“البيعة الشرعية”.. “العقد الاجتماعي”!! هل لا مشاحة في الاصطلاح!؟

24 ديسمبر 2025 17:57

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

◆ ليس من التحقيق العلمي في شيء، ولا من الأمانة المنهجية، الاحتماء بقاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح” لتسويغ الخلط بين مفاهيم متباينة في أصولها ومبانيها، ثم الادعاء أن العبرة بالمعاني لا بالمباني. فإن هذه القاعدة كما هو مقرر في علم أصول الفقه إنما يصار إليها حيث يتحد المعنى ويختلف المبنى، لا حيث تتغاير الحقائق وتتصادم المرجعيات. وأما تنزيلها على مقام البيعة الشرعية والعقد الاجتماعي، فليس من باب التسامح الاصطلاحي أو لا مشاحة في الاصطلاح، بل من باب قلب الحقائق وتبديل المفاهيم، وإلحاق ما ليس من الشرع بالشرع.

◆ إن البيعة الشرعية ليست لفظا قابلا للاستبدال، وليست مجرد إجراء تنظيمي إداري لتفويض مطلق السلطة، بل عقد شرعي له حقيقة شرعية منضبطة وآثار تعبدية وسياسية، منبثقة من أصل السيادة للوحي وخضوع الحاكم والمحكوم معا لحاكمية الشريعة. والقول بأن “العبرة بالمعاني لا بالمباني” في هذا المقام قول فاسد تنزيلا؛ لأن المباني هنا كاشفة عن المرجعية، ومؤسِّسة لمصدر الإلزام، ومحدِّدة لجهة السيادة، وليست مجرد قوالب لغوية. ومن القواعد الأصولية المستقرة أن اختلاف المباني يوجب اختلاف المعاني والأحكام، وأن نقل الألفاظ عن معانيها الاصطلاحية المستقرة يفضي إلى اضطراب الفهم وفساد التنزيل.

◆ وعلى هذا الأساس، فالبيعة الشرعية عقد أسس على موجب الوحي، محكوم بقواعد التكليف والالتزام الشرعي، بخلاف ما يسمى بالعقد الاجتماعي، الذي هو اتفاق وضعي مصدره الإرادة البشرية المجردة. وقد يقع بينهما قدر من الاشتراك في بعض الوظائف الإجرائية، كتنظيم السلطة أو الحد من الاستبداد..، غير أن هذا الاشتراك عرضي لا يعتد به في ميزان التحقيق؛ إذ العبرة في العقود بالمقاصد والمباني لا بمجرد الصور والوظائف. ومن ثم فإن تسوية العقد الاجتماعي بالبيعة الشرعية خلط بين متغايرين، وتحريف للمفهومين معا، وهو من قبيل الجهل المركب الذي يجمع بين فساد التصور وسوء التنزيل. وبيان ذلك من وجوه:

1- من حيث المصدر والمرجعية:

البيعة الشرعية عقد ديني وسياسي في آن واحد، ينعقد على أساس التعبد والامتثال، وتستمد مشروعيته من نصوص الوحي ومقاصد الشريعة الكلية، غايته إسناد الولاية العامة لمن يلتزم الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وفق الشروط المعتبرة شرعا. وتبقى الشريعة حاكمة على طرفي العقد معا، فلا يملك أحدهما نقض أحكامها ولا تعطيل سلطانها، إذ العقد هنا مقيّد بدليل شرعي سابق عليه وحاكم له.

أما العقد الاجتماعي فمرجعيته بشرية محضة، نشأ في سياق فلسفي وسياسي خاص بالصراع الأوروبي بين الكنيسة المنحرفة والحياة العامة، ويجعل الإرادة العامة أو توافق الأفراد أصل الشرعية ومصدر الإلزام، وينزل القانون منزلة الوضع القابل للتبديل والتعديل تبعا لتقلب المصالح وتغير التقديرات.

2- من حيث طبيعة الالتزام:

الالتزام في البيعة التزام شرعي تعبدي قبل أن يكون سياسيا؛ إذ الطاعة فيها مقيدة بالمعروف شرعا، منضبطة بأصل قطعي: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق“، ومشروطة بقيام الإمام الأعظم أو الولي بالواجبات الشرعية. كما أن هذا العقد لا يسقط حق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد في المحاسبة والمناصحة والعزل عند تحقق موجباته المعتبرة شرعا.

في المقابل، فإن الالتزام في العقد الاجتماعي التزام قانوني وضعي، تحدده نصوص دستورية بشرية، وتُعرّفه المصلحة العامة كما يقدرها الشعب أو نوابه الذين لا خصوصية لهم أو صفة مميزة لهم سوى أن الشعب اختارهم، دون إحالة ملزمة إلى وحي أو حكم شرعي متعال على إرادة الشعب.

3- من حيث مفهوم السيادة:

السيادة في نظام البيعة للشرع وحده، والأمة إنما تمارس حق الاختيار والتفويض لا حق التشريع المطلق؛ فهي مكلفة بالتحاكم إلى الوحي، لا منشئة له ولا متصرفة فيه بحسب الأهواء.

أما في العقد الاجتماعي فالسيادة للشعب، وهو مصدر السلطات والتشريع، ولا تعلو فوق إرادته مرجعية ملزمة ثابتة، بل يعدّ القانون تعبيرا عن هذه الإرادة وقابلا للنقض متى تغيّرت تلك الإرادة.

4- من حيث الغاية والوظيفة:

الغاية العظمى المقصودة من البيعة إقامة الدين أولا، ثم تحقيق العدل بين الأنام، وحفظ المقاصد الشرعية، وجلب المصالح ودرء المفاسد في إطار الهداية الربانية، وهو ما عبر عنه فقهاء السياسة الشرعية بعبارة جامعة رشيقة متعلقة بالإمامة العظمى التي روح البيعة؛ “حراسة الدين وسياسة الدنيا به“.

أما العقد الاجتماعي فغايته محصورة في تنظيم السلطة، ومنع التنازع والاستبداد، وتحقيق السلم المدني وفق تصور نفعي أو عقلاني قاصر، لا يتجاوز دائرة التدبير الدنيوي المجرد.

وختاما، البيعة الشرعية مفهوم توقيفي محكوم بالوحي، لا يقبل الإلحاق بعقود وضعية ولا إعادة التأويل خارج مبانيه وأصوله. وأما العقد الاجتماعي فبناء فلسفي بشري مستقل في مرجعيته ومقصده ومصدر إلزامه. والجمع بينهما تحت دعوى عدم المشاحة في الاصطلاح جمع بين متغايرين، ومصادرة على محل النزاع، وتدليس في المفاهيم قبل أن يكون اجتهادا في التنزيل؛ إذ لا يصح توحيد النتائج مع اختلاف المعاني والمباني، ولا يستقيم اعتبار التشابه الإجرائي مسوغا لطمس الفوارق الأصولية الحاكمة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
11°
15°
الخميس
15°
الجمعة
16°
السبت
17°
أحد

كاريكاتير

حديث الصورة