وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة (ح4)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الثلاثاء 18 فبراير 2014م
أوجه الفرق بين ولاية يوسف عليه السلام وولاية البرلمان.
ومما احتج به أخونا الشيخ حماد القباج على تسويغ الأخذ بالديمقراطية، وتسلق مناصبها السياسية في المجالس التشريعية البرلمانية. قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ج20/56ـ61): «ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: “وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ” الآية، وقال تعالى عنه: “يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ“، “مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” الآية، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: “فاتقوا الله ما استطعتم“..»(1).
وكما هو واضح أن كلام ابن تيمية هو كلام جامع في بابه لا يحتاج معه القارئ إلى زيادة بيان أو إقامة برهان على منافع الولاية عامة وما تستلزمه من صاحبها من السعي الجاد في تحقيق أو تكثير مصالح من تحته من العباد، وإبطال أو تقليل المفاسد التي قد تصيبهم. مع بيانه -رحمه الله- ما قد تتطلبه الولاية من صاحبها من ارتكاب أقل الضرر لدفع الأكبر منه عنهم، أو ترك الأقل نفعا طمعا في جلب ما هو أنفع منه لهم. ولا يتحقق له هذا غالبا إلا بفعل الممنوع أو ترك المشروع.
وعلى كل حال فكلام ابن تيمية وما يتضمنه من إشارة واضحة على منافع الولاية عامة وتنبيهه على ما يمكن تحقيقه بواسطتها من مكاسب وذلك من خلال ذكره واقع حال يوسف عليه السلام، وطلبه نوع الولاية ذريعة منه ليدفع بعدله الظلم عن المؤمنين من أهل بيته في حدود فعل الممكن مما ينفع الناس ودفع الممكن مما يضرهم. على رغم ما قد تستوجبه منه تلك الولاية من فعل ما يعتبر في ظاهره منكرا، أو ترك ما يعتبر في ظاهره معروفا، وهذا أمر بين. إلا أنه ليس في كلام ابن تيمية رحمه الله ما يتضمن إباحة تولي ولاية هي منوطة بمهام تتناقض تناقضا مباشرا مع أصل التوحيد الذي جاء يوسف عليه السلام من أجل تقريره والدعوة إليه في مثل قوله الذي حكاه الله عنه: “إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)”، وقوله: “وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ…(38)”، وقوله: “يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)”،وقوله: “مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ (40)” سورة يوسف.
وهذا يجعل الاستدلال بولاية يوسف عليه السلام من كلام ابن تيمية رحمه الله على جواز ولاية المسلم منصبا داخل البرلمان في بلاد نظامه السياسي ديمقراطي؛ إضافة على ما في هذا الاستدلال من التمييع لقضية التوحيد، هو استدلال فاسد وقياس باطل لوجود الفارق بين ولاية البرلمان التي هي ولاية تشريع قائمة على أساس أن لا أحد يشرع للشعب إلا نوابه، وولاية يوسف على خزائن الأرض التي هي ولاية في إطار خدمة الصالح العام بتحقيق المصالح ودرء المفاسد. حيث ولايته هذه مثلها مثل جميع الولايات، والمناصب، والإدارات، والوظائف العمومية والخصوصية التي لا علاقة لها بأمر التشريع. ولا تختلف في حقيقتها عن منصب رئيس أو وزير أو مندوب أو والي منطقة أو مسؤول أو عميد أو مدير… فهذه مناصب تمنح لأصحابها سلطة وصلاحية تمكنهم من التصرف والعمل وإصدار الأوامر وفق ما يترجح عندهم أنه وسيلة إلى تحقيق العدل وإصلاح أحوال الناس وخدمة الصالح العام، ولا علاقة لهم بتشريع ولا هو من وظيفتهم.
أما ولاية البرلمان فهي ولاية للتشريع، والتشريع حق جعله الله لنفسه، وهو سبحانه وحده صاحب هذا الحق وذلك لأنه هو وحده الذي خلق الخلق، فهو وحده صاحب الأمر {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}(2). فمن ادعى لنفسه صلاحية التشريع للناس من دون الله، في تحديد مصالحهم وسن قوانينهم، من تحليل وتحريم وإباحة ومنع وتحسين وتقبيح، فقد جعل نفسه شريكاً لله، بل جعل نفسه للناس إلهاً من دون الله. سواء كان في صورة حاكم، أو في صورة شعب، أو في صورة رجال دين أو في أي صورة من الصور. فالتشريع هو من أظهر مظاهر الألوهية التي من مستلزماتها كل معاني العبودية والطاعة والخضوع والتذلل والدينونة. ومن تم فمن اتخذ غير الله مشرعا فقد اتخذ غير الله إلها. وعلاقة مجلس النواب بالشعب في النظام الديمقراطي، هي علاقة الرب بالعبد في الدين الإسلامي. فإذا كان مجلس النواب هو المشرع وهذه من خصائص الألوهية، فالشعب هو المنفذ وهذه من خصائص العبودية.
وهذا إن كان يكشف عن شيء، فهو يكشف عن مدى تعسف وتكلف المستدلين على جواز تولي الولاية داخل البرلمان في النظام الديمقراطي، بكلام ابن تيمية على تولي الولايات من خلال استدلاله رحمه الله بولاية يوسف عليه السلام. مع أن الولاية داخل البرلمان عند التأمل، هي ولاية وظيفتها لا تختلف عن وظيفة الأحبار والرهبان في النظام الثيوقراطي، الذي عانت منه أوربا قرونا طويلة. والله سمى تحاكم اليهود والنصارى إلى الأحبار والرهبان تحاكم إلى الأرباب. وفي هذا أنزل سبحانه قوله: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ..”(3).
فاليهود والنصارى جعلوا حق التشريع والتقنين في التحليل والتحريم لساداتهم من الأحبار والرهبان. والديمقراطيون جعلوا حق التشريع لشعوبهم في شخص نوابهم. وإذا كانت وظيفة الأحبار والرهبان في النظام الثيوقراطي هي التشريع من دون الله، فهي عين وظيفة البرلمانيين في النظام الديمقراطي. فإنه لا فرق؛ فأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين من دون الله، وهؤلاء اتخذوا نواب شعوبهم أربابا تحت مسمى الديمقراطية. مما يجعل استدلال المرء على أهل الكتاب بقوله تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ“، لا يختلف عن استدلاله على الديمقراطيين بقول: اتخذوا نوابهم شعوبهم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. فكلهم سواء من جهة أن جميعهم جعلوا السيادة لغير الله، واتخذوا لهم مشرعين من دون الله. ومن ثم فلا قياس بين ولاية يوسف عليه السلام على خزائن الأرض وولاية البرلمان. وحاشاه عليه السلام أن يقبل بولاية من مستلزماتها أن يقرر من خلالها أن السيادة له من دون الله، أو أنه هو مصدر السلطات. وهو عليه السلام ما جاء إلا ليقرر في وضوح وحسم أن العبودية والتشريع والحكم والطاعة والسلطة المطلقة لا تكون إلا لله الواحد القهار بقوله: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ“.
يتبع
ـــــــــــــــــ
(1) “الاستبصار والتؤدة” (من 72 إلى ص:76).
(2) سورة الأعراف (الآية:54).
(3) سورة التوبة (الآية:31).