تفكيك الروح المغربية: معركة بلا مدافع

12 نوفمبر 2025 21:10

تفكيك الروح المغربية: معركة بلا مدافع

هوية بريس – عبد الإله الرضواني

في المغرب اليوم، قد لا يكون الخطر الأعظم قادماً من خارج الحدود، بل ينبع من الداخل، من عملية بطيئة وخفية تُعيد تشكيل وعي المجتمع دون أن يشعر، ويمكن تعريفها باسم التدمير المعنوي (Démoralisation) ، والذي يعني تدمير الروح المعنوية والثقة والقيم تدريجيا. إنها ليست مؤامرة طارئة ولا حدثاً عابراً، بل مسار طويل يمتد على مدى خمسة عشر إلى عشرين عاماً، وهي المدة الكافية لتكوين جيل جديد، متصالح مع الضعف، ومنفصل عن قيمه الأصيلة، ومهيأ لتقبّل التبعية على أنها واقع طبيعي. ويبدو أن هذه العملية قد بدأت تتجذر بصمت في التربة المغربية، عبر بوابات التعليم، والثقافة، والإعلام، والدين.

لقد كان التعليم المغربي، في زمنٍ غير بعيد، أداة للنهوض الاجتماعي ورافعة للتنمية الوطنية، لكنه أصبح اليوم في كثير من جوانبه مجرد منظومة إدارية تفتقر إلى الروح. تُلقّن المدارس الطلاب معارف نظرية متقادمة، وتُغفل تنمية التفكير النقدي والمهارات العملية التي يحتاجها المجتمع المعاصر. يتخرج الآلاف كل عام دون أن يمتلكوا أدوات التحليل أو الإبداع أو المبادرة. يتعلمون الحفظ لا الفهم، والنظرية دون التطبيق، والخطابة دون قدرة على حل المشكلات. حتى الجامعات، التي كان يُفترض أن تكون فضاءً للبحث والابتكار، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مصانع لإنتاج خريجين بلا رؤية ولا قدرة على التكيف مع التحولات السريعة للعالم. السياسة والمحسوبية وضعف التمويل البحثي جعلت منها مؤسسات خاملة، فاقدة لروح الاكتشاف والتجديد. والمفارقة المؤلمة أن المغاربة الذين يهاجرون إلى بيئات علمية متقدمة يبرهنون على قدرات مذهلة في مجالات التكنولوجيا والطب والهندسة والبحث العلمي، مما يؤكد أن الخلل ليس في الإنسان المغربي، بل في البيئة التي تُخمد فيه شرارة التميز.

ولا يقف التدمير المعنوي عند حدود التعليم، بل يمتد إلى ما هو أعمق: القيم والدين والوجدان الجمعي. فقد تعرّض الدين، الذي كان عبر قرون قوة استقرار وتوازن، لعملية تمييع منظمة؛ أُضعفت مكانته تدريجياً عبر خطاب ساخر ومضلل يستهين بالمقدسات، ويستبدل العمق الروحي بثقافة اللهو والمظاهر. لم تعد التعاليم الأخلاقية تشكل مرجعية سلوك المجتمع، بل حلت محلها موجات من التفاهة والتقليد، تدفع الناس إلى الاستهلاك والانبهار بالمظاهر بدلاً من العمل والإنتاج. وهكذا، أصبح الإنسان المغربي محاطاً بإشارات متناقضة: يُقال له إن التقدم في الحداثة، لكن ما يُقدَّم له ليس إلا انقطاعاً عن الجذور وضياعاً للمعنى.

أما على الصعيد الثقافي والإعلامي، فقد غدت الساحة ساحةَ تسطيحٍ ممنهج. تُكافأ اللفظة الجارحة وتُهمَّش الفكرة الرصينة. يُحتفى بمن يُثير الجدل أكثر ممن يُقدّم المعرفة. تُستبدل الرموز الفكرية والفنية التي كانت تصنع الوعي الجمعي بنماذج تقوم على الصخب والابتذال. إن الإعلام، في كثير من حالاته، لم يعد وسيلة لتنوير المجتمع، بل أصبح أداة لترويضه على التفاهة، وإعادة تشكيل ذوقه بما يخدم الانصراف عن الأسئلة الكبرى. ومع هذا الانحراف في البوصلة الثقافية، يفقد الشباب النموذج الذي يحتذي به، ويتحوّل المجتمع إلى جمهورٍ يبحث عن التسلية أكثر مما يبحث عن الحقيقة.

وللتدمير المعنوي بعدٌ اقتصادي لا يقل خطورة. فحين تُهمّش المعرفة ويُقصى البحث العلمي من سلم الأولويات، تصبح الأمة مستهلكة لما يُنتج غيرها. المغرب اليوم يضطر إلى تصدير عشرات الشاحنات من الفواكه والخضر ليتمكن من شراء منتج تكنولوجي أو طائرة صغيرة. إنها معادلة مؤلمة تختزل هشاشة البنية الاقتصادية المعتمدة على المواد الخام، في مقابل غياب صناعة المعرفة. وبدون ثورة حقيقية في مجال البحث والتطوير، سيبقى المغرب تابعاً في اقتصادٍ عالمي لا يعترف إلا بالمنتجين والمبتكرين.

إن مقاومة هذا الانحدار لا تكون بالشعارات ولا بالعاطفة، بل بمشروع وطني شامل لإعادة بناء الإنسان المغربي على أسس متينة من العلم والخلق والانتماء. إصلاح التعليم ليس خياراً، بل ضرورة وجودية، عبر مناهج تدمج بين الكفاءة التقنية والتفكير النقدي والتربية على المواطنة. دعم البحث العلمي ينبغي أن يُصبح التزاماً استراتيجياً للدولة والمجتمع، لا ترفاً أكاديمياً يُذكر في المناسبات. يجب أن يُعاد الاعتبار للثقافة الجادة التي ترفع من مستوى الوعي، وتُقاوم ثقافة التفاهة السائدة. كما ينبغي استعادة العمق الديني والأخلاقي للمجتمع دون انغلاق أو تشدد، بل بروحٍ عقلانية تُنمي الضمير والمسؤولية والانتماء.

المغرب لا يفتقر إلى الذكاء ولا إلى الكفاءات؛ ما ينقصه هو الإيمان بالإنسان المغربي، وبأن رأس المال الحقيقي للأمم هو وعيها وقدرتها على إنتاج المعرفة لا استيرادها. فالتدمير المعنوي ليس قدراً محتوماً، بل حالة يمكن قلبها متى ما وُجدت الإرادة الصادقة لإحياء العقل والروح. إن الحصار الصامت قائم فعلاً، غير أن كسره يبدأ من الوعي به، ومن الإيمان بأن معركة المغرب الكبرى لا تُخاض بالسلاح، بل بالعقل المستنير والضمير الحي.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
20°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة