كلمة مختصرة في البدع وأحوالها
هوية بريس – فهد ملاطو
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله واحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضالة وكل ضالة في النار.
فهذه كلمة مختصرة في البدع وأحوالها نسأل الله أن ينفع بها.
بدء ذي بدء فلا بأس بالإشارة إلى بعض القواعد المهمة في هذا الباب دون تفصيل، فأولا النصوص متفقة مؤكدة على أن كل بدعة فهي ضلالة كما في حديث جابر وابن مسعود والعرباض وعائشة، واتفقت كلمة الصحابة على ذم البدع بإطلاق دون تفصيل، كما جاء عن حذيفة وابن مسعود وان عباس الذي قال عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع، وكما قال ابن عمر “كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة” إلى غيرها من الآثار، وقد جاء حمدها أي البدعة عن عمر رضي الله عنه فيما يخص قيام الليل جماعة في رمضان وعن ابنه في صلاة الضحى، وقد جمع أهل التحقيق بين الموقفين بحمل هذه التسمية على البدعة اللغوية، وذلك حفاظا على العمومات المطلقة المتكررة في السنة وحفاظا على الفائدة من الأحاديث التي ذمت بعض الأعمال لكونها بدعة وليس لأنها منهي عنها بنص خاص، وزيادة على ذلك فهذان العملان ثبتت سنيتهما في غير ما حديث وللتفصيل موطن آخر.
فكل بدعة ضلالة، وكل عمل ثبتت مشروعيته فليس من البدع،
إن مبنى البدع على تغيير الشرع زيادة أو نقصا في العمل أو في الاعتقاد، وهو يستلزم إدخال ما ليس منه فيه، وبعبارة اخرى، هو اعتقاد حكم شيء من الأعمال على ما ليس عليه حقيقة كاعتقاد ما هو واجب مستحبا أو اعتقاد ما هو مباح واجبا أو مستحبا فبناء على هذه النقطة قد نقسم البدع إلى قسمين، إلى قسم جاء به الشرع لكنا نحكم عليه بغير حكمه المشروع، وإليك مثاله، عن الأسود عن ابن مسعود قال لا يجعل أحدكم للشيطان شيئا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره رواه البخاري، فحكم الانصراف عن اليمين مباح لكن لما اعتقد بعض المسلمين استحبابه استدرك عليهم عبد الله رضي الله عنه وأرضاه وجعله من الشيطان، ومن امثلته امتناع ابي بكر وابن عباس عن الاضحية كي لا يعتقدها البعض واجبة على أن الاضحية مشروعة مستحبة عندهما إلى غيرها من الأمثلة.
القسم الثاني بدع في العمل والاعتقاد وهو ما قسمه بعض أهل العلم إلى نوعين، بدع حقيقية وبدع إضافية، أما الحقيقية فهي ما لا شاهد له من الشرع أصالة كعلم الكلام وكمواسم الأولياء إلى غيرهما من الأمثلة مما لم يأت نص بالترغيب فيه بوجه ولن نعدم من مجادل في كل باب من أبواب البدع، وحكم هذا النوع واضح وهو الحرمة ، والنوع الثاني بدع إضافية مما شهد الشرع لأصله المطلق لكن دون هيئته المخصوصة، ويدخل فيه كل العبادات التي تخص بقيود من أزمان أو أمكنة أو هيئات لم يشهد لها الشارع بخصوصها وقبل الكلام حول حكم البدع الإضافية يجب أن نقدم بمقدمة مهمة قبلها.
إن الله قد بعث محمدا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بخير شرع وخصه بخير هدي، فهو قدوتنا وأسوتنا، فقد بين لنا العبادات وفعلها على أحسن الهيئات لا هدي فوق هديه ولا طريقة خيرا من طريقته كما قال ابن عمر يا ابن أخي إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا على الهيئة الحسنى كما قال عمر بن عبد العزيز إنما سن السنة من قد علم ما في خلافها من التعمق والزلل، وكل من خالف في الهيئة النبوية فهو كما أثر عن ابن عباس لا يدري صاحب بدعة ما يلقى عند الله، كل من جاء بعمل بهيئة مخصوصة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر دواعي فعلها بالهيئة الخاصة في عهده وانتفاء الموانع فهو على أحسن أحواله مفضول، وهو كما أثر عن ابن مسعود في قوله أو انتم أهدى من أصحاب محمد، وهو موافق لقول مالك وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تتبع هذا الباب يرى ما في كل بدعة من التكلف والزلل كما مر، ويرى ما في السنة من الحكمة وموافقة القياس الصحيح.
وهذا يجر إلى إضافة قيد مهم في باب الاتباع، ألا وهو أن الموافقة في السبب من السنة كما أن الموافقة في العمل منها، وإليك أمثلة من فهوم الصحابة، فقد ثبت أن الفاروق عمر رضي الله عنه نهى من كان يتحرى الصلاة عند بعض المواطن التي صلى فيها النبي عليه الصلاة والسلام وقال من أدركته الصلاة فليصل وإلا فلا، فهنا وان كان الفعلان متوافقين في الصورة فهما مختلفان في الحكم وما ذاك إلا للمخالفة في السبب والباعث، أي أن النبي لم يقصد إلى الصلاة في تلك المواضع بل وقع ذلك اتفاقا خلافا لفعلهم، وكما قالت عائشة عن المحصب الذي نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصدر من مكة من حجته، إنما كان منزلا ينزله النبي صلى الله عليه وسلم ليكون اسمح لخروجه، وهذا كي لا يتخذ سنة فيخالف الرسول في قصده وهذا باب واسع لمن تتبعه وتكفي الإشارة إليه،
فلنعد إلى الحديث عن البدع الإضافية، ولنتطرق لها من عدة جهات،
التقسيم العقلي
العبادة إما أن تخص بهيئة ما اتفاقا أم قصدا، فإن وقعت اتفاقا أي دون قصد الهيئة المفعولة فالأصول تشهد بجوازه كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التقدم بين يدي الشهر بيوم أو يومين إلا أن يوافق صيام احدنا، أو كنهيه عن صوم يوم الجمعة إلا أن يوافق صوم احدنا، أي دون قصد هذه الأيام بذاتها وإنما وقعت العبادة فيها اتفاقا مشيا على عادة أو لسبب تيسر، والصوم عمل مشروع في ذاته لكن لما خيف من اعتقاد البعض أن صوم الجمعة خير من غيره نهي عنه إلا أن يقع اتفاقا، وكون يوم الجمعة خص بهذا النهي هو لأنه خير الأيام فالدواعي لاعتقاد فضل صيامه قائمة فكان هذا الحكم من باب سد الذرائع أي نهي عنه لغيره، وهو في حالتنا لعدم اعتقاد أفضلية الصيام فيه على غيره من الأيام ، والحكم الذي جاء سدا للذريعة يسقط أمام أدنى دليل قابله كما أسقطه صلى الله عليه وسلم أمام كونه يوافق صيام احدنا ولهذا أمثلة في السنة، أما نهيه عن التقدم بيوم أو يومين فهو أيضا منهي عنه إما لنفس الداعي أي لعدم اعتقاد سنية الاحتياط للشهر أو مراعاة للفصل بين الفرض والسنة، وهو أيضا من باب البدع وسد الذرائع لكي لا يتطاول الزمان فيختلط الفرض بالسنة، ويشهد له قول عمر لمن تنفل بصلاة بعد صلاة الفرض مباشرة ومنه نهي مالك عن صوم الست من شوال.
ومن الأدلة أيضا أمره صلى الله عليه وسلم لأبي إسرائيل بالاستظلال والقعود والكلام وبإتمام صومه، وهو لو اتفق له عدم الكلام يومه لم يكن مؤاخذا وإنما أوخذ لأنه قصد إلى ذلك وفي هذا اعتقاد استحباب هذا الفعل في الصيام رغم أنه أثر عن النبي صلى الله عليه أنه قال من صمت نجى وقال أمسك عليك هذا واشار الى لسانه والأمثلة كثيرة في هذا الباب لو تتبعناها ومنه يظهر أن حكم الفعل المقصود يختلف عن حكم الاتفاق.
ثم نقول من الهيئات ما قد يقع اتفاقا وما لا يقع إلا قصدا، أي أن مجرد الفعل يدل على القصد، كمن يتجشم قطع مسافات طويلة للدعاء عند قبر احد، فلا يمكن الظن بفاعله إلا انه يعتقد فضيلة الدعاء عنده وقس على ذلك، وهذه الهيئات قد لا يتطرق لها البحث السابق لانا نحكم عليها بمجرد فعلها لأن قصد صاحبها اليها واضح بين لا يستدل له.
استنباطات من السنة
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراد ليلة الجمعة بقيام أو يومها بصيام رغم إطلاقه صلى الله عليه وسلم الترغيب في الصيام والقيام في غير ما حديث وهذا والله أعلم لأن يوم الجمعة يوم عظيم وهو أفضل أيام الأسبوع فخشي النبي عليه الصلاة والسلام أن يظن ظان أن القيام في ليلته خير من القيام في غيرها من الليالي وقد مر هذا المعنى وهو يدل بالقياس على أن تخصيص الصوم بيوم قصدا لا يجوز إن جر إلى اعتقاد المشروع على غير ما هو عليه كما مر، وفي نهيه صلى الله عليه وسلم أبا إسرائيل عن الصمت حال الصوم نهي عن تخصيص الصوم بهذه الهيئة، ويقال كذلك في القيام والاستضحاء.
وفي قصة الصحابي الذي كان يقرأ سورة الإخلاص في كل ركعة، فتخصيصه هذه الصورة رغم دخولها في عموم قول النبي للمسيء صلاته ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن جعل الصحابة يستنكرونه حيث أن تخصيصه هذه السورة المتكرر ينبي عن قصد إلى ذلك، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنكار واستفسر الصحابي عن سبب هذا القصد، فلما أخبره أن باعثه هو حب هذه السورة لأنها صفة الرحمان أقره،
وفي رده صلى الله عليه وسلم على من سلم على مع عطس فقال له النبي وعليك وعلى أمك رغم اطلاق الأحاديث المرغبة في إفشاء السلام دليل على استنكاره صلى الله عليه وسلم على من خص هذا الزمن بهذا الذكر دون مخصص.
ولما سئل صلى الله عليه وسلم كما في مسلم وكان قد قضى حاجته ثم اكل، فقيل له ألا تتوضأ، فقال ما أردت صلاة فأتوضأ، وهذا واضح في رده على من أراد تخصيص زمن الأكل بالوضوء، رغم اطلاقه الترغيب في الوضوء في غير ما حديث وقال لا يحافظ عليه إلا مؤمن.
وقد أنكر عليه الصلاة والسلام على من دعا الله دون تمجيده والصلاة على نبيه فقال قد عجل هذا، على أن العديد من النصوص جاءت بالترغيب في الدعاء بإطلاق، وهذا لما لم يتقيد الصحابي بالسنة في الدعاء أي الصفة التي سنها سيد ولد آدم ودل عليها إن أراد أن يستجاب له، وفي هذا الحديث ما يدلك على أن ترك الصفات المسنونة يضارع الزيادة عليها في الإنكار، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم،
ومن تتبع السنة وجد من هذا النمط كثير وفي هذه الأمثلة كفاية.
فهوم الصحابة والتابعين.
قد قررنا من قبل أن الصحابة أجمعوا على ذم البدع وإن كل بدعة ضلالة فهل ادرجوا البدع الإضافية في البدع المذمومة أم عملوا بإعطائها حكم أصلها المشروع، إليك بعض الأمثلة في ذلك.
ورد عن نافع أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر فقال الحمد لله والسلام على رسول الله. قال ابن عمر وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علمنا أن نقول الحمد لله على كل حال وهو واضح في إنكار ابن عمر تخصيص الرجل هذا الزمان بالسلام دون مخصص من سنة قولية أو فعلية.
وقد تقدم إنكار عمر رضي الله عنه على من خص بعض الأماكن بالصلاة دون مخصص رغم اطلاق الترغيب في الصلاة وان الارض كلها مسجد.
وهناك إنكار ابن مسعود على من خص الذكر ببعض الهيئات كما وقع لبعض التابعين في الكوفة عندما اجتمعوا بعد الصلوات للذكر فكان أحدهم يقول كبروا كذا وكذا، ويقول سبحوا كذا وكذا، وهو واضح في إنكاره هذا التخصيص بلا مخصص رغم اطلاقات نصوص الترغيب في الذكر، وقوله تعالى يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم،
وهناك قول ابن عباس لعكرمة كما عند البخاري وانظر السجع في الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك أي لا يفعلون إلا الاجتناب، وهو واضح في كون ابن عباس لم ير إدراج هذا السجع تحت عموم الادلة الدالة على استحباب الدعاء، وإنما استدل بترك رسول الله له المتكرر رغم وجود الباعث عليه على عدم سنيته.
وللاستيعاب موطن آخر وتكفي هذه الإشارات هنا إلى كون هؤلاء الصحابة كانوا يرون تخصيص العبادات ببعض الهيئات دون توقيف من البدعة.
إلزامات عامة
بقي إن قلنا بجواز إدراج الأعمال ذوات الهيئات الخاصة تحت غطاء أدلة الأعمال التي جاء الترغيب فيها بصفة مطلقة أن نقول أن كل دليل صحيح فعلامة صحته اطراده فلازم الحق حق، أما إن لم يطرد دون وجود فرق مؤثر يمنع منه فهو علامة بطلان الدليل لا محالة.
قد وردت أحاديث عدة في الترغيب في صلاة الجماعة بإطلاق كحديث صلاة الرجل مع الرجل خير من صلاته وحده وقال في الآخر وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله، فهل يجوز أن نصلي الرغائب والنوافل جماعة في البيوت والمساجد، فعلى من يرى الاستدلال بالإطلاقات أن يقول بهذا لا محالة.
قد وردت أحاديث في الترغيب في الصيام والقيام، وعلى من يقول بالاستدلال بالمطلق أن يقول باستحباب صيام النصف من شعبان وقيام ليله لاندراجه تحت الادلة العامة
قد ورد نص القرآن ونصوص السنة بالترغيب في الصلاة على النبي مطلقا، فعلى من يقول بجواز الاستدلال المطلق أن يرى جواز الصلاة على النبي جهرا بعد الاذان، وقد نزيد بعد العطاس إلى غيرها من الحالات الخاصة.
ولمن قال بجواز الدعاء مطلقا عملا بالنصوص المطلقة، أن يقول بجواز المواظبة عليه عند القبور وفي الجنائز، وقبل الأكل إلى غيرها من الحالات.
وعلى من قال بجواز المواعظ بإطلاق عملا بالنصوص المطلقة أن يقول بجواز المواظبة عليها قبل الإقامة وبعد التسليم إلى غيرها من الحالات الخاصة.
وعلى من قال بجواز التوضؤ بإطلاق عملا بالنصوص المطلقة، أن يقول باستحباب المواظبة عليه قبل الأكل وبعده.
وفي هذه الإلزامات كفاية لمن أراد أن يقيس عليها غيرها، ونقول أن بعض هذه الحالات وان قال ببعضها بعض أهل العلم فليس هن أهل العلم من يلتزم العمل بكل اطلاقات الشرع لما قد يجره هذا النوع من الاستدلال من الخروج عن السنن ومجانبة الصراط والله سبحانه وتعالى أعلم.