دحمان يكتب: التطبيع الثقافي ومخاطر التحولات القيمية

هوية بريس-ذ.عبد الإله دحمان
التطبيع الثقافي ومخاطر التحولات القيمية
تقديم :
يشكل التطبيع الثقافي أحد أخطر أشكال التطبيع، بالنظر إلى طبيعته الرمزية واشتغاله على الوعي الجمعي للأمم ومسخه للامن الفكري لها ، فالثقافة ليست مجرد ممارسات فنية أو تعبيرية عابرة وطارئة على جدار ابعقل الجمعي للأمم والدول ، بل هي بنية قيمية تراكمية لتعاقب الاجيال ، ونسق دلالي يسهم في ضبط محددات الهوية وتمفصلات أسس الانتماء. وفي السياق المغربي والعربي، يكتسي هذا النوع من التطبيع حساسية استراتيجية خاصة، لأن القضية الفلسطينية ظلت جزءا مركزيا من الوجدان الجماعي، وعنصرا تأسيسيا في الهوية السياسية والثقافية للمنطقة من عقود امتزج فيها البعد الديني والثقافي والفكري والسياسي وغيرها من الابعاد الأخرى .ورغم أن التطبيع السياسي والاقتصادي يحظى عادة باهتمام بالغ وأوسع، فان التطبيع الثقافي يشمل القوة الناعمة ، فهو يشتغل عبر أدوات “ناعمة” زئبقية ، يصعب رصدها والتحكم في سريانها ، وهو دينامية صامتة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي بما يخدم شرعنة الاحتلال الصهيوني ومسخ الذاكرة وإعادة إنتاج سردية الاحتلال التاريخية.
لذا يكتسي هذا المقال اهميته من خلال محاولة الحفر في كيفية اسهام التطبيع الثقافي في إعادة تشكيل وصياغة الوعي المغربي والعربي تجاه القضية الفلسطينية ومن ثمة اتجاه العدو الصهيوني ؟
والكشف كذلك عن الانفاق والأقنية التي يتسرب عبرها هذا النوع من التطبيع؟
ثم ضبط المخاطر المترتبة عليه على مستوى الهوية الثقافية والذاكرة الجماعية؟
ونسعى كذلك إلى تحديد بعض آليات المواجهة الممكنة في ظل التحولات الإقليمية الراهنة؟
فخطورة التطبيع الثقافي تكمن في كونه يمثل آلية استراتيجية تستهدف الهوية والذاكرة أكثر مما تستهدف السياسات المباشرة أي الاشتغال على البنى الذهنية للأجيال واحترامها بسرديات مخاتلة . خصوصا وأن التطبيع الثقافي في المغرب والعالم العربي يتخذ مسارات متعددة تتراوح بين الفن والتعليم والبحث العلمي والإعلام وغيرها من القطاعات الحيوية والاستراتيجية والتي لها علاقة بالعقل الجمعي للأمم . ومما يزيد من تحديات هذا النوع من التطبيع هو غياب سياسة ثقافية حمائية ، واضحة المعالم تعصم قابلية الساحة الثقافية من الاختراق.
وهنا يمكن للمجتمع اليقظ ، عبر الفاعلين الثقافيين والشباب والجامعة، وديناميات المجتمع المدني بشكل عام ، إعاقة هذا المسار إذا توفرت شروط الوعي الكلي به والتنظيم الفعال .
وعموما يمكن تحليل ظاهرة استفحال التطبيع الثقافي من خلال استحضار ثلاثة مفاهيم مركزية:
1- القوة الناعمة (Soft Power)
بحيث ينظر ” جوزيف ناي” ، الى الثقافة باعتبارها إحدى أدوات التأثير غير المباشر، وتستعمل لصياغة إدراكات وقيم جديدة. فالكيان الصهيوني يوظف الفن والسينما والتعاون الأكاديمي لبناء صورة “طبيعية” وغير صدامية.
أي محاولة اخفاء صورة الدم والحرب والظلم والدمار وتعويضها بصورة الإنسانية.
2- الهيمنة الثقافية (Cultural Hegemony)
وهنا نستحضر المفهوم الذي طرحه” أنطونيو غرامشي” ، أي مفهوم الهيمنة باعتبارها ليست قمعا مباشرا، بل بناء هادئ لمنظومة رمزية تجعل المهيمن مقبولا في الوعي الجمعي. وهذا بالضبط ما يسعى إليه التطبيع الثقافي.
3- الاستعمار الرمزي (Symbolic Colonization)
كما طرحه ” بيير بورديو” ، حيث يتم فرض تمثلات جديدة، وتغيير معايير الفهم والذوق والتلقي.بل والتاسيس لمنطق جديد مفصول عن التراكم الجمعي ، وهو ما يظهر اجرائيا في محاولات الكيان إعادة كتابة سردية جديدة للقضية الفلسطينة.
هذه المفاهيم الثلاث تشكل مرجعيات تساعد في فهم عمق مشروع التطبيع الثقافي وتفسير حجم خطر اشتغاله بأدوات ناعمة متعددة.
وقد يتساءل البعض عن قنوات التطبيع الثقافي في المغرب والعرب ومجالات انتشاره ، في هذا الاتجاه يمكن الحديث عن مداخلة يجب الانتباه اليها :
1- الفنون سواء عبر السينما، الموسيقى، المسرح ، أو ملتقيات الفنون التشكيلية والحرف التقليدية وغيرها ، وذلك من خلال استضافة فنانين مطبعين في مهرجانات دولية.
او الانخراط في إنتاج أعمال سينمائية تعتمد سردية تقوم على “التعايش الثقافي” وتغفل عن جوهر الصراع ، تحت غطاء التعاون الفني الذي يقدم بشعارات خادعة من قبيل “الإبداع المشترك”.
2- اختراق مختبرات الجامعات والبحث العلمي
وعقد شراكات أكاديمية وتمويلات بحثية مشتركة.
من خلال عقد مؤتمرات علمية تستقبل باحثين يحملون خطابا تطبيعيا ويسوفون للتقارب مع الاحتلال . وكذلك من خلال التأثير على مناهج العلوم الاجتماعية لتقليل مركزية القضية الفلسطينية في المخيال الشعبي والجماعي للشعوب العربية .
3- تطويع الإعلام ومنصات التواصل
الاجتماعي ، بسرديات ومحتويات تقدم نموذج “السلام الواقعي” كخيار حتمي في إطار الترويج لاختلال موازين القوة والواقعية السياسية ومنظومة مصالح الدول . وتستغل في ذلك القيام بحملات رقمية منظمة تستهدف الشباب بخطاب عاطفي أو ساخر يهدف لتطبيع الوعي. وتوظيف مؤثرين وفنانين لنقل رسائل مبطنة.
4- تغيير منظومات التعليم وووضع مناهج تربوية تبعد القضية الفلسطينية عن وجدان الناشئة ، والعمل كذلك على تراجع حضور القضية الفلسطينية في بعض المنظومات التربوية العربية ، وتقديم سردية للصراع بلغة محايدة تمحو الاستعمار والاحتلال من خلال إدراج مفاهيم “التعايش” دون سياق تاريخي أو حقوقي.
5- استغلال ما يسمى الاقتصاد الإبداعي من خلال تمويل
ودعم مشاريع ثقافية بالمال الخارجي لفرض شروط على المضمون. وفتح المجال أمام التطبيع عبر التعاونيات الثقافية الى جانب الأنشطة الاقتصادية.
وعند فحص العائد من هذا التمدد للتطبيع القافي يمكن حصر المخاطر الاستراتيجية للتطبيع الثقافي في جملة من المظاهر ، يمكن رصدها فيما يلي :
1- إعادة تشكيل الوعي الجمعي
لان التطبيع الثقافي يستهدف خلق جيل جديد غير مرتبط وجدانيا بفلسطين، ويرى الاحتلال بمنظار غريب ومحايد أي ك”واقع طبيعي”.
2- تزييف التاريخ وإضعاف الذاكرة الوطنية
عبر الإنتاج السينمائي والمصادر الأكاديمية ، أي توظيف سلطة المعرفة لتمرير سرديات جديدة تشوه سياق النكبة والاحتلال.
3- ضرب الهوية الثقافية ، فمثلا في المغرب هناك سعي حثيث لضرب الهوية المغربية الاي بنيت على قيم التحرر ونصرة القضايا العادلة. بحيث يعمل التطبيع الثقافي على خلق تناقض جوهري في النسق القيمي.
4- خلق فجوة بين الدولة والمجتمع ، وذلك عندما يرفض المجتمع التطبيع فنيا وثقافيا بينما تظهر مبادرات رسمية في اتجاهات أخرى، تتوسع الفجوة السياسية والاجتماعية في البلد الواحد .
5- شرعنة الاحتلال عبر الأدوات الناعمة ، بدل أن يكون الاحتلال حالة استثنائية، يتحول إلى شريك ثقافي، مما يمنحه شرعية رمزية خطيرة.
واذا ما اردنا مقاربة الحالة المغربية في خصوصيتها وسياقها يمكن القول إن المغرب ينماز بثلاثة معطيات تؤثر على فهم التطبيع الثقافي:
1- مركزية فلسطين في الوجدان المغربي ، وهو ما تؤكد دينامية المجتمع المغربي منذ عقود ، بحيث الحركة الوطنية منذ بدايات القرن 20 اعتبرت فلسطين امتدادا للنضال ضد الاستعمار.
2- رئاسة المغرب للجنة القدس
تشكل التزاما تاريخيا وسياسيا وثقافيا، ما يجعل أي تطبيع ثقافي متناقضا مع هذا الدور.
3- قوة المجتمع المدني المغربي
من خلال المنظمات الثقافية والشبابية والطلابية التي تشكل حاجزا أمام محاولات التطبيع، وهي التي تقود حملات المقاطعة والاحتجاج والتوعية.
وامام خطورة وتحديات التطبيع الثقافي ، لابد من تطوير اليات للمواجهة ، بحيث يمكن نهج مقاربات متعددة المستويات في هذا المسعى نركز على أهمها كالتالي :
1- على المستوى الرسمي
لابد من وضع قانون واضح يجرم الأنشطة التطبيعية الثقافية والفنية. والعمل على دعم الإنتاج الوطني المرتبط بالقضايا العادلة.
وهو ما يمكن اعتباره حماية للمجال الأكاديمي من الاختراق المالي المشروط. كما يجب تعزيز حضور فلسطين في المناهج التعليمية والتربوية .
2- على المستوى المجتمعي
، يجب التفكير في بناء حركة ثقافية مضادة تعتمد على مقاومة الفن والبحث والإبداع وتقوم على تشجيع الطلبة على إنتاج معرفة نقدية حول الصراع العربي/الصهيوني ، دون اغفال تعزيز الإعلام البديل والمحتوى المقاوم.
3- المستوى الثقافي والفني
إنتاج سينما وموسيقى ملتزمة بالقضايا التحررية.
دعم مهرجانات تحترم الموقف الوطني وتدعم الوعي التاريخي.
تكريم الفنانين والكتاب المناهضين للتطبيع.
4-الانفتاح على المستوى الرقمي
من خلال صناعة محتوى جذاب للشباب يحمل خطابا نقديا يعمل على فضح حملات البروباغاندا المنظمة. كما يجب العمل على تكوين مؤثرين وفاعلين رقميين في الوعي السياسي والثقافي.
على سبيل الختم
التطبيع الثقافي ليس حدثا طارئا ، بل هو مسار طويل الأمد يسعى إلى إعادة بناء الوعي والذاكرة والهوية. ومواجهته تحتاج رؤية استراتيجية تجمع بين الدولة والمجتمع والنخب الفكرية والفنية.
لإن حماية الهوية الوطنية والذاكرة الجماعية، في المغرب والعالم العربي، لا يمكن أن تتم إلا عبر تمتين الثقافة المقاومة، وتعزيز قيم التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإنتاج معرفة نقدية تقطع مع كل أشكال الاستعمار الرمزي.



