مقالات في السياسة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة (ج2)
مدخل (تابع)
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الإثنين 22 يوليوز 2103م
تتعدد مقاصد الممارسين للسياسة؛ وجماعها: تطلب المصلحة ..
وفي الوقت الذي يفترض فيه أن تكون هذه المصلحة هي مصلحة المواطن1 كما يدعي ذلك كل من يمارس السياسة؛ فإن الغالب على المنخرطين في العمل السياسي أنهم يغلبون مصالحهم الشخصية ومكاسبهم الذاتية، ومن هنا فإن السياسة كانت مجالا خصبا لتكوين ومراكمة الثروات على ظهور الضعفاء وقليلي الوعي والمعرفة..
كما أن كثيرين مارسوا السياسة لحماية إمبراطورياتهم الاقتصادية، ورفع العقبات أمام توسعها..
وصنف ثالث إنما دخلوا السياسة للتمكين لإيديولوجيتهم ومحاولة فرضها على المجتمع ومصادرة حقوق من يخالفهم أو يعارضهم..
ولو كان هؤلاء يعقلون؛ لعلموا أن الممارسة السياسية لا يصح أن تكون مجالا لفرض قناعة معينة وتصور معين، وإقصاء من يخالف تلك القناعة أو التصور؛ وأن المجال الصحيح والطبيعي لتدبير التباين والاختلاف بين أصحاب المجتمع الواحد، وإقناع الناس ودعوتهم؛ إنما هو مجال الفكر والعلم من خلال النقاشات والحوارات والخطابات الإقناعية..
وإذا كنا في سياق ارتفعت فيه الأصوات مطالبة بالإصلاحات السياسية؛ فإن من أولويات هذا الإصلاح؛ تجريد الممارسة السياسية من كونها مطية لمصالح ذاتية أو وسيلة لفرض القناعات، وترك المجال السياسي خالصا لخدمة الناس وتحقيق ما ينفعهم من عدل وكرامة ورخاء وازدهار وتنمية وعيش كريم آمن..
وهذا مقصد جليل من مقاصد الممارسة السياسة كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وتطبيقات السيرة النبوية:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
وقال سبحانه: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
وعن جابر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خير الناس؟
قال: “المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس“2.
وعن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، (يعني مسجد المدينة) شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل“3.
والعارف بمهام التدبير السياسي ووظائفه وأعماله؛ يعلم أن هذا التدبير مجال خصب لتحصيل هذا الأجر ونيل تلك المنازل العالية: “أحب الناس إلى الله تعالى“.
فالسياسي الذي يقضي حاجة واحدة لأخيه قد يكون أجره أعظم من العابد الذي يعتكف في المسجد النبوي شهرا، فكيف بمن وطن نفسه على قضاء حوائج الناس وتحقيق مصالحهم: يسهل المساطر الإدارية، يشفع الشفاعات الحسنة، يوجه، يعين، يقرب..
ومن هنا استفاضت النصوص والآثار عن السلف والأئمة بفضل الولايات لمن أخذها بحقها وأحسن فيها:
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به». رواه مسلم.
وعن القاسم بن محمد قال: سمعت عمتي تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ولى منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه“4.
روى أبو بكر الدينوري المالكي (ت 333هـ) في كتابه (المجالسة وجواهر العلم) بسنده عن الحسن قال: كان يقال: لأجر حاكم عدل يوما أفضل من رجل يصلي في بيته سبعين سنة أو ستين سنة.
قال الحسن: إنه ليدخل في ذلك اليوم على أهل بيت من المسلمين خيرا”.
قال العز بن عبد السلام: “وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات فإن الولاة المقسطين أعظم أجرا وأجل قدرا من غيرهم لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلام يسير وأجر كبير”اهـ5.
من هنا؛ حرص كثير من المصلحين –وعلى رأسهم الأنبياء عليهم السلام- على الحكم وتولي الولايات لجعلها طريقا إلى الإصلاح وتحقيق العدل وإيصال الحقوق إلى أصحابها:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34، 35].
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: “هذا محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه”اهـ6.
وقال سبحانه عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 55 – 57].
قال القرطبي في تفسيره: “قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك.
وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز.
والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه، والله أعلم”اهـ7.
قلت: ومن أهل العلم من جوز الولاية ولو لم يتحقق الشرط المذكور إذا كان في ولايته قادرا على تخفيف الشر أو تكثير الخير؛ كما سيأتي بيانه بحول الله تعالى..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصلحة من المنظور الشرعي أوسع معنى كما سيأبينه بإذن الله تعالى في التعريفات.
2- سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح 426).
3- سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح 906).
4- أخرجه النسائي (2 / 187) بإسناد صحيح (انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 881)).
5- قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 142).
6- تفسير القرطبي (15/ 204).
7- تفسير القرطبي (9/ 215).