حبّ في زنزانة
مصطفى الحسناوي (معتقل رأي)
هوية بريس – الأحد 14 يوليوز 2013م
(من خلف أسوار السجن، وقضبان الزنزانة، وردت علينا هذه الخاطرة من الصحفي والحقوقي مصطفى الحسناوي، يزفها إلى قرائه ومتابعيه، والغريب أنها لم تتعرض للأربع سنوات التي حكم عليه بها..)، وإليكم نص الخاطرة:
أنتظر المساء بفارغ الصبر، أنتظر أن يقفل الحراس علي الأبواب التسعة لزنزانتي، لأتسلل إليك من كل الشقوق ومع كل النسمات لنكون في الموعد، أغمض عيني وفجأة أجدني قربك، كأن نسمة هواء قطعت بي كل تلك المسافات وتخطت كل الحواجز، قبل أن يرتد طرفي.
لا شيء يقف في طريق القرب والوصل والسفر إليك، إلا حواجز تصرفاتك وبقايا من نسيانك وهجرانك، جبال من الجليد، أحاول أن أذيبها بحرارة حبي؛ بهمساتي بخمري وأحيانا بنيران غيرتي وغضبي، سيبدو لك الأمر قسوة وغلظة وجفاء، لكن رغم ذلك، رغم قسوتي أحيانا إلا أني أجد النظر في وجهك والتملي بطلعته البهية مريحا ومفرحا، ومضيئا لما بين جوانحي من ظلمة، وقد أجد ملمس يديك باردتين ممتعا، وصوتك الذي يطير بي في كل الأجواء مطربا، وابتسامتك التي تقتلني وتحييني همة وتغتال ما بي من وحشة.
ما بك يا صغيرتي صامتة لا تجيبين هائمة فاردة لا تردين؟ ما بال هذا الذهول يخيم على وجهك وهذه الحيرة تغزو عينيك وتعلوا محياك؟ هل كنت تعتقدين أني لا أحسن سوى السجال والجدال، وأن بحر السياسة والصحافة، والفكر والثقافة، الذي خضته ابتعلتني أمواجه وغيبني عبابه، وأن لحيتي التي أعفيتها ألزمتني بالهجر والبعد والتبتل والزهد والتزام محراب التعبد، لا شيء من هذا وذاك حبيبتي.
أنت تعلمين أني أميرك وفارسك المغوار، فارس كل الساحات والميادين، الحب والحرب أخوض غمارها وأصارع أمواجهما؛ أصول وأجول، وأقتحم اللجج والمصايد؛ يكفي صعوبة أن أخوض بحار عينيك وأسبر أغوار قلبك وأصبر على قسوتك التي أعرف أنها قسوة الغنج والدلال، وتجاهل التي تتمنع وهي راغبة، وتشيح بوجهها وهي مقبلة.
لقد رأيت الحب في عينيك أول ما عرفتك، تأكدت منه مع الأحلام التي حلمنا، والآمال التي علقنا، سمعته حين ارتج قلبك وانتفض، ورأيته لما انسكبت الدموع حارة على وجنتيك حينما أخبرتك أن طريقي صعب، وأن مصيري الأسر والاعتقال؛ أتذكرين لما صارحتك بذلك؟ ورأيت الحزن في عينيك، وقلت لك: ستزيدين أحزاني؛ قلبي الضعيف أمامك لا يحتمل حزنك ولا يطيق رؤية دمعتك، فأحسست بك تودين احتضاني كطفل صغير وتحميني داخل قلبك من كل أعدائي المتربصين، الذين نسجوا حولي القصص والإشاعات.
كنت تعلمين أني سأخطف منك في أية لحظة، لذلك كنت متوترة وخائفة وحائرة ومترددة وشاردة، لكن رغم كل ذلك؛ أنت الوحيدة التي تعلمين براءتي من تلك التهم المخزنية السخيفة والحقيرة.
يكفيني حبيبتي أن تعلمي أنهم لم يأسروني بسبب تلك الأكاذيب التي يروجها إعلامهم الزائف لتضليل الشعب وإرهابه ولعب دور حامي حماه.
يكفيني أنك تعلمين أنهم أسروني بسبب مواقفي وشهامتي ومعارضتي لفسادهم وظلمهم، لم يستطيعوا استمالتي ولا شرائي ولا تخويفي أو إرهابي، فلفقوا لي تهما مضحكة وغبية، وطبخوا ملفا لا يصدقهم فيه أحد.
أسروني لأنني أحببتك ورغبت أن تكوني عوني وسندي في مشاريعي وكتاباتي ورسومي ولوحاتي، أنت نصفي الثاني الذي لا يكتمل بدونه نضالي وكفاحي.
أرأيت حبيبة قلبي كالعادة؛ حديثي ذو شجون لابد أن ينزلق للسياسة ومشاكل الشعب وحقوقه وقيمه وحريته، وهموم الأمة وتطلعاتها، هذا هو الشيء الوحيد الذي يشغلني عنك، قلبي منقسم بين حبيبتي وأمتي، لا أستطيع التخلي عن واحدة منكما، هذا هو همّي، وما عداه لا يهمني، لا تهمني عزلتي ولا قضيتي، لا تهمني تلفيقاتهم ولا أحكامهم، لأن حبك والتفكير فيك شغلني عن كل ذلك، عذابي وسجني هو بعدي عنك، لولا هذه اللحظات التي أناجيك فيها أو ألتقيك خلسة لجنّ جنوني وطار صوابي.
أقضي هكذا ليلتي ثم أنتظر اقتراب موعد الفجر للعودة إلى زنزانتي قبل أن يكتشف أحد غيابي، وقبل أن نتوادع ونفترق نتفق على موعدنا القادم، وأطبع قبلة حارة على جبينك وعلى راحة يدك، وحين أهيم بالرحيل ترغبين بالمزيد، وأرى الرغبة في عينيك وحمرة الخجل على خديك تزيدهما لمعانا دموعك المنهمرة عليهما، فأحتضن وجهك بين يدي وأمسح تلك الدموع الغالية بلطف وحنان، وأنا أكتم حزنا أعظم وأغالب دموعا أغزر أكون معها قاب قوسين من فقدان وعيي، فيوقظني آذان الفجر يشق السماء فاتحا باب الأمل في الوصل واللقاء.