إلى سلفيي الصفحات الاجتماعية
ذ. يونس الناصري
هوية بريس – السبت 22 مارس 2014
قال الشاعر المُجيد: وعالم بعلمه لم يعملنْ — معذب من قبل عباد الوثنْ
وألف الخطيب البغدادي رحمه الله كتابا سماه: “اقتضاء العلم العمل” قال في مقدمته: {ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يُعد عالما من لم يكن بعلمه عاملا} (ص:14).
وقال بعده: {قال بعض الحكماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يُطلب علم، ولولا العلم لم يُطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلا به، أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه} (15).
وأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: {هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل}، وقال العلماء: الويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة واحدة، والويل لمن يعلم ولا يعمل سبعين مرة، والآيات والأحاديث الدالة على وجوب ربط العلم بالعمل وافرة يطول ذكرها.
إن ما يميز أهل السنة والجماعة على مر الأزمان: العلم والعملُ، وما يثمرانه من تقوى وورع وحسن خلق، إن بنيا على إخلاص لله سبحانه، وسار الصالحون المتبعون للسلف سمتا وعلما وورعا على هذا الطريق اللاحب، لا يمنعهم نعيق الشامتين، ولا تعويق المرجفين، ولا يفتنهم فسق الفاسقين وفتن علماء السوء الماكرين.
وبعد أن سُلطت علينا بقصد المواقعُ الإلكترونية، وتناسلت الصفحات الاجتماعية، اغتر بعض السلفيين بهذا الفتنة، وفتحوا من خلالها النيران على بعضهم، ازدراء وتنقيصا وطعنا في العلماء.. فلا تكاد تجد صفحة ملأها إخواننا إلا دهشت بتعليقات ساخرة مستهزئة، ممتلئة عجبا وصلفا واعتدادا بالرأي، وكرا على فهوم الآخرين، وتسفيها لعقولهم، كأن الكل صار عالما نحريرا، وقدوة للأنام لا يشق له غبار، وعلما تنهد دونه راياتُ المجتهدين الفاهمين.
ونيات إخواننا -ولا شك- صافية فيما يكتبون، إلا أنهم لسوء فهم كلام الآخر، أو لتسرعم في الرد وانعدام حكمتهم، أو لحميتهم الزائدة للشرع ومبادئه، يفعلون ما يفعلون.
وأريد أن أبعث إليهم برسالة مملوءة حبا وشفقة لأذكرهم ونفسي بكلمات جامعات نفيسات لعلم سامق لا يخفى عليهم هو ابن قيم الجوزية، لعل الله ينفعنا بها، ويردنا بها إلى سواء السبيل، ففي كتاب الفوائد بتحقيق الشيخ سليم الهلالي حفظه الله، في الفصل: “العلماء وطلاب العلم وأصنافهم”: أن أعلى الهمم في طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل.. (ص:99).
إنه لا يختلف مسلمان صادقان في كلام ابن القيم السالف ذكره، غير أن تتمة كلامه ستضع اليد على موضع الجرح، لتزيل عنه كل قرح، وذلك في قوله: وأخس همم طلاب العلم قصرُ همته على تتبع شواذ المسائل، وما لم ينزل ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع شواذ أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال، وقل أن ينتفع واحد من هؤلاء يعلمه (نفسه).
ونحن هما أمام طريقين: أحدهما: طلب العلم الحق بصدق ونية خالصة، وتنزيل ذلك على أرض الواقع، قولا وفعلا، مع النفس والأهل والجيران والأصدقاء وكل الناس، كي نحقق الغاية من إنزال القرآن الكريم وسنة خير المرسلين، و نكون كرسولنا صلوات الله وسلامه عليه حين وصفته زوجته رضوان الله عليها بقولها: كان قرآنا يمشي على الأرض، وقولها: كان خلقه القرآن.
والعلماء الربانيون وطلبة العلم الصادقون أولى الناس بالتعظيم والتوقير، وأحقهم برد الجميل والاعتراف الفضل، فهم ورثة الأنبياء، وخيرة الأولياء، وهم المعلمون المهذبون للأخلاق، الواقفون على حدود الإسلام.
وقد لا يعقل منطقا ولا دينا -من غير تقليد أعمى أسود- أن نرفع الصوت فوق صوت أساتذتنا، تأدبا معهم واحتراما لعلمهم وشيبتهم ومكانهم الجليل، فكيف بلمزهم واستصغار شأنهم، واعتبارهم لا علم لهم مقارنة بغيرهم، حتى إن أحدهم -هداه الله وإيانا- أجاب أحد الإخوان في إحدى السجالات الفيسبوكية متسائلا بإنكار وتعجب: وهل تعتبر فلانا من العلماء؟؟؟
وهذا الفلان لمن يعرفه -لا نزكيه على الله- من أهل العلم والفضل والأدب الجم، بيد أن موقفه الاجتهادي من سياسة الإخوان المسلمين في مصر، وشفقته عليهم لما يحصل لهم من قتل واعتقال واغتصاب وتعسف وهلم جرا مما هو معلوم للجميع، ومخالفته لشيخه ومعلمه بأدب وحسن خلق في هذه القضية، ألب عليه كثيرا من صغار طلبة العلم، الذين باتوا كما ذكرنا في سابق الحديث: لا يشق لهم غبار!!!
لو فهموا قول ابن القيم: “{أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس…} لتركوا الكبار وشأنهم؛ لأن الله محاسبهم على اجتهادهم؛ ولعلموا -لو فقهوا في الدين- أنهم بين الأجر والأجرين، فما بالهم -هدانا الله وإياهم- يحكمون بأرائهم وميولهم وتعصبهم -وهم ليسوا أهل اجتهاد- على واحد لآخر؟؟؟
إن أحس امرؤ منهم بأهليته وبلوغه مرتبة الاجتهاد، فينبغي له أن يجلس مع المخالف له في الرأي، ليحاول إقناعه بما عنده، فإن بان له صعوبة الموقف وشدة الأمر، فلينصرف غير حاقد على أخيه أو معلمه السابق، ولا منتقص له، بل ينصرف محبا له، مادام الاختلاف لا يفسد للود قضية، وليس على المرء الحساب، إن عليه إلا البلاغ.
وثانيهما: طلب العلم للمباهاة وتصدر المجالس ومماحكة العلماء والاستعلاء عليهم، وهذا مسلك لا يسلم صاحبه من نقيض قصده، وحق على الله أن يفضحه في الدنيا -وإن تاب؛ لأن لحوم العلماء مسمومة وسنته في هتك منتقصيهم معلومة- وفي الآخرة إن لم يتب.
ذلك أن الشيطان أسعدُ بهذا الصنف من فرحه بعصيان العصاة، وهو لا يقدر على العالم المخلص بنفسه، إلا من طريق عالم مثله أو قريب منه ظاهريا، بزرع الفتنة وشق الصف، أو في أدنى الحالات بنشر البغضاء والشحناء بين العلماء وطلبتهم، لذلك قيل قديما: فساد العالِم فساد العالَم.
واعلم أخي: أنك إن أنست من نفسك امتلاك ناصية العلم، وحسبتها قد تجاوزت القنطرة، ولحظت فيها القدرة على محاكمة من علمك وشذب أخلاقك، ونُقش في قلبك احتقار كل متكلم من غير إبدائه، فإن إبليس آنذاك قد أحكم قبضته عليك، وصرت من جنده وإن لم تعلم أو يخطر ببالك، وهذه هي النكتة اللطيفة التي فاتت كل المتعالمين قديما وحديثا، والله المستعان.
فالله الله في العلم والعلماء، نسأل الله السلامة والعافية وجمع الكلمة ودرء الفتنة وصفاء القلوب وإرجاعنا إليه، كما نسأله حبه وحب رسوله والصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه.