هل انتهى زمن الإسلاميين؟

هل انتهى زمن الإسلاميين؟
هوية بريس – بلال التليدي
ثمة أطاريح كثيرة تحدّثت عن فشل الإسلاميين، أو عن «ما بعد الإسلاميين»، فالباحثان الفرنسيان جيل كيبل وأوليفيه روا، خلُصا في أكثر من عمل إلى تكريس «فشل الإسلاميين»، بينما كتب الباحث الإيراني آصفي بيات، أعمالاً متعددة يجادل فيها على بروز جيل جديد متدين متجاوز للإسلاميين، يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان أكثر من القضايا الهوياتية، واعتبر أن الربيع العربي يمثل فاصلاً بين «الإسلاميين»، وبين «ما بعد الإسلاميين».
الوقائع التالية للربيع العربي، أثبتت تهافت هذه النظريات، وبقيت نظرية واحدة تراوح المكان تقول بتحولات الإسلاميين، وقدرتهم على الاندماج في النسق السياسي، ودورهم في التحول السياسي في الوطن العربي، إذ صمدت لأكثر من عقد من الزمن، وذلك منذ أن تم إطلاق مبادرة ترقية الديمقراطية بعيد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إلى لحظة خريف الديمقراطية (2013).
والواقع أن عالِم السياسة الأمريكي لاري دايماند، كان دقيقاً حين شكّ في إمكانية أن يشكل الربيع العربي موجة رابعة للانتقال الديمقراطي، ودفَع بفرضية أن تكون الانطلاقة لتحقيق هذا الانتقال خاطئة في مقالِه في الفورين أفيرز، ليتبيّن بعد ذلك نهاية مرحلة الإسلاميين في مربع الحكم، بين 2011 و 2021، لترتسم صورة عامة عن «خمود الإسلاميين»، وتراجع الاهتمام البحثي بمستقبلهم إلا في القليل النادر مما يتعلق بسياقات محدودة، لا يزال دورهم فيها ظاهراً كما في الحالة المغربية، التي كتب عنها مؤخراً الباحث البريطاني روري مكارثي والباحث المغربي سليم حمينات في مجلة الشرق الأوسط (MIDDLE EAST JOURNAL) يسائل قدرة العدالة والتنمية على إعادة بناء ذاته من جديد.
أما الحالة المصرية والتونسية، فلم تعد سيناريوهات «انبعاث الإسلاميين» أو عودتهم، تطرح في الدراسات الأكثر موضوعية في التعاطي معهم.
ثمة أكثر من تفسير لحالة الخمود هذه، فالتصور التقليدي الذي يحمله الإسلاميون أنفسهم عن هذه الحالة يعزو الأمر إلى المؤامرة الخارجية، وهيمنة موقف عدائي أمريكي إسرائيلي لوجود دور للإسلاميين في مسرح السياسة، ومن ثمة، فالحجة التي يتم الدفع بها للتبشير بعودة ممكنة للإسلاميين، هي تجربة الإخوان مع حكم جمال عبد الناصر والتي حققت أهداف إقصائهم بالمطلق من الوجود الثقافي والسياسي والاجتماعي، لتتم «الانبعاثة» من جديد مع عهد السادات، الذي استعمل الإسلاميين على ما يبدو ليُغيّر من تموقع مصر الاستراتيجي، ويتجه بها نحو المحور الأمريكي، وفي الآن ذاته ليفكك النفوذ السوفياتي في مصر (في بُعده الأمني والعسكري). كما أن تجربة تونس نفسها تؤكد انبعاث الإسلاميين من جديد زمن الربيع العربي، بعدما وُسِم عهدُ الجنرال بن علي باستئصال الإسلاميين، وتصفية حركة النهضة بالكامل.
ملخص هذه الحجة، أن أدوار الإسلاميين في السياسة، أو خُمودهم مرتبط أساساً بتحولات الوضع الدولي والإقليمي، وموقع الديمقراطية ضمن هذا الوضع، فحيثما كان التوجه الدولي داعماً للتحولات السياسية في الوطن العربي، يتبرر دور الإسلاميين وتوسُّع وزنهم السياسي، وحيثما قلّ الطلب على الديمقراطية، وحلّ محلّه دعم الأنظمة الاستبدادية، تراجع وضعهم وحلّ الخمود محل «الانبعاثة».
هذه الأطروحة هي ما يميز في الواقع، الزمن الدولي الراهن، فاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، تقول بأنها ليست معنية بفكرة الضغط على الدول من أجل الديمقراطية، وأنه بدلاً عن ذلك تدور مع المصلحة القومية الأمريكية حيث دارت، وأن الرهان الأكبر اليوم، هو على الشراكة المحكومة بمنطق تأمين «المعادن الثمينة»، وأنه في سبيل ذلك لا عبرة بهوية النظام السياسي، أكان ديمقراطياً أو شبه سلطوي أو استبدادياً، ما دامت واشنطن تكسب من العلاقة معه مصالح استراتيجية وازنة.
ثمة تكملة أخرى، لهذه الحجة، وضّحها من قبل أبراهام فولر، كبير باحثي معهد كارنيغي للسلام الدولي في بداية الألفية الثالثة، حين قال بأن المجتمع الغربي لا يهتم مُطلقاً بترقية الديمقراطية في أماكن الثروة، لأن من شأن ذلك أن يمكّن نخبة الحُكم من حجج قوية لتأمين الثروة وتحصينها، بما يتعارض بالمطلق مع المصلحة الغربية، ولذلك، لم تطلب واشنطن في يوم من الأيام، من دول النفط أن تتجه بخطوات جادة نحو الديمقراطية، واليوم، يعاد إنتاج نفس المنطق، فالحصول على المعادن الثمينة، لم يعد يقيّد الشراكة مع الدول بأي معيار ديمقراطي أو حقوقي، بما يجعل وضع الإسلاميين في السياقات العربية غير مشمول بأي سند دولي أو إقليمي، والحالة الوحيدة، التي تخرج عن الاستثناء، إن اعتبرنا إسقاط النظام في سوريا، إنجازاً «إسلامياً»، هي الحالة السورية، التي جاءت بسبب تقاطعات مصالح استراتيجية، دولية (المجتمع الغربي وإسرائيل)، وإقليمية (تركيا)، لمحاصرة النفوذ الإيراني، وقطع طهران عن محاورها الاستراتيجية وبخاصة حزب الله.
في حقيقة الأمر، لا يمكن المجادلة في وجاهة هذه الحجة، لكن لا ينبغي في المقابل أن تغطّي على حجج أخرى لها قوّتُها في تفسير هذا الوضع وتَوَقُّع واستشراف مستقبل الإسلاميين بعده. فثمة في الواقع عاملان اثنان، كان لهما تأثير كبير على وضع الإسلاميين، أولهما مآلات الربيع العربي، والتي جعلت من الطلب الجماهيري يتحول من عنوان الدمقرطة والكرامة وحقوق الإنسان إلى مجرد «طلب الاستقرار وتأمين لقمة الخبر»، فالوضعية الاقتصادية والاجتماعية في كل من مصر وتونس، والتعب والإرهاق الذي لحق المجتمَعين، غيّرَ المزاج العام بالمطلق، لجهة التفكير في مكاسب الوضع السابق للإسلاميين، وأن الطلب على الديمقراطية، لم يكن له من نتيجة سوى ضياع الاستقرار بكل مستوياته، إذ حمل الإسلاميون مسؤولية هذا الوضع، فاضطروا في تونس إلى التنازل كل مرة، حتى خرجوا من مربع الحكومة بشكل كامل، في حين افتعل النزول في مصر ضدهم، وفشل الإخوان في الرهان على الشارع لاستعادة الشرعية.
الحجة الثانية، والتي لا يريد الإسلاميون مواجهتها، تتعلق بذواتهم وخياراتهم وطبيعة رؤيتهم للمرحلة، فالبعض منهم لم يُعر الاهتمام لتوسيع جبهة تحالف قوى المجتمع الإصلاحية، ومضى في اتجاه ترسيم علاقات مع بعض مراكز الدولة، فانتهى به المطاف إلى أن يدفع الثمن، بخصومة القوى الإصلاحية وعملها ضدهم، والبعض الآخر، تبنّى رؤية «استثمار لحظة الحسم التاريخية» عبر التحكم في مراكز الدولة الحساسة، فانتهى به الأمر إلى الخروج إلى هامش مؤسسات الدولة.
ومع كل هذه المعطيات، فتقديري أنها قديمة تتعلق بلحظة التحول من ربيع الشعوب العربية إلى خريفها، مع تفاوت في زمن حصول ذلك في السياقات المختلفة، لكن الحجة الجديدة منها تتعلق بالذات التنظيمية الحركية.
الحجة الجديدة التي يمكن الدفع بها هي استنفاذ القيادات التاريخية لدورها في المرحلة القادمة، لأن عقليتها نشأت بين لحظة المواجهة، ولحظة تأصيل المشاركة السياسية والتكيف مع استحقاقاتها، في حين تتسم المرحلة الراهنة بتحديات جديدة، تتعلق باستعادة الشرعية لدى الجمهور لا مواجهة السلطة القائمة، وتتطلب تغييراً جذرياً في تفكير الإسلاميين وأجيالهم القيادية، والنموذج الفكري والسياسي وشكل استيعابهم للوضع الدولي والإقليمي.
لِحدّ الآن لا نستطيع أن نختبر فرضية تداعيات طوفان الأقصى على وضع الإسلاميين، لكن ثم مؤشرات تُبيّن بأن خطاب الإسلاميين على تباشير هذا الطوفان، لم يكن في واقع الأمر مطابقاً لما آل إليه الوضع، وأن خروج حماس من إدارة القطاع، بشكل كامل، سيُعطي إشارة إلى تزكية منطق الخروج الكامل للإسلاميين.



