عدول المملكة المغربية الشريفة: هم الأصل والباقي…!!!

19 ديسمبر 2025 20:38

عدول المملكة المغربية الشريفة: هم الأصل والباقي…!!!

 هوية بريس – د. يوسف الحزيمري

 يُعتبر العدول في المملكة المغربية جزءًا أساسيًا من النظام القضائي والتوثيقي، ومكونا من مكونات الهوية الدينية والتاريخية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، وعنصرا مهما في التنمية الاقتصادية، حيث كانوا ولا زالوا يضطلعون بدور حيوي في توثيق العقود والمعاملات، مما يعطيها صفة الرسمية والشرعية، لإثبات الحقوق، وحماية الأفراد من النزاعات في مجلس القضاء.

في هذا المقال، سنلقي الضوء على الدور التاريخي الذي يميز العدول في المغرب، وأنهم الأصل في النظام التوثيقي.

يعود تاريخ العدول في المغرب إلى عهد الأدارسة مع تنصيبهم للقضاة، حيث كانوا يُكلفون بتوثيق العقود والمعاملات، ومع مرور الوقت، وتعاقب الدول، تطورت مهام العدول لتشمل مهام عظمى كتوثيق البيعة، والنسبة الشريفة، وكل ما يرتبط بعمل القاضي، وكذا الحفاظ على الوعاء العقاري الحبسي بما يثبتونه مجانا من عقود التحبيس، وتوثيق غيرها من المعاملات المختلفة (المعاوضات والتبرعات والأحوال الشخصية).

ويُعتبر التوثيق العدلي التطبيق العملي لباب الشهادات في الفقه المالكي، حيث يُعتبر العدول شهودًا على العقود والمعاملات، وفي كتب الفقه والأحكام تعريف لمهام الإشهاد والانتصاب له، وحكمه شرعا تحملاً وأداءً، وأنه فرض على الكفاية، وفي بيان ذلك يقول الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: “وإذا كانت حالة التحمل فهي فرض على الكافية إذا قام به البعض سقط عن البعض؛ لأن إباية الناس كلهم عنها إضاعة للحقوق، وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال؛ فصارت كذلك فرضا على الكفاية؛ ولهذا المعنى جعلها أهل تلك الديار ولاية فيقيمون للناس شهودا يعينهم الخليفة ونائبه، ويقيمهم للناس ويبرزهم لهم، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا، وإحياؤها لهم أداء“[«أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية» (1/ 338)].

ولم يكن ينتصب للإشهاد إلاّ العلماء والمبرَّزون، وبنظرة فاحصة لكتب التراجم والتاريخ بالمغرب والأندلس يظهر لك ذلك جليا وبكثرة، ومثالا على ذلك نذكر هذه الترجمة من «بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس» (ص:132): للعدل: “محمد بن مفرج بن أبي العافية أبو عبد الله” (ت.387هـ) والغرض منها النظر إلى ما كان يتمتع به من علم ومهارة: “كان ‌يكتب ‌الشروط بمرسية وكان من أهل الفهم والذكاء والمعرفة بأنساب أهل مرسية بلده كلهم وأخبارهم، وكان عارفاً بأملاك مرسية كلها حافظاً لكتاب الله تالياً، أديباً سمع حديثاً كثيراً»،

وكذلك العالم “عبد العزيز بن محمد بن عتاب بن محسن” – أخو أبي محمد شيخ القاضي عياض – قال عنه ابن بشكوال: “روى عن أبيه كثيراً من روايته وأجاز له سائرها، كان حافظا للفقه على مذهب مالك وأصحابه بصيراً بالفتوى صدراً في الشورى، عارفا بعقد ‌الشروط وعللها، وكانت له عناية بالحديث، فاضلاً متصاوناً وقوراً معظماً عند الخاصة والعامة، توفي (ت. 491هـ)”[انظر الصلة: 2/ 542 – 543].

ومن أشهر العلماء الذين كانوا يمارسون خطة العدالة نذكر “القاضي أبا الوليد ‌سليمان ‌بن ‌خلف الباجي الأندلسي” (ت.474هـ) إمام من أئمة المذهب المالكي، كان يعقد الشروط مستعينا بها على العلم وضيق الحال.[انظر: «ترتيب المدارك وتقريب المسالك» (8/ 121)]

وغالبا ما تجد في ترجمة العلماء العدول جمعهم بين الفتيا وتوثيق العقود، بقولهم: “وكان مُتصرِّفاً في الفُتْيَا وعَقْدِ ‌الشُّرُوط”.

وقد أحصيت بموسوعة أعلام الأندلس والمغرب الإلكترونية – لصاحبها “المهدي الشعشوع”، [فكرة وتحليل وإشراف على جمع المعطيات: مصطفى بنسباع؛ تصميم قاعدة البيانات والبرمجة المهدي الشعشوع] – إحدى وخمسين ومائة (151) عالم مارس مهمة التوثيق وكتابة العقود، بنسبة: 4,07 % حسب الكتب المعتمدة في الترجمة.

وعلم الشروط وتوثيق العقود من العلوم التي برع فيها أهل الأندلس والمغرب، وهو فرع من فروع علم الفقه، وقد أنتج لنا العلماء مؤلفات مهمة في التوثيق من حيث تعريفه وحكمه وشروطه وباقي مبادئه العشرة المشهورة لدى العلماء، وذلك مثل كتابات “المقصد المحمود في تلخيص الوثائق والعقود” لأبي الحسن علي الجزيري (ت.585ه) و”المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق”، للفقيه المالكي الكبير أبي العباس أحمد بن يحي الونشريسي المالكي (ت.914هـ) وغيرهم، مما يجعله جزءًا لا يتجزأ من حضارة الغرب الإسلامي، ولمن أراد الاستزادة في وضوح الرؤية عن هذه المكانة العلمية الرفيعة فلينظر كتاب:

-التوثيق لدى فقهاء المذهب المالكي بإِفريقية والأندلس من الفتح إلى القرن الرابع عشر الهجري، لمؤلفه الدكتور “عبد اللطيف أحمد الشيخ”.

-الوثائق والأحكام بالمغرب والأندلس في القرنين الرابع والخامس الهجريين، لمؤلفه الدكتور “إدريس السفياني”.

-مقالة: علم التوثيق في المغرب والأندلس، دعوة الحق، العدد: 183.

وغيرها من الدراسات والكتب المجلية عن الارتباط بين التوثيق والفقه، وكونه فرعا منه، ويستند في العمل على الكفاءة والمهارة، والحظوة والقبول داخل المجتمع.

وإلى جانب هذه المكانة العلمية وبسببها حظي العدول الموثقون بمكانة اجتماعية عالية داخل المجتمع المغربي، من توقير واحترام واستحياء منهم، وكلمة مسموعة لهم في الصلح والنزاعات، وقد حكى محقق كتاب محمد بن عبد الكبير الكتاني الموسوم بـ: “لواقح الأزهار الندية فيمن تولى وأقبر من القضاة والعدول وغيرهما بهذه الحضرة الإدريسية” عنه ما نصه:  وبهذه الخصوصية المميزة التي حظيت بها وظيفة العدالة في هذه المدينة [أي مدينة فاس] ” كان من قديم الزمان لا ترى جالسا بدكاكين السماط من الشهود إلا العلماء الراشدين المسنين، ومن أجلهم كانت الناس من قديم تتجنب المرور على سماط عدول فاس حياءً”[انظر: (ص:91) من الكتاب].

ومن أجل ذلك وبسبب ما تقدم اعتنى الملوك والأمراء بهذه الخطة وأولوها رعاية خاصة في ظهائر التوقير، وظهائر التنظيم، وحظوا بالرعاية المولوية لأمراء المؤمنين، لاسيما ملوك الدولة العلوية الشريفة، الذين ما فتئوا يصدرون ظهائر شريفة ومراسيم جليلة لتنظيمها، راسمين لها قواعد شرعية، وضوابط مرعية مستوحاة من نصوص الشريعة وروحها، وواضعين لها مسطرة خاصة من حيث الانخراط فيها، أو من حيث ممارستها وكيفية تطبيقها”[انظر ديباجة القانون: 03/16 المنظم لخطة العدالة].

وإذا لم يكن لخطة العدالة شرف سوى توثيق بيعة الملوك بالمغرب على مر العصور، فكفى به شرفا ورفعة، وإذا أضيف لها “توثيق النسب الشريف” فأكرم بها من خطة وأنعم.

تم سحب كثير من الاختصاصات التي كانت ممنوحة للعدول، تحت بساط تطور المجتمع والدولة الحديثة وبناء المؤسسات بها، ففي الوقت الذي كان فيه العدول ينوبون عن القاضي في غيابه، لا يسمح اليوم للعدول بالانخراط في القضاء التوثيقي مع السماح للقضاة بالانخراط في التوثيق العدلي، وفي الوقت الذي كان فيه العدول يقومون بجميع مهام كتابة الضبط، واليوم لا يسمح للعدول بمزاولة المهنة في الخارج، مع السماح لكتاب الضبط بممارسة التوثيق العدلي في الداخل والخارج، كما تم سحب توثيق السكن الاجتماعي والمدعم من قبل الدولة بحجج واهية عند النظر الحصيف.

إن مهنة التوثيق العدلي كانت وما زالت تقاوم لتحافظ على نفسها من الزوال، تحت طغيان ضغط الحداثة، ومحو الهويات، وإعدام القدوات داخل المجتمع، ومع بشاعة الرأسمالية المتوحشة، ومجموعات الضغط من المال والأعمال….، وكل ما يخطر ببالك فهو كذلك، فهي إلى الآن عصية على الاندثار نظرا لجذورها الضاربة في المجتمع.

ولا يختلف أحد في أن للعدول حضور قوي في التاريخ، وفي الوطنية، ومكانة في العلم، وحفاوة لدى السلطان، فهم يمثلون جزءًا أساسيًا من النظام القضائي والتوثيقي، فإذا كان ذلك كذلك فعلى الوزارة الوصية أن تأخذ بهذه المعطيات التاريخية، والدينية والعلمية (=باعتبار التوثيق فرع من فروع المذهب المالكي الذي يعد من ثوابت الأمة)، والاجتماعية، وحتى الاقتصادية، وأخيرا القانونية، أقول القانونية لأن الحكومة صادقت على مشروع قانون جديد 16/22 ينظم مهنة العدول، والذي اعتبر حسب الجدل الدائر في أوساط العدول بالقانون المشؤوم وبالكارثي وبالجنائي أكثر منه مهني، وغاب فيه حفظ كرامة العدل بتمتيعه بحقوق تساعده على أداء الالتزامات، إن هذا القانون حسب البعض سوف يؤجج بؤرة العمل المهني بين العدول والمرتفقين.

القانون الآن في البرلمان فإذا لم يمكن سحبه وإعادة صياغته بمقاربة تشاركية وفق مطالب العدول المفصلية، فإن الدور على نواب الأمة أن يأخذوا المعطيات المذكورة أعلاه نصب أعينهم، ويجودوا ما يمكن تجويده، ويعدلوا ما يمكن تعديله، ويمنحوا العدول حقوقهم كاملة، ومنها تمكينهم من آليات الاشتغال (صندوق الإيداع نموذجا)، وتمتيعهم بالحماية في أداء مهامهم على أحسن ما يساهم في الحفاظ على الأمن التوثيقي.

كما يجب على العدول مواصلة أداء دورهم التاريخي بكل جدية ومسؤولية، لضمان الحفاظ على النظام التوثيقي في المغرب، بما هو جزء لا يتجزأ من الهوية الدينية، ومكون من مكونات الحضارة المغربية الضاربة في القدم؛ وختاما إن العدول هم الأصل والبقية… !!!.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
16°
السبت
16°
أحد
16°
الإثنين
17°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة