القراءة وكتب الحياة
هوية بريس – د. صفية الودغيري
القراءة الحقيقية تدفع الكاتب إلى البحث عن الحقيقة فلا يرتاح ولا تسكن غلَّته حتى يروي ظمأه من سقائها، وتهدأ حرارة أشواقه حين إدراكها، ولن يموت بعدها مرتين بل سيموت مرة واحدة، وستَحْيا أفكاره وكلماته، وسيحيا بها القارئ بعده ليُذيعها بين الناس، وسيحملها كل من سما إلى قمة شعوره وعانق رهَف إحساسه، وأَصْغى إلى صدى كلماته وحروفه عند اهتزازها على سطوره وانبعاث معانيها من ألفاظه، وسينقلها عنه كل محٍبٍّ ومريد لطريقته في القراءة المولِّدَة لذاك الشَّغف المَوْصول بشريان الكاتِب الموهوب، الذي شقَّ طريق حياته مكافحا وسط الأشواك وصامدا في وجه الأعاصير والمضايق، وحبس نفسه وأنفاسه وسط مكتبته متوسدا مهاد رفوفها لسنوات من شبيبته، فأمطرته وأمطرت قلمه غيث المداد، وبذرت موهبته وزرعت حبَّ القرائح، وأنبتت الكتب روضة غناء، فانطلق يجتني ثمار المعارف، واستحقَّ أن يكون القائد للقلم الذي يحمله، وللكلمة التي يكتب رسم خطها العربي، ويضم حرفها العربي، والقائد للمعنى الذي يصوغه بدقة وعناية، وللفكرة التي يشدُّ متنها بحدِّ يَراعه، فتفجِّر خير ينبوع من الحكمة، تفيض على قارئها ومتلقِّيها وتتدفق على حاملها ومبلِّغِ رسالته وفحوى خطابه..
ولن تُنْتِج لنا القراءة كاتِبا أديبا إلا إذا نظر في كُتُب الحياة الحبْلى بألف مخاض، ولفَّه قماطُها وثوبها الخشن، وشَبَّ وترعرع وسط اليسار والإعسار، ونَما ونضَج وهو يقرأ في أسفار المارَّة والسَّابلة، ويُقلِّب صفحات الوجوه، ويتجرع كؤوس الحياة بكل طعم ولون، ويَشقُّ الطَّريق الشاقَّ الوَعْر، ويمضي حافِيَا على الأشواك قبل أن يصِل إلى المتَّسع الرَّحيب الفَسيحِ الجَنبات، لا أن يظلَّ حبيسَ صومعته لا يخرج منها إلا عند ميقات رفع صوته بالنِّداء، أو حَبيس بُرْجِه العاجي مُنَعَّما بموائد الترف والبذخ، والراحة والهدوء، مُتربِّعًا على عرش فخامَتِه متوسِّدًا مُتَكَأَه المخملي، وإلا سيظل أديب اللفظ الفارغ، والمعنى التافه، والفكرة بلا جودة السبك وحسن الصياغة، وستظل الكتابة بالنسبة له ترفا فكريا تختفي معانيها خلف الزخرف والزينة المفرطة بلا روح ولا جوهر..
ولقد تحدث قديما الأستاذ أحمد أمين عن هذا الأدب في التعبير والكتابة في مقالته: “أدب اللفظ وأدب المعنى” فقال:
“إن الأديب إذا رزق حظوة في السبك، وأصيب بفقر في المعنى كانت شهرته وقتية وقيمته محدودة الزمن، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفه وفقره فينبذوه، والأديب الخالد من زاد في معارفنا ومشاعرنا بما في قوله من معنى وقوة. أديب اللفظ فارغ الرأس قليل العلم بما حوله، قريب الغور، قد ستر كل هذا بزخرف القول كما تستر الشوهاء عيبها بالأصباغ، رخصت بضاعته فبالغ في التجمل في عرضها ولفت الأنظار إليها. وشعر إنها مزيفة فغضب لنقدها والتلويح بامتحانها. والأمة في طفولتها وشيخوختها يعجبها هذا النوع من الأدب، لأن خفة رأسها من خفة رأس أدبائها. ولأن العقول السخيفة يعجبها السحر والشعوذة وألعاب البهلوان، والأدب اللفظي المحظ نوع من هذا اللعب. فإذا نضج عقلها تغير ميزاتها ونفذ نظرها إلى أعماق الشيء، لتعرف ما وراء الظواهر. وإذ ذاك تقدر المعاني أكثر ممّا تقدر الألفاظ، ترى الألفاظ جسما والمعنى روحه. وترى المعني غاية واللفظ وسيلة. وتستحسن اللفظ لا لذاته، ولكن لأنه لفق المعنى..
تزين معانيه ألفاظه … وألفاظ زائنات المعاني”.