلاصًا من غيره،
فيُشيع ما يسمع، ظنًا أن ذلك يقوّي مكانته.
وهذا من أخطر أبواب النفاق الإداري .
4️⃣ حب المال والمصالح الشخصية :
قد يكون الدافع هو الطمع في مكافأة أو ترقية،
فيبيع المرء أمانته ليكسب رضا المسؤول، ولو على حساب ظلم غيره.
قال الله تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 20)
5️⃣ الفراغ وضعف الانشغال بالعمل
عندما يضعف الانشغال بالمهام النافعة ويغيب الجدّ في الأداء،
يتحوّل اللسان إلى أداة فراغ؛ فينشغل البعض بالحديث عن الآخرين بدلًا من الإنجاز والإبداع.
العمل الجادّ هو أنفع علاجٍ للنميمة والوشايات.
6️⃣ ضعف الإيمان وغياب الخوف من الله :
من نسي أن الله مطّلع على ما يقول وما ينقل،
يستهين بالكلمة ويظنها هينة، وهي عند الله عظيمة.
قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور: 15)
7️⃣ البيئة الإدارية غير العادلة
إذا كان المسؤول يستمع إلى الوشايات دون تحقق أو يكافئ من ينقل الكلام،
فإنه – من حيث لا يشعر – يُشجّع على نقل الأخبار الكاذبة.
ولذلك وجّهنا الله تعالى بقوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ (الحجرات: 6)
خلاصة القول نقل الأخبار في بيئة العمل ليس دليل حرصٍ ولا ولاء،
بل قد يكون بابًا من أبواب الظلم والفساد إذا لم يُضبط بالتقوى والأمانة.
قال رسول الله : «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم)
البيئة العادلة تُغلق باب النميمة، وتفتح باب الصراحة والثقة
رابعا : الخوف من الله واجتناب الظلم
أعظم ما يُصلح القلوب ويقيم العدل في القرارات هو الخوف من الله عز وجل.
فمن خاف الله في قراراته وأقواله، عدل وأنصف، وحفظ الله له سمعته ومقامه.
ومن نسي أن الله مطّلع على السرائر، تجرأ على الناس وظلمهم بغير حق. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)
وقال النبي ﷺ: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (رواه مسلم)
وما من مسؤولٍ أو مديرٍ إلا وسيُسأل يوم القيامة عن رعيته وقراراته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه).
فالعدل لا يُطلب فقط من القضاة، بل من كل من بيده قرار أو سلطة أو إدارة.
والمؤمن الصادق يخاف من دعوة المظلوم، لأنها لا تُرد، كما قال ﷺ: «اتقِ دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» (رواه البخاري)
فليكن أول ما يُستحضر قبل أي قرار:
هل هذا يُرضي الله؟ هل في هذا ظلم لأحد؟
فمن جعل مخافة الله رقيبًا عليه، كان عدله سببًا في بركة عمله وحسن ذكره.
خامسا: الخطوات العملية للتثبّت قبل اتخاذ القرار
1. الاستماع إلى جميع الأطراف.
2. التأنّي وعدم التسرع.
3. الحذر من تضارب المصالح.
4. الاستعانة بأهل الخبرة.
5. الخوف من الله وتقواه في كل قرار.
6. الحذر من دعوة المظلوم.
7. نشر ثقافة الردع ضد الوشايات والمكائد
8. من تكلم في أحدٍ فعليه البينة والا فليواجه الشخص الذي تكلم فيه .
9. التكوين والتوعية بالقيم الأخلاقية الإسلامية
10. أن يكون القائد قدوة للموظفين فلا يظلم ولا يستعجل .
الخاتمة
التثبت من الأخبار، والعدل في القرارات، والخوف من الله، وردع الوشايات، والتوعية بالأخلاق الإسلامية، والقدوة الحسنة،
كلها مبادئ تجمع بين الإيمان والإدارة، وبين التقوى والحكمة.
من خاف الله لم يظلم، ومن عدل دام منصبه ، ومن تثبّت سلم من الندم.
﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾
لتبقى القرارات الإدارية ميزان عدل ورحمة، لا نار ندمٍ وخصومة.
“ميثاق التثبّت والعدل في القرارات الإدارية – رؤية إيمانية وإدارية لبناء العدالة المؤسسية”.



