أزواج الظالمين.. (لا تُسْلِمُوا أهل غزة)
مدارسات في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (الحلقة الثالثة)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الأربعاء 16 يوليوز 2014
لا يعرف قدر الشيء إلا من جربه أو نظر إليه ببصيرة الشرع؛ فإن من تمام التكريم الإلهي للعنصر الآدمي على سائر عُمَّار الأكوان؛ خلق أحكم الحاكمين له في أحسن تقويم؛ بجعل السمع لوعي الكتاب المسطور، وبجعل الأبصار لأنظار الكتاب المنظور، وبجعل الأفئدة لأفكار أدبار المعاني..
في محاسبة دائمة بين نفسه المطمئنة وبين اللوامة “تماماً على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء“..
وفي رقة لا تخفي عاطفة الإحساس الجياش الذي كان به أبو بكر رجلاً أَسيفاً يرق للذكر الحكيم ولا يتحمل أن يرى الظلم والأذى..
عاطفة جعلت من سفيان الثوري يشفع لتحرير عصفورٍ من القفص ويقول لأبي الصبي: “ناغه حتى ينساه”، فقال الرجل للثوري: “هو يهبه لك”، فقال سفيان: “لا ولكني أعطيه دينارا”، فلا ينساها العصفور له حتى شوهد في جنازة سفيان مشيعاً يطير فوق نعش سفيان المحمول على الأكتاف؛ بل وجدوه بعد ثلاث ميتاً فوق قبر سفيان.. (انظر ترجمته في السير والحلية).
رحم الله سفيان، ورحم الله العصفور..
إن الظلم دركات ودكاكات، وبقدر البصيرة والتجربة والقراءة الواعية للتاريخ؛ تجد عقلاء الأمم -حتى من غير ملة الإسلام-؛ يأبون الانخراط في طوابير الظلم ولو بشطر كلمة؛ ولهذا كان من أمهات الأخلاق التي لا مساومة عليها -إلا أن يكون المتلبس بها من أهل الكبائر التي ربما تفضي به إلى الكفر أو الانطماس عن الهدى-..، فقد نتحمل بخل البخيل وخلل جِيناتِ الكرم والجود عنده فنصلحها بتلطف؛ ولكن خلق العدل حتمي على الفرد والأمة “وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً“.
من هذه الزاوية الواسعة الأرجاء؛ أشيرُ إلى قَبسٍ عن الحافظ ابن تيمية الذي جعل لقيمة العدل في حياته -حتى مع خصومه-، وفي كتاباته؛ مكانا بارزاً نذر عمره لتقريره؛ بدأً من أظلم الظلم وهو الافتراء على الله -وهو أنواع-، وانتهاءً بظلم النفس باستمراء الشبهات أو الانصياع للشهوات؛ مستسلمين في “معركة المراغمة” مع الشيطان كما سَمَّاها تلميذه الإمام ابن القيم. (وقد شرحناه في غير هذا السياق).
والمراد أن ابن تيمية وَفَّى قيمة العدل حقها وكان له مع طاغية الظلم وقارعة الاضطهاد صولات من الإنكار والتحذير؛ قال رحمه الله تعالى في مجموع فتاواه (28/283):
“.. ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم؛ فإن التعاون نوعان:
الأول: تعاون على البر والتقوى؛ من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين..
فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة؛ فقد ترك فرضا على الأعيان، أو على الكفاية متوهما أنه متورع!
وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع؛ إذ كل منهما كف وإمساك.
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان؛ كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب..، ونحو ذلك؛ فهذا الذي حرمه الله ورسوله”اهـ.
وهذه الإشارة من ابن تيمية في تلبيس الجبن والفشل وضعف التخطيط وخور العزائم؛ بلبوس الورع والحكمة وبعد النظر وإدراك العواقب وقراءة الغيوب!!!
أمر مهم من مهمات العصر تجده في ميادين شتى؛ فرب رجل ليس له قدرة على حفظ العلم فينقلب بضعفه مَدَّاحاً لدرجة الفهم وأن فهم الكلام هو الأساس وأن الحفظ نسخٌ زائدة!
وتجد بعضهم يستهتر بتحقيق التراث لأنه لا يستطيع مسايرة لغة الأقدمين؛ فينقلب ذاما للكتب الصفراء مدَّاحا لفقه العصر والتدقيق في النوازل وأن ما عداه عبث!
وكل هذه المعارك المفتعلة بين الحفظ والفهم، وبين القديم والجديد، وبين الحكمة والتدافع؛ حروب خيالية ليست موجودةً شرعاً ولا تاريخاً؛ وإنما الشأن في حسن التوفيق وفي روعة التعاطي؛ لأن هذه السبل تجتمع ولا تتناقض ورجال الصدق في الأمة يتكاملون ولا يتعارضون..
ومن كان عليه مأخذ تعومل بواجب الشرع نصيحةً وتبييناً، بغير اعتداءٍ أو تحاملٍ ولا اغترارٍ بأن الملاحِظَ مُحقٌّ؛ بل قد يكون أشدَّ خطأً وأوقعَ وهو لا يشعر ومخالفه أسعد بالسنة وهدي السلف منه؛ وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية:
“فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك: نُظِرَ فيه؛ فإن كان قد فعل ذنباً شرعياًّ عوقب بقدر ذنبه بلا زيادةٍ؛ وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعياًّ لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غَرض المعلِّم أو غيره؛ وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء؛ بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى.
وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحدٍ عهداً بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه؛ بل من فعل هذا كان من جنس جنكيزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً موالياً ومن خالفهم عدوًّا باغياً..
والإعراض -يعني في قوله تعالى: “وإن تلووا أو تعرضوا“-: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت على الحق شيطان أخرس، والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدةً مع المحق على المبطل (ومع المظلوم على الظالم)؛ فيكون المعظم عندهم ما عظمه الله ورسوله…
ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله، بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم..، وتجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، حتى يكون الدين كله لله..
فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه؛ فليس لأحد من المشايخ والملوك والعلماء والأمراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك”.
(بتصرف واختصار من المجموع ج 28 ص7-25).
ثم يؤكد شيخ الإسلام مسألة الظلم والتظالم وخطر المظاهرة عليه -ولو بالسكوت فضلاً عن التأويل أو التسويغ أو التأييد-؛ فيقول في موضع آخر -وهو يفسر قول الحق: “احشروا الذين ظلموا وأزواجهم“:
وأن زوج الشيء: نظيره؛ اليهودي مع اليهود والزاني مع الزناة وأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الربا والتطفيف والسحت، وأهل الخيانة والتسميع والبهت مع نظرائهم -عياذاً بالله تعالى- على حد قوله تعالى: “وإذا النفوس زوجت“.
قال رحمه الله: “وقد قال غير واحد من السلف: “أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنه لاقَ لهم دواة أو برى لهم قلما؛ ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم، وأعوانهم هم من أزواجهم المذكورين فى الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك.
قال تعالى: “من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها“.
قال: “فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله، من نفع من يستحق النفع و دفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه.
والشفاعة السيئة: إعانته على ما يكرهه الله ورسوله؛ كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان الذي يستحقه”. [مجموع الفتاوى ج7ص62-72]
قلت: ومن شواهد ذلك في حياة السلف؛ ما ذكره أبو بكر المروذي؛ قال:
“لَّما سجن أحمد بن حنبل جاء السجان فقال له: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟
قال الإمام أحمد: نعم.
قال السَّجَّان: فأنا من أعوان الظلمة؟
قال الإمام أحمد: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن الظلمة أنفسهم”.
(سير السلف الصالحين للحافظ إسماعيل الأصبهاني 1/1059).
وجاء خياط إلى سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: “إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟
فقال له سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط”.
قلت:
وهذا البذل من أجل الحق والعدل ورفع الباطل والظلم؛ هو الذي جعل جبل السنة وإمام المحنة يصطبر نحواً من سبعة عشر سنةً وهو شيخ مسن قد ناهز السبعين؛ تتناقله أيدي الظالمين فلا يدعو لفتنةٍ، ولكنه لم يسكت عن إحقاق الحق وإبطال الباطل.
ولما عرض عليه تلميذه أحمد بن داود الواسطي التورية للخروج من الأزمة وأنه لا نتائج لفعله؛ فقال له: “دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: “يا أبا عبد الله: عليك عيالٌ ولك صبيان وأنت معذورٌ -كأني أسهل عليه الإجابة-؛ قال له الإمام كلمته الخالدة:
“إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت”. (طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/43).
تهكما بِقِصر نظر الهمة، وتحسرا على الموازين المنكسة، وتأسفا على نفوس هي إلى أحوال من رفع عنهم القلم أقرب منها إلى من يفقه عن الله وعن رسوله، وله بصيرة في سنن الإله التي ليس لها تبديل ولا تحويل..
قيل للإمام بشر بن الحارث الحافي يوم بدأت محنة الإمام:
“لقد ضرب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطاً”.
فَمَدَّ بِشْرٌ رِجْله وجعل ينظر إلى ساقيه ويقول: “ما أقبح هذا الساق أن لا يكون القَيْدُ فيهِ نُصْرَةً لهذا الرجل”. (مناقب أحمد لابن الجوزي ص119).
وكان سفيان يقول: “إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلم فيه؛ فلا أفعل فأبول الدم”..
إن دين الله مطية للابتلاء والفاقة كما صحت بذلك الأخبار -عافانا الله وإياكم-؛ فمن أراد حفظه بالاستسلام والاستكانة التي تحرف معانيه في عقول الأمة؛ فبئس الاختيار ويا شؤم القرار، وإنما يحفظ بمثل عزيمة الإمام أحمد وبمثل فقه ابن تيمية في دقائق الظلم والعدل.
وأن يقبض من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ على نحو قول عمر: “إني أحب من الرجل إذا سِيمَ خُطَّةَ خَسْفٍ؛ أن يقول بملئِ فِيهِ: “لَا”.
وقوله: “اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة”.
وقوله للمتخاشع البارد: “لا تُمِتْ علينا ديننا”.
وهذا الباب عند السلف أعظم من أن يحاط برؤوس أقلامه؛ فضلاً عن تفاصيله..
ونحن دوما -بحول الله- سنستعظم علوم السلف وطرائقهم في رعاية الشريعة عقيدة وأخلاقاً وأحكاما، وسنستعظم دمِ الحيض ونتدارسه ونتفقه فيه؛ ولكن لن نترك دم المظلومين -وها هي أعراض المسلمين ودماء المظلومين تنتهك في غزة وفي مصر وفي الشام وفي غيرها- فرج الله عنا وعنهم وأدام الله على المغرب أمنه وأمانه في ظل ثوابته كفاها الله سوء البطانة-..
ومعاذ الله أن يكون دم الحسين ودم الأرنب سواء؛ كما قال ابن عباس.
ناظرين لمجموع أحوالهم ومناطات تصرفاتهم، غير باخسين الخلف -كابن تيمية- حسن بيانهم ورائق قرائحهم في النَّهل من فتوحات الله عليهم -وما أكثرهم في هذه الأمة المرحومة-..
ولن نقدم أصلاً على فرعٍ، وسنحفظ الفروع بحفظ الأصول؛ بعزةٍ تمنع المهانة، وحكمةٍ تمنع التهور؛ في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلة والله عزيز حكيم..، والله المستعان.