عبر من التاريخ*: ما أشبه الليلة بالبارحة!!
هوبة بريس – عبد الله الشتوي
سنة 803هـ زحف تيمورلنك بعساكره قاصدا احتلال دمشق… ممنيا أتباعه بأن دمشق ”بقرة” وافرة الخيرات يمكن حلبها حتى إذا نضب ما في ضرعها ذبحناها!
فتهيأ له أهلها وتنادوا بالجهاد وتداعوا للقتال ووقع بينهم معارك كثيرة ثم تحصنوا بأسوار دمشق وتصدوا للغزاة وقتلوا منهم وأسروا.. وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة… كل هذا وهم بلا أمير…
وأرسلوا مستنصرين بمصر إلا أن ”الجيش المصري العظيم” لم يكمل طريقه إلى دمشق بل رجع إلى القاهرة خوفا من وقوع انقلاب عسكري على السلطة بسبب كثرة الدسائس والمكائد واختلاف قادة الجند…
رغم خيانة الجيش المصري إلا أن تيمور لنك رأى أنه غير قادر على دخول المدينة بغير ثمن يدفعه من أرواح عسكره فعمد إلى الحيلة… ووعد أهل دمشق بالصلح والأمان…
فاختار أهل دمشق أن يرسلوا إليه قاضي القضاة ابن مفلح الحنبلي(1)، فلما دخل على الطاغية تلطف له في القول وألان له الكلام،وأظهر له تعظيم الاسلام وقال له بلهجة السيسي (ده ما يرضيش ربنا):
(هذه بلدة الأنبياء والصحابة، وقد أعتقتُها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّي وعن أولادي، ولولا حنقي من ”سودون” نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها، وقد صار ”سودون” المذكور في قبضتي وفي أسري، وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا، ولم يبق لي الآن غرض إلا العود، ولكن لا بدّ من أخذ عادتي من التّقدمة من الطّقزات) ويقصد ما جرت به عادة التتتار من استقبال أهل المدن التي يدخلها صلحا بالهدايا وغيرها…
فلما رجع ابن مفلح إلى دمشق شرع يخذّل الناس عن الجهاد ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيما!! وخالفه جماعة من الناس وأبوا إلا القتال… فأصبح الناس في المدينة وقد غلب رأي ابن مفلح واصحابه من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار وصارت القلة القليلة من دعاة المقاومة والجهاد خونة مطلوبين للقتل… فكيف يعقل أن يكون قاضي القضاة ومعه جمع من الفقهاء والوجهاء على خطأ؟؟ بينما تكون هذه القلة المتطرفة على صواب؟؟ وبالطبع كان هناك من يقول: (الاخوان اللي فوق يفهموا كويس) وآخرون يحذرون من الفتنة!! وآخرون يتهمون كل رأي مخالف بالطيش والجهل والتطاول على العلماء!
فانحازت هذه القلة إلى نائب قلعة دمشق وتحصنو بها… وتركوا البقية من أهل دمشق يمضون صلحهم … ومع ذلك لم يسلموا من حصار أهل دمشق وتواطئهم مع التتار ضدهم!!!
خرج أهل دمشق وأعيانهم إلى معسكر تيمور ومعهم من الطقزات والهديا ما وعدوا به… وأرسل معهم وثيقة الأمان لتقرأ على منبر المسجد الأموي… وشرع مفتي دمشق وقاضيها وأصحابه في الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله، ودعوا العامّة للسمع والطاعة وعدم الخروج على الحاكم ”النصف-مسلم” تيمور… وشرعوا في جمع ألف ألف دينار وفرض ذلك على الناس وتوجهوا بها إلى تيمور لنك إلا أنه غضب ولم يرض فعادوا إلى دمشق ففرضوا الضرائب على الناس مرة أخرى، وكل من اعترض من الناس عوقب بالضرب والسجن فنزل بالناس بسبب ذلك بلاء عظيم… وتضررت مصالح الناس وتعطلت الجمعة مدة ثم عادت مع الدعاء لولي العهد ابن تيمور!!
وبعد حصار شديد لقلعة دمشق من طرف جند تيمور ومن تواطأ معهم من أهل دمشق نزل من تحصن بها من الثوار مكرهين، ثم التفت تيمور بخبث إلى أهل دمشق: (هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لي أنكم عجزتم)… فألزمهم بدفع أموال المصريين ومن هرب من دمشق كذلك… فلما استمكن من أموالهم وتيقن أنه لا مزيد عندهم مال على دمشق ميلة واحدة وأحرقها عن بكرة أبيها… وعذب ونكل وأحرق الناس أحياء وفعل بهم من الأفاعيل مثلما نقل عن “سجن أبوغريب” أو أشد… واستمر الناس في بلاء عظيم فهلك كثير من أهل دمشق بالجوع والعذاب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): هو حفيد الشيخ ابن مفلح الحنبلي ”صاحب الفروع”.
*المصدر: المواعظ والاعتبار للمقريزي، الموسوعة التاريخية-الدرر السنية.