كيف نتعامل مع القرآن

كيف نتعامل مع القرآن
هوية بريس – إبراهيم الناية
لماذا هذا العنوان؟ وما الأسباب الداعية إلى طرحه؟ لماذا نزل القرآن؟ هل نزل القرآن ليقرأ على الموتى في المقابر والمآثم؟ أم نزل القرآن ليسود الواقع ويتجسد في سلوك الناس ويكون منهاج حياة للأمة؟ وهل الذين يقرأون القرآن يلتصون بمضامنه وقيمه؟ أم إنهم يرددون ألفاظه بروح ميتة لا حياة فيها؟ وهل الذين يقرأون القرآن يتوقفون عند ما يطلبه الخالق من عباده؟ وهل يفهمون القرآن على أنه كون ناطق ورسالة كونية إلى كل العالمين؟ وهل الذين أقبلوا على قراءة القرآن أقبلوا عليه بروح الحياة مع الله؟
وقبل الجواب عن هذه الأسئلة أقول:
إنني عندما كنت تلميذا في الإعدادي قرأت في أحد كتب عباس محمود العقاد رحمه الله إن الصلاة علامة من علامات التقدم الإنساني في فهم الصفات الإلهية والمظاهر الكونية. فهل نفهم الصلاة على أنها لحظة الاتصال واستحضار عظمة الخالق؟ ذلك الاستحضار الذي يجعلني إنسانا لا أخضع لمنطق الجسد والشهوة بل أرى أن المصلي هو إنسان قرأ الكون قراءة متقدمة تجعله يتبوأ مكانة أساسية في الوجود. ولكن المشكلة الأساس أن الكثير يصلي ولكن هل فيهم صفات المصلين فعلا؟ ولما كنت في المرحلة الجامعية وأنا أدرس فلسفة الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال رحمه الله توقفت عند قوله :ينبغي تأويل الكون تأويلا روحيا .فلا أقف عند الأشياء الظاهرة المتحركة وإنما أتجاوز ذلك إلى تلك الروح المؤطرة لتلك الأشياء ،ثم أغوص بعقلي وروحي في التأمل والقراءة .فهل يحصل هذا فعلا؟ والمشكلة أننا لا نشتكي من قلة قراء القرآن، ولكن السؤال المطروح لماذا لا يتأثر هؤلاء القراء بالقرآن؟ أم إن القرآن لا يتجاوز حناجرهم؟
وهناك مسألة لا بد من الوقوف عندها :فكم من صلاة جمعة تقام في العالم الإسلامي كل أسبوع؟ وأحوال المسلمين كما يرى الناس ويسمعون. فلماذا لا تؤثر تلك الخطب؟ وهذا يدل أن طريقة التعامل مع القرآن والإقبال عليه ليست قرآنية، لأنها لو كانت كما أرد القرآن لها أن تكون لما كانت أحوال المسلمين على ما هي عليه اليوم فأين المشكلة؟.
ـ إن القرآن رسالة الله الخالدة إلى البشرية جاءت لانتشال البشر من حالة الضياع والوحشية الكاسرة إلى حالة الرفق والرحمة وإخراج البشرية من حالة البؤس والشقاء إلى حالة الهدى والنعيم .
ـ جاءت رسالة السماء لتخرج من شاء من عبادة العبيد إلى عبادة رب العباد ، ولتربية الناس وتعليمهم قواعد الصدق والعدل وإخراجهم من حالة البهمية إلى حالة الإنسانية الرفيعة.
ـ جاءت هذه الرسالة للإحسان إلى الإنسان وتكريمه والعناية به في كل جوانب الحياة وانتشاله من حالة العبودية ليعيش حالة الحرية وإبعاده عن عقلية الجسد وإلحاقه بعقلية الروح والعقل والجسد .
ـ وجاء القرآن ليخطر الإنسان أنه شريعة كونية تنظم مختلف جوانب الحياة الإنسانية ومختلف العلاقات القائمة بين البشر حتى لا تسود الفوضى وتعم الغثائية.
ـ جاء القرآن لتكوين شخصية الإنسان السوية المتزنة وليكون القول الفصل في حياة الناس مخاطبا الوجدان وكل الأبعاد الإنسانية، لأن الاستقامة تبدأ باستقامة المشاعر والعواطف قبل استقامة الأعضاء والجوارح .
فهل يقرأ الناس القرآن بهذا المعنى؟ أم أنهم يرددونه من أجل التبرك به فقط؟ صحيح أن أجر القراءة ثابت. وصحيح كذلك أن القرآن هو المؤنس للإنسان في رحلته الشاقة في الحياة الدنيا، والعلم الذي يلقنه ويبين له معالم الطريق .ثم إن الحياة مع القرآن حياة من نوع خاص لا يعلمها إلا من عاش تلك اللحظات المميزة من المشاعر التي لا حدود لها ،لأن الحياة مع كلام الله هي حياة مع الله ،فالقرآن موجه إلى روح الإنسان وقلبه وعقله .ومن ثم جاءت الوصية الخالدة من نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين بمداومة التلاوة والذكر. ويحذر من الجفوة والقطيعة بين المسلم والقرآن، لأنه لا غنى للمسلم عن مصاحبة القرآن وتلاوته ،فالتلاوة عبادة والقرآن هو الكتاب المتعبد بتلاوته .
ولكن ما الغاية من قراءة القرآن؟ هل نقرأ القرآن لتلاوته فقط؟ أو نعمل أثناء القراءة على استخراج أبحاث ونظريات سياسية واقتصادية وغيرها من النظريات؟ أو نسعى جاهدين على التركيز على الجانب الأخلاقي لنتخذه مدخلا إلى وعظ الناس؟ .
إن القرآن منهاج حياة ومرشد الإنسان في رحلته في الحياة والمجيب عن الأسئلة الملحة التي يضعها الإنسان حول قضايا الوجود والإنسان والمجتمع بأكمله. إنه يريد صياغة المجتمع الإنساني وبنائه وفق ما جاءت به العقيدة لأن العقيدة هي الأساس التي يشيد عليها كل شيء في الإسلام. وتتجلى العقيدة في كل شيء من حياة الناس بمختلف تجلياتها. ثم إن القرآن هو الموجه للأمة المسلمة وينبغي التعامل معه على أنه منهاج يعمل على هيكلة وصياغة الأمة المسلمة .فالإسلام ليس شعارات فضفاضة أو قيما فكرية ،بل إنه واقع يتجسد في سلوك الناس وممارساتهم الواقعية،وللقرآن منهج للتربية يقوم على أساس الترغيب والترهيب لأن النفس البشرية لا بد لها من الليونة والشدة، ومن ثم إنه منهج قائم على التوازن في كل شيء. ولكن هناك سؤال يُطرح: إن القرآن الذي ربّى الجيل الأول من المسلمين هو القرآن الذي نقرأه نحن اليوم فما الفرق بين قراءتنا وفهمنا وفهم السابقين للقرآن ؟ إن الجيل الأول قرأ القرآن من أجل الالتزام بمضامنه وتطبيقها في واقع الحياة ولذلك أقبلت عليهم كنوز القرآن، أما الأجيال اللاحقة فقد قرأت القرآن من أجل مقاصد وغايات أخرى. إن القرآن يبيّن لنا أنه لا تناقض بين الدنيا والآخرة وأن الحياة الدنيا لا تستقيم إلا بالإيمان باليوم الآخر. فكم من المسلمين يستحضرون رقابة الخالق في حياتهم؟ إنه من الضروري اتخاذ كل الأسباب المادية التي تجعل المسلمين متمكنين من القوة في الأرض، ولكن ذلك لا يعني أن تستغرقهم الدنيا وينصرفون عن ذكر الآخرة والموت ،وعادة ما يطرح الكثير كيف ننهض؟ وتتجلى الإجابة في أمرين أولهما القرآن باعتباره منهجاً إلهياً ،والثاني الكتلة البشرية التي تربت على أساس القرآن والتي ستتولى تحقيق مشروع النهضة. وفي غياب هذين الأمرين يبقى المسلمون في تربص دائم كما يجسد ذلك واقعهم الحالي ،وللأسف أن المسلمين اليوم لم يأخذوا عن الغرب إلا الجوانب السلبية وتركوا العلم والمعرفة، وبذلك أضحى المسلمون بترك المنهج الإلهي وعدم اتخاذ الأسباب المادية يعيشون فوضى، والحياة لا تستقيم إلا بالانضباط وفق التعاليم الربانية لأنها هي المنسجمة مع طبيعة خلق الإنسان.
إن القرآن يخاطب الإنسان المسلم في اللحظة التي يعيش فيها وكأنه نزل عليه للتو، ولذلك إن التوجيهات التي يحملها خطاب رب العالمين موجهة إليه شخصياً ليعيها ويستجيب لها ويشكل من خلالها مشاعره وأفكاره وسلوكه ،ولكن كيف ستواجه الأجيال الحالية المجتمعات التي ظهرت ولكنها ليست من صنع الإسلام نظراً لتظافر عدة عوامل؟. ومن ثم لكي تنجح الأجيال الحالية في أداء رسالتها الربانية عليها أن تتسلح بالعلم والإيمان وتواجه حقائق الكون بالتأمل والتدبر، ولا غرابة في ذلك لأنه إذا كان القرآن هو كتاب الله المقروء فإن الكون هو كتاب الله المفتوح كما قال أحد المفسرين رحمه الله.



