ماذا تغيّر في قانون المسطرة الجنائية؟ .. قراءة هادئة يقدمها المصطفى الرميد

هوية بريس – متابعات
شارك الأستاذ المصطفى الرميد، المحامي ووزير العدل والحريات ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان سابقًا، في ندوة علمية نظمتها المحكمة الزجرية بالدار البيضاء بشراكة مع رئاسة النيابة العامة، خُصصت لتقديم وشرح القانون الجديد للمسطرة الجنائية المقرر دخوله حيز التنفيذ في 8 دجنبر الجاري.
وقد كانت مداخلته تحت عنوان: “مستجدات قانون المسطرة الجنائية على صعيد المرحلة الابتدائية”.
الندوة، التي عُقدت بحضور ثلة من القضاة والمحامين، جاءت في سياق دينامية تأهيل المنظومة الجنائية لمواكبة المستجدات الدستورية والحقوقية، وتوضيح التغييرات العميقة التي يحملها النص الجديد في مجال حماية الحقوق والحريات وتعزيز نجاعة العدالة.
مسار طويل من الإصلاح
الرميد استهل مداخلته باستحضار الحديث النبوي الشريف: «نضّر الله امرأً سمع حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، في إشارة إلى مسؤولية نقل المعرفة القانونية والحقوقية بأمانة إلى القضاة والمحامين وكل الفاعلين في منظومة العدالة.
وأكّد أن القانون الجديد هو حصيلة “جهود وطنية متراكمة” امتدت لسنوات، انطلقت منذ مناظرة مكناس سنة 2004، مرورًا بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2005، ثم دستور 2011، والحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة سنة 2013، إضافة إلى الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض.
وأوضح أن النسخة الأولى للمشروع أُعدّت داخل وزارة العدل من طرف أطر قضائية متخصصة، قبل أن تُحال على لجنة علمية ضمت قضاة من مختلف المستويات، ومحامين بارزين، وأساتذة جامعيين، وأطرًا من الأمن والدرك، اشتغلت لأشهر طويلة لصياغة مسودة 2015 التي شكّلت أساس المشروع الحالي، مع إدخال تعديلات “مفيدة في جوانب، وغير مستحسنة في أخرى” كما قال، خاصة في بعض المواد الخلافية.
قانون لصيق بالحقوق والحريات.. كان يستحق رقابة دستورية
وشدد الرميد على أن قانون المسطرة الجنائية “بطبيعته لصيق بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنين”، معبرًا عن رأيه بأن الأصل كان يقتضي عرض النص على المحكمة الدستورية للبت في بعض المقتضيات الملتبسة، لكنه اعتبر أن التخوف من إلغاء مقتضيات “أساسية وصلبة” جعل حق الإحالة لا يُمارَس.
ورغم ذلك، وصف النص الجديد بأنه “قانون مهم ومفيد”، مع إقراره بوجود مواد تثير نقاشًا حقوقيًا وقضائيًا، مؤكدًا أنه سيكتفي في مداخلته بالعرض والبيان لما يهم المرحلة الابتدائية، بدل الدخول في تقييم نقدي شامل.
تعزيز حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة
في محور أول، توقّف الرميد عند جملة من المقتضيات التي اعتبرها تعزّز حقوق الدفاع عبر مختلف مراحل المسطرة:
-
إلزام وكيل الملك بإشعار المحامي، وعند الاقتضاء المشتكي أو الضحية، بالإجراءات المتخذة بشأن الشكايات داخل أجل محدد، مع فتح إمكانية التظلم من قرار الحفظ أمام الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف.
-
تمكين المحامي من حضور استنطاق المتهم أمام النيابة العامة، وطلب الفحص الطبي، وتقديم الوثائق، وطرح الأسئلة وإبداء الملاحظات بعد انتهاء الاستنطاق، وهو ما اعتبره تطورًا “حقوقيًا مسطريًا مهمًا”.
-
تكريس الحق في الصمت، مع النص صراحة على أن صمت المشتبه فيه لا يُعد اعترافًا ضمنيًا، والدعوة إلى تعميم هذا المقتضى قضائيًا على عموم الحالات ما دام القياس لصالح المتهم مقبولًا في المسطرة الجنائية.
-
توسيع إمكانيات الاستفادة من المساعدة القضائية وتعيين محامٍ منذ الساعة الأولى للوضع تحت الحراسة النظرية، دون الحاجة إلى إذن مسبق من النيابة العامة، مع ضوابط خاصة في قضايا الإرهاب وأمن الدولة.
واعتبر الرميد أن هذه المقتضيات، رغم ما يحيط ببعضها من نقائص وثغرات، تشكل تقدمًا واضحًا في تحصين حقوق الدفاع وتقوية ضمانات المحاكمة العادلة.
الحراسة النظرية: تدبير استثنائي بضوابط مشددة
في محور ثانٍ، توقف المتحدث عند تنظيم الحراسة النظرية، التي أعاد القانون الجديد التأكيد على طابعها الاستثنائي، مشترطًا اللجوء إليها لأسباب محددة، من بينها الحفاظ على الأدلة، ومنع الفرار، وحماية الشهود والضحايا، ومنع التواطؤ، ووضع حد للاضطراب الناجم عن الجريمة.
وأكد أن النص حمّل النيابة العامة مسؤولية التحقق من توفر هذه الأسباب، داعيًا وكلاء الملك والنيابات العامة إلى ممارسة رقابة يقِظة على قرارات الوضع تحت الحراسة النظرية “بحس قضائي وإنساني”، حتى لا تتحول من تدبير استثنائي إلى قاعدة.
كما تطرق إلى السجل الوطني والجهوي للحراسة النظرية وإمكانية الاطلاع عليه عن بعد من طرف رئاسة النيابة العامة والسلطات المختصة، معتبراً أن ذلك يشكل آلية رقابية مهمة لمنع التعسف في مدد الحرمان من الحرية.
الطب الشرعي ومحاربة التعذيب.. ضمانات إضافية للأمن الجسدي
استعرض الرميد المقتضيات المتعلقة بالفحص الطبي للمشتبه فيهم، موضحًا أن القانون ألزم الشرطة القضائية بإخضاع المعني للفحص إذا ظهرت عليه علامات تستدعي ذلك، مع إمكانية طلب الفحص من طرف المشتبه فيه أو دفاعه، وواجب استجابة وكيل الملك لهذا الطلب.
وربط المتحدث هذه المقتضيات بالتزام المغرب باتفاقية مناهضة التعذيب، مذكّرًا بأن النص الجديد اعتبر الاعتراف المدون في محضر الشرطة باطلًا إذا رُفض الفحص الطبي الذي طلبه المتهم أو دفاعه.
واعتبر أن النيابة العامة لا ينبغي أن تتردد في الأمر بالفحص، كما لا ينبغي للقضاء أن يتردد في ترتيب البطلان عند الإخلال بهذا الواجب، “صونًا للأمن الجسدي للناس ولسلامة المسطرة، وحفاظًا على السمعة الحقوقية للدولة”.
العدالة التصالحية وتخفيف الضغط على المحاكم
وفي محور تعزيز نجاعة العدالة، توقف الرميد عند توسيع مساطر الصلح في الجنح المعاقب عليها بعقوبات محددة، مشيرًا إلى أن ذلك سيسمح بحل عدد مهم من الملفات المرتبطة بالعنف والجرائم المالية من قبيل النصب وخيانة الأمانة والشيكات بدون رصيد، شريطة انخراط القضاة والمحامين بإيجابية.
وأوضح أن القانون أتاح للمحاكم توقيف الدعوى العمومية في حالة تنازل المشتكي، بل وفتح الباب أمام إيقاف تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في بعض الجنح إذا تحققت شروط الصلح وأُديت الغرامات والمصاريف، معتبرًا أن هذه المقتضيات تمثل تطورًا مهمًا في مجال العدالة التصالحية وتخفيف الاكتظاظ عن المحاكم والسجون.
رقمنة المسطرة واستعمال التقنيات عن بعد
وأشار الرميد إلى أن النص الجديد يتجه تدريجيًا نحو رقمنة العدالة، من خلال:
-
تسجيل ما يدور في الجلسات بالوسائل التقنية وتفريغها في محاضر لها نفس حجية المحاضر اليدوية.
-
السماح بتوقيع المحاضر والأحكام والقرارات بالتوقيع الإلكتروني أو الرقمي.
-
استعمال تقنيات الاتصال عن بعد في الاستماع إلى المتهمين والضحايا والشهود في حالات محددة وبموافقتهم، مما يفتح – بحسبه – آفاقًا واسعة أمام “المحكمة الرقمية” التي طال انتظارها.
آليات جديدة لمحاربة الجريمة وتعقب عائداتها
توقف وزير العدل السابق عند ما اعتبره “تقوية لأذرع الدولة في محاربة الجريمة”، من خلال تمكين النيابة العامة من:
-
طلب عقل العقارات المرتبطة بأفعال جرمية.
-
الأمر ببحوث مالية موازية لتتبع مصدر الأموال المشبوهة وحجزها.
-
إجراء خبرات بيولوجية وجينية، والولوج إلى الأنظمة المعلوماتية، وتحليل الآثار الرقمية لاستخراج الأدلة الإلكترونية.
-
اللجوء إلى التقاط المكالمات والاتصالات في الجرائم الخطيرة وفق ضوابط دقيقة.
-
استعمال آلية “الاختراق” تحت هوية مستعارة في بعض الجرائم المحددة قانونًا، لضبط الشبكات الإجرامية.
وفي المقابل، نبّه إلى بعض الثغرات الصياغية التي اعتبر أنها تحتاج إلى تدارك في المستقبل لضمان انسجام النص وتفادي التعارض بين مواده.
مستجدات أخرى: المال العام، الجمعيات، قضاء القرب، والأحداث
استعرض الرميد عددًا من النقاط الأخرى، من بينها:
-
تقييد تحريك المتابعات في قضايا الجرائم الماسة بالمال العام بإحالات صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات وهيئات محددة، مع استثناء حالة التلبس.
-
اشتراط إذن وزارة العدل لقبول انتصاب الجمعيات طرفًا مدنيًا في ملفات معينة.
-
تمكين النيابة العامة من إخبار الرأي العام بمستجدات بعض القضايا وفق ضوابط تحترم قرينة البراءة، وإحداث ناطقين رسميين باسم المحاكم مع تكوينهم إعلاميًا.
-
تعزيز مكانة قضاء القرب في المخالفات، وتقييد إيداع الأحداث بالسجن قبل سن 16 في الجنح.
-
ضبط تعريف “المعتقل احتياطياً” بما ينسجم مع المعايير الدولية، بما يُتوقع معه خفض نسبة الاعتقال الاحتياطي من مجموع الساكنة السجنية.
“الضمير المسؤول”.. المحك الحقيقي لنجاح الإصلاح
في ختام مداخلته، ذكّر المصطفى الرميد بالمقولة الملكية التي اعتبرها “ترنّ في أذن كل صاحب ضمير حي”، والتي جاء فيها:
«ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما أُعدّ له من نصوص تنظيمية وآليات فعالة، فسيظل الضمير المسؤول للفاعلين فيه هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل قوام نجاح هذا القطاع برمته».
وأضاف أن أي ترسانة قانونية، مهما بلغت من الدقة، لن تُثمر عدالة منصفة ما لم تُقرن بضمير مهني حيّ لدى القضاة وأعضاء النيابة العامة وضباط الشرطة القضائية والمحامين، داعيًا الجميع إلى استحضار هذه المسؤولية “دائمًا وأبدًا” خدمة للعدل وحقوق الناس.



