العز بن عبد السلام وابن تيمية علماء الأمس وعلماء اليوم.. مواجهة الاستبداد والاحتلال وصناعة الوعي

هوية بريس – عبد المولى المروري
تمرّ الأمة اليوم بمرحلة التباس غير مسبوقة؛ تختلط فيها الشعارات الدينية بالمشاريع السياسية، وتتنازع فيها مراكز القوة على الشرعية، ويتراجع فيها دور العلماء الحقيقيين أمام صعود خطاب ديني مروَّض، منزوع الفاعلية، لا يزعج سلطانًا ولا يوقظ وعيًا. وبينما تتضخم الأجهزة ويتراجع صوت المجتمع، يزداد الشعور بأن المعركة لم تعد بين الحق والباطل فقط، بل بين وعي ينهض وآخر يُراد له أن يبقى غائبًا.
وفي هذا الزمن المضطرب، يستعيد الوعي العربي والإسلامي نماذج تاريخية ظلّت حيّة رغم تعاقب الدول وتغيّر الأزمنة، لأنها لم تكن دروسًا في التاريخ فحسب، بل دروسًا في كيف ينهض عالمٌ في مواجهة الاستبداد، وكيف يتحوّل العلم إلى قوة اجتماعية لا يستطيع السلطان تطويعها.
إنّ عالِمًا من طراز العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية، لم يكن ينشئ خطابًا دينيًا للاستهلاك، بل كان يقوّم القصور الداخلي، ويفضح فساد الحكم، ويعيد للأمة ثقتها بنفسها، في وقت كانت فيه الأمة محاصَرة بين احتلال خارجي، وانهيار داخلي، وفقه رسمي يبارِك الواقع ولا ينتقده.
واليوم، ونحن نراقب تحوّل بعض العلماء إلى أدوات للسلطة بدل أن يكونوا ضميرها، نحتاج إلى استعادة تلك النماذج لا لنمجّد الماضي، بل لنفهم أين أخطأنا، وأين تتشكل القابلية للاستبداد، وكيف يُصنع “الخطاب الديني المطيع” الذي لم يعرفه العز ولا ابن تيمية في أشد لحظات الانهيار.
من هنا تنبع أهمية المقارنة بين هذين العالمين؛ ليس من باب التأريخ، بل من باب البحث عن وظيفة العالم في زمن الاضطراب، ومعنى الشجاعة العلمية حين يتراجع الناس، والشجاعة الأخلاقية حين يسكت أهل الفتوى، والشجاعة الفكرية حين يصبح الاحتلال الفكري أشد خطرًا من الاحتلال العسكري.
جاء الغزو المغولي على مرحلتين:
الأولى انتهت بسقوط بغداد سنة 656هـ، والثانية انتهت بهزيمة المغول في شقحب سنة 702هـ، وفي هاتين المرحلتين برز عالمان شكّلا نموذجين متكاملين لدور العالم في زمن الانهيار السياسي، رغم عدم التقاء زمنهما، وكليهما مثّلا النموذج التاريخي للعالم المُصلِح في مواجهة:
– انحراف السلطان،
– استبداد السلطة،
– انهيار القيم العامة،
– تهديدات خارجية (حملات صليبية – غزو مغولي)
وتقاطع مشروعهما في إعادة تعريف وظيفة العالم بوصفه حارسًا للحق والعدل، لا متحدثًا باسم السلطان.
فالعز بن عبد السلام جسد صوت الحق في مواجهة الاستبداد الداخلي قبل مواجهة العدو الخارجي، أما ابن تيمية فكان قائد الوعي الشعبي في مواجهة الاحتلال والانحراف العقائدي والسياسي. ومجموع الدورين يمثّل نموذجًا لفلسفة العمل الإصلاحي في أحلك اللحظات التي مرت على العالم الإسلامي خلال تلك الفترة المظلمة.
أولًا: دور العز بن عبد السلام (ت 660هـ) – في تأسيس شرعية المقاومة وإصلاح الداخل:
لقد عاصر العز بن عبد السلام نكبة سقوط بغداد (656هـ) ومعركة عين جالوت (658هـ)، وكان يقود من القاهرة ثورة أخلاقية وفقهية ضد الاستبداد الأيوبي والمملوكي تمهيدًا للمقاومة.
لقد عاش “سلطان العلماء” العز بن عبد السلام فترة التمزق بين الأيوبيين والمماليك، وشهد احتلال دمشق، وتهديد مصر بالحملات الصليبية، كما تميّز عصره بضعف الدولة وتصارع الأمراء وفساد البلاط.
لذلك نبه العالم الجليل إلى أن وظيفة العالم أكبر من مجرد إعطاء الفتوى الشخصية أو الأحكام الفقهية الفردية، بل العالم هو صاحب سلطة محاسِبة للسلطان، لا خاضعة له، فتحمل المسؤولية وأخذ المبادرة من أجل رد الاعتبار للعالم والجهاد في سبيل ذلك.
قال عنه ابن دقيق العيد “ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام منه”.
1. إصلاح الداخل مقدم على مواجهة الخارج:
رأى العز أن الأمة لا تستطيع مواجهة التتار وهي غارقة في فساد السلطة وتصارع الأمراء، فبدأ بإصلاح:
– السلطة،
– حماية المال العام،
– مواجهة شرعية الحكم،
– ثم استقلال العلماء عن السلطة والبلاط،
فكانت رسالته الأساسية: “لا جهاد بلا عدالة، ولا مقاومة بلا إصلاح”
2. تحريك الأمة ضد الفساد السلطاني:
أجبر الأمراء المماليك على أن يُباعوا في مزاد علني لأن شرعيتهم ناقصة، وألزم السلطان أن يبيع ممتلكاته قبل فرض أي ضريبة على الناس (هل يستطيع عالم أن يفتي بذلك اليوم!؟)، ووقف في وجه السلطة وحده، واعتبر أن السكوت عن الظلم خيانة للأمة والأمانة.. لذلك كان مبدأه المركزي: “لا يجوز للسلطان أن يفرض على الناس ما يمكن دفعه من بيت المال أو ممتلكاته الخاصة”… وبهذه الاجتهادات والمبادرات والقوة في قول الحق حوّل العالِم إلى سلطة أخلاقية فوق السلطان.. وبسبب مواقفه وشجاعته تلك نُفي أكثر من مرة.
3. تأطير معركة عين جالوت:
كان العز هو العالِم الذي أفتى بوجوب الجهاد في وقت كان لعلماء عصره رأي متخاذل، وأيّد تولية السلطان قطز رغم الاضطراب السياسي، وحرّض على وحدة المماليك والعامة.. وبذلك حوّل الهزيمة إلى فرصة للنهضة، وشكّل جهاده الفكري والعلمي المرجعية الشرعية الأولى لانتصار عين جالوت.
ثانيًا: دور ابن تيمية (661–728هـ) – حماية الوعي في مواجهة موجة الغزو الثانية:
وُلِد شيخ الإسلام ابن تيمية بعد سنة من وفاة العز بن عبد السلام، ولم يعاصر سقوط بغداد ولا انتصار المسلمين في عين جالوت، لكنه واجه الموجة الثانية من الغزو المغولي التي كانت أخطر لأنها جاءت بغطاء ديني وحضاري مزيف.
فقد عاش زمن الغزو المغولي، وسقوط بغداد، وتشرذم المشرق.. كما كان له احتكاك مباشر بالمماليك وبالصراع بين الأمراء، وشهد انهيار الثقة الاجتماعية وتمدّد النفوذ السياسي الفاسد، في مشهد مشابه تماما لواقعنا اليوم.
وظيفة العالم عند ابن تيمية تتجسد في اعتباره هو قائد التعبئة العامة للأمة، وعليه (العالِم) أن يواجه الظلم من الداخل والخارج معًا، وهذا يُعتبر – عند ابن تيمية – من صميم دور العالم وجوهر واجبه الشرعي.
قال عنه الذهبي: “كان من بحور العلم… ومن أعجب من رأيت في شجاعته وجرأته”.
1. حماية العقيدة من التلاعب السياسي:
رأى ابن تيمية أن المغول أخطر من السابقين لأنهم يدّعون الإسلام ويحكمون بقانون “الياسق” بدل الشريعة، ويجمعون بين الاستبداد السياسي والتحريف الديني.. فأعلن مبدأه الشهير: “من تحاكم إلى غير شريعة الله فهو ظالم، ومن أعان الظالم فهو مرتد”.. موقفٌ لم يجرؤ عليه كثير من علماء عصره، ولا في عصرنا هذا.
لذلك تصدى لجبروت المماليك والأمراء، وأنكر الظلم المالي والإداري، ووقف ضد تعذيب العامة، وواجه فساد النخب الدينية المتحالفة مع السلطة.. لذلك دخل السجن مرارًا بسبب مواقفه لا بسبب مذهبه.. وكان مبدأه المركزي هو: “السلطان إنما هو أجير عند الأمة، يرعى مصالحها لا مسلطا على رقابها”.
2. توحيد الأمة في مواجهة الغزو:
كان ابن تيمية قائدًا تعبويًا، ذهب إلى الجوامع، السجون (لتحرير الأسرى)، ساحات القتال ومجالس الأمراء.. وحمل رسالة واحدة مفادها “قوة الأمة من قوة وعيها، لا من قوة سلاحها وحده”، لذلك واجه التتار مواجهة فكرية وعسكرية في الوقت نفسه، وأصدر فتاوى هزّت العالم الإسلامي، كان أشهرها: “من أعان التتار فهو مرتد”.. فهل يمكن القول اليوم قياسا على ذلك: من أعان الصهاينة فهو مرتد؟ الجواب عند علماء عصرنا!!
3. دوره في معركة شقحب (702هـ):
هذه المعركة أنهت الوجود المغولي في الشام نهائيًا، وكان ابن تيمية حاضرًا في الميدان، محرضًا للجند، مطمئنًا للعامة ورابطًا بين الفقه والسياسة والمجتمع.. لقد أدى الدور نفسه الذي قام به العز قبل أربعين سنة، ولكن في سياق أصعب، حيث اختلط الدين بالسياسة، وارتدى الغزو ثوب “الإسلام”.
ثالثًا: تكامل الدورين – من تأسيس المقاومة إلى صناعة الوعي:
1. العز بن عبد السلام وإصلاح السلطة والحكم:
لقد ركز على:
– تنقية الحكم من الفساد،
– حماية المال العام،
– ضبط وتقنين شرعية السلطان،
– وإعادة العلماء إلى موقع القيادة،
فكان مشروعه يتمثل في “تحرير الداخل ليقاوم الخارج”
2. ابن تيمية وإصلاح المجتمع:
أما ابن تيمية فقد ركز على:
– تحرير الوعي من التضليل والتجهيل،
– مواجهة الانحرافات الفكرية،
– تعبئة الأمة،
– وتنظيم المقاومة الشعبية،
فكان مشروعه يتجسد في “تحرير الوعي ليحمي الدولة والمجتمع”
3. وحدة الرؤية رغم اختلاف الزمن:
كلا العالمين أدركا أن:
– سقوط الدولة ليس عسكريًا فقط، بل فكري وسياسي وأخلاقي،
– الاستبداد أخطر من الاحتلال،
– إصلاح المجتمع والسلطة شرط لنهضة الأمة،
– العلماء هم خط الدفاع الأول وقادة الإصلاح والتغيير،
رابعًا: في صناعة الوعي:
رسّخ العز بن عبد السلام فقه المصالح والمفاسد كأداة للسياسة الشرعية، وأرسى فكرة “الشرعية الأخلاقية” للسلطة، كما أكد على أن الأمة هي مصدر القوة، لا البلاط.
في حين عمّق ابن تيمية نظرية الإصلاح الاجتماعي عبر محاربة البدع التي تخدر الناس، ومواجهة الفقه السلطاني التبريري، وبناء “وعي المقاصد” في التعامل مع السلطة.. وكان من أوائل من شرح خطورة تحالف علماء البلاط مع السلطة الاستبدادية.
خامسا: المقارنة المنهجية في نقطتين:
1. منهج العز بن عبد السلام:
منهج ثوري/إصلاحي من فوق بالمفهوم المعاصر، فهو يرى أن على العالم أن يواجه السلطان مباشرة، والقانون الأخلاقي عنده مقدّم على السلطة، كما يرى أن الأمة لا تنهض إلا إذا ضُبطت السلطة أولًا.
2. منهج ابن تيمية:
منهج تعبوي/اجتماعي من الأسفل، وهو يرى أن الأولوية لإصلاح المجتمع، ومواجهة الانحراف الفكري، تقوية الأمة لتتمكن من مواجهة السلطان والعدو معًا، فهو يربط بين قوة الروح وقوة الدولة.. ويرى أن الفساد عندما يعم، يقلّ دور النص ويكثر دور الاجتهاد.
سادسا: نقاط الاتفاق بين العالمين:
فالعالمان متفقان على أن:
– العالم ليس موظفًا لدى السلطان،
– مقاومة الاستبداد واجب ديني،
– التحرر يبدأ بإصلاح الداخل،
– الأمة هي مصدر الشرعية،
– وأهم شيء، لا يجوز طاعة الظالم إذا كان ظلمه يؤذي المجتمع.
سابعا: نقاط الاختلاف بين العالمين:
ليست بالضرورة نقط اختلاف بقدر ما هي نقط متمايزة تتكامل فيما بينها، إلا أن اختلاف الظروف السياسية والسياقات التاريخية والإكراهات الواقعية المرتبطة بتلك الفترة أظهرت هذا التكامل على أنه اختلاف بين العالمين..
فالعز بن عبد السلام فضل أسلوب المواجهة المباشر مع السلطان، في حين اختار ابن تيمية المواجهة الفكرية والاجتماعية والسياسية..
واعتبر العز أن المجال الرئيسي الذي يجب أن يركز عليه الإصلاح هو المجال السياسي، في حين ارتأى ابن تيمية أن الإصلاح الفكري والاجتماعي هو ما يجب التركيز عليه..
واعتبر العز بن عبد السلام أن العدو الأول هو السلطان الظالم، في حين اعتبر ابن تيمية أن العدول الأول هو الغزو الخارجي إلى جانب السلطة المنحرفة..
وأخيرًا كان يرى العز أن الخطر المركزي هو ظلم الحاكم، وابن تيمية كان يرى ذلك في انحراف الوعي الشعبي.. وكل أسلوب يتناسب مع ظروف وواقع تلك المرحلة..
في زمن تكررت فيه الهزائم، مثل زماننا هذا، كان العز بن عبد السلام وابن تيمية نموذجين لعلماء لا يبيعون الفتوى، ولا يتحولون إلى موظفين في بلاط السلطان، ولا يساومون على مصالح الأمة، ولا يبرّرون الفساد الداخلي أو الاحتلال الخارجي.. وكانا يمثلان نموذجين متكاملين لدور العالم في زمن الانهيار السياسي.
فالأول واجه السلطة بجرأة أخلاقية استثنائية مع التعبئة الشعبية لمحاربة المغول، والثاني واجه الاحتلال والغزو الفكري بروح قيادية وعلمية.
وبين وفاة الأول وولادة الثاني التي امتدت سنة واحدة، انتقلت شعلة المقاومة من عالم الإصلاح السياسي (العز) إلى عالم إصلاح الوعي الشعبي (ابن تيمية)، وهذه ليست صدفة تاريخية، بل درسٌ في أن الأمة لا تنهض إلا إذا تكاملت السلطة الأخلاقية مع الوعي الشعبي من خلال مشاركة العالم الفعلية وتأطيره وجهاده.
وفي زمننا الراهن، حيث تتجدد أنماط الاستبداد وتتداخل مع شبكات المصالح الداخلية والخارجية، تصبح قراءة هذين النموذجين مدخلًا لفهم ما يلي:
لماذا يتراجع دور العلماء اليوم؟
كيف تتحول النخبة الدينية إلى أداة من أدوات السلطة والحكم؟
وكيف تتشكل “القابلية للاستبداد الديني والسياسي” داخل المجتمع؟ وكيف يساهم العالم الخانع في ذلك؟



