قطع اللجاج بتقويم ما في اعتدال أخينا القباج من اعوجاج (ج3)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الإثنين 02 مارس 2015
إن الحي لا تؤمن عليه الفتنة
نبدأ في هذا المقال من حيث انتهينا في المقال السابق، انطلاقا من قول الأخ القباج: (ولو فعل ذلك عالم معاصر؛ لانقضت عليه مخالب الغلاة المتعالمين!)1. ومعنى قوله هذا أنه ما فعل عالم معاصر فعل الدارقطني؛ ولهذا لم يحصل انقضاض الغلاة، وذلك لكون “لو” تفيد في الأصل الامتناع، مما يجعل المعنى هو؛ امتنع الغلاة عن الانقضاض لامتناع وجود عالم معاصر فعل فعل الدارقطني.
وهذا ظاهر، حيث أنه لو استحضر القباج نموذجا سنيا سلفيا معاصرا فعل مع أشعري مثل فعل الدارقطني مع ابن الباقلاني، لسارع إلى الكشف عن اسميهما. وهذا يُستشف منه أن علماءنا المتبعون لمنهج السلف السنيون السلفيون المعاصرون، لم يتخذوا سلوك الدارقطني منهجا عاما في معاملة المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة. مما يدل على أنهم، لا هُم فهموا من حادثة الدارقطني ما فهمه القباج، ولا هُم قرروا منها ما سعى إلى تقريره هو من توقير وتعظيم المخالفين لمعتقد أهل السنة.
لشيء الذي جعل من تعليقه الأخير هذا يعمل ضد مراده، ولا يخدم المبدأ المقصود تقريره عنده من القصة، والذي هو توقير وتعظيم أهل السنة للأشاعرة خاصة والمخالفين عموما.
وبهذا يكون مثل الأخ القباج في استدلاله بالقصة وتعليقه عليها بقوله: (ولو فعل ذلك عالم معاصر)؛، كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا2، وذلك لما يعود به تعليقه هذا، من نسف وإبطال كل ما حاول تقريره في تعليقه الأول من مدح المخالفين وتوقيرهم وتعظيمهم.
وإلا فبالله عليكم كيف بنا لو رأينا أمثال الشيخ ابن عثيمين يقبل وجه وعيني محمد الغزالي؟
وكيف بنا لو رأينا الشيخ ابن باز يقبل وجه وعيني الكوثري؟
وكيف بنا لو رأينا الشيخ الألباني يقبل وجه وعيني الغماري؟
وهل هؤلاء الثلاثة؛ الغزالي والكوثري والغماري، هم من المتعمدين أم هم من غير المتعمدين؟!!
بل كيف بنا لو رأينا أحد الأئمة الثلاثة الأفاضل ابن باز وابن عثيمين والألباني، قبل وجه وعيني القرضاوي، وإن كان أخونا القباج يعد القرضاوي ((((سلفيا)))) من غير تقبيل.!! وهذه جرأة عجيبة منه، ليس له فيها سلف، ولا إمام معتبر، بل هي حادثة كفيلة بإسقاط قول عالم معتبر ونزع الثقة منه، فكيف بالأخ القباج، وهو بلا شك دون منزلة العالم المعتبر؟
بل كيف بالقباج لو عاصر العلامة الحسين الكرابيسي وهو أحد بحور العلم كما وصفه الذهبي عند ترجمته له في السير؟
فقد روى الإمام عبد الله رحمه الله في كتابه “السنة”3 (قال سمعت أبي يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق هذا كلام سوء رديء، وهو كلام الجهمية. قلت له: إن حسينا الكرابسي يقول هذا؛ فقال: كذب هتكه الله، الخبيث).
وروى البغدادي في تاريخه4. أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سئل عن الحسين الكرابيسي، فقال: هو مبتدع.
ترى أيها القارئ الفاضل ما سر اعتراض الإمام عبد الله على أبيه بقوله، “إن حسينا الكرابسي يقول هذا”. أظن أن الأمر جد واضح، وهو أنه استشكل عليه حجم التجريح الصادر من الإمام أحمد في من يقول بقول الجهمية، مع حجم قدر الإمام الكرابيسي حيث كان في سابق علمه أنه يقول لفظي بالقرآن مخلوق. فأراد أن ينبه أباه إلى أن هناك من الأفاضل الأخيار من يوافقهم القول، وذلك لعل الإمام أحمد يغير رأيه باستثناء في حكمه أو تقييد. وحق للإمام عبد الله في هذا الاستشكال، فإن الحسين الكرابيسي هو من هو. لكن الإمام أحمد لم يفعل ولم يغير رأيه، وذلك حتى لا يورط ابنه كتوريط الدارقطني للهروي.
وحق له ذلك “فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة”، ألم ينخدع عمران بن حطان، وكان من أهل السنة وحين هوي امرأة من الخوارج، أراد أن يتزوجها ويهديها إلى السنة، فلما تزوجها أوقعته في بدعة الخوارج؟
ألم ينخدع الإمام البيهقي بابن فورك؟
أوَ لم ينخدع في زمننا هذا بعض السلفيين بالإسلاميين السياسيين فوقعوا في حبائل الديمقراطية والديمقراطيين والعلمانية والعلمانيين، حتى تكلفوا تأويل النصوص ولي أعناقها بما لم يخطر على بال إسلامي ولا بال علماني، كما تعسفوا الإتيان بالأقيسة الفاسدة5 بما يتمشى مع ضغط الواقع بدعوى أنها تمثل مقاصد الشريعة وفيها تحقيق مصلحة؟
بل كيف بالأخ القباج لو عاصر الحارث المحاسبي ورأى زهده وورعه وتصانيفه في الزهد، فهذا الإمام أبو زرعة رحمه الله سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: “إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر”6.
رحم الله الإمامين لو كانا في زمننا هذا لرماهما الأخ القباج تبعا لمنهجه في الاعتدال، بالتشدد، والمدخلية، والربيعية، والغلو، والجرأة الخطيرة. وذلك كرميه للشيخ الربيع بن هادي المدخلي بوصفه له بقوله: “وإنما يتحدث الشيخ -يقصد ابن عثيمين- عن الحزبية التي وقع فيها عدد من الدعاة وطلبة العلم السلفيين؛ من أمثال: الشيخ ربيع المدخلي ومن سار على دربه من الغلاة ذوي الجرأة الخطيرة”7. وهذه حادثة تضاف إلى حوادثه السالفة الذكر، حيث أن القباج لم يميز في خطابه بين عالم جليل من علماء الجرح والتعديل في هذا الزمان، وبين مخاطبته الأتباع، فهو لا يجهل قدر الشيخ ربيع، الذي هو أهل لأن يحظى من أمثال القباج بأضعاف مضاعفة مما حظي به ابن الباقلاني من معاملة وحسن تقدير وتقبيل للوجه والعينين من الدارقطني.
وذلك أولا لكون الشيخ ربيع يفوق القباج علما، وأما الثانية فلشهرته في أوساط العلماء بحسن الاعتقاد والذب عن حياض السنة وأهلها. وأما الثالثة فلأن المسافة بين منزلة القباج ومنزلة الشيخ ربيع، هي أبعد وأوسع طولا وعرضا بكثير من المسافة التي بين منزلة ابن الباقلاني ومنزلة الدارقطني، بل ليس بين هذين الأخيرين من جهة التحصيل مسافة أصلا فهما أقران لولا الاختلاف العقدي بينهما.
أما عن شدة الشيخ ربيع على بعض العلماء والدعاة السلفيين، فهذه كانت خشية أن ينخدع ويرتاع أبناء أهل السنة في حمى أهل الأهواء، اغترارا بتساهل أولئك الدعاة في بعض إطلاقاتهم ومواقفهم. وذلك كمن تساهل منهم في إطلاق القول بالتكفير بالإصرار وتصريحه بكفر المُصِر8، وهو يريد كفر الاستحلال وكفر المستحل. ولولا تدخل الشيخ ربيع بقوة وصلابة تقتضيها خطورة الانزلاق، حتى ألزم المعني بهذا الإطلاق بتعديل عباراته تقييدا وتفصيلا وتبيانا وتوضيحا لمراده، لما قُوِّمَ الاعوجاج. ناهيك عن وقفته بصرامة في مسألة المجمل والمفصل، وكذا مسألة الموازنة في أهل البدع، والذي يرجع إلى مساجلات هذا الرجل مع الذين خالفهم الرأي، لا يشك لما يجد عنده من سيولة علم، أن الله قيده لهذا الزمان لحفظ منهج أهل السنة والجماعة من التميع والتفسخ على يد من هم معدودون من أهل السنة والجماعة. ومن أدل شيء على هذا، أن غالب، إن لم أقل كل الذين رد عليهم الشيخ ربيع وحاججهم، كانت ردودهم مليئة اعتذارات وتبريرات وتأويلات وتفسيرات وتوضيحات وتعليلات؛ تارة بقول بعضهم لم أقصد، وقول البعض الآخر كان مرادي، وكان قصدي….، وهكذا هي ردودهم، حديثا وقديما هي مجرد تبريرات وتوضيحات؛ فهذا الحسين الكرابيسي نفسه وهو من بحور العلم لما جرحه الإمام أحمد لقوله لفظي بالقرآن مخلوق ورماه بالابتداع. كان رده مجرد توضيح لمراده، حيث قال موضحا قوله في القرآن: تلفظك بالقرآن يعني: غير الملفوظ. وهذا لا يعتبر ردا، لأن حسين الكرابيسي لم يخرج بتوضيحه عن تأكيد المدلول الذي أراده الإمام أحمد. وهكذا كان حال غالب من تناولهم الشيخ ربيع وتصدى لهم. ومع كل هذا فإننا لا ندعي أنه لم يكن شديدا في عباراته على المخالفين، لاسيما السلفيين منهم. ولم ندع له العصمة في كل إنجازاته، فكل يؤخذ منه ويرد. إلا أن شدته في واقع الأمر لا تختلف في الأصل عن شدة الإمام أحمد على الكرابيسي وغيره من الأفاضل، ولا تختلف عن شدة أبي زرعة على المحاسبي؛ شدة اقتضاها حجم الانزلاق ومقدار خطورته.
والأكثر من هذا بل والأنكى في هذه الحادثة للأسف الشديد مما يجعل منها حادثة مركبة، هو حمل الأخ القباج كلام الشيخ ابن عثيمين9 على الشيخ ربيع، وهذا على شهرة ثناء الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على الشيخ ربيع بل وعلى منهجه، وذلك كما هو واضح من جوابه لما سئل عن منهج الشيخ ربيع هل هو مخالف لمنهج أهل السنة؟ فكان جوابه رحمه الله: (ما أعلم أنه مخالف، والشيخ ربيع قد أثنى عليه أهل العلم المعاصرين، أنا ما علمت عليه إلا خيرا)10. وهذا مما يؤكد لكل ذي بصر وبصيرة أنه رحمه الله لم يرد الشيخ ربيع ولا منهجه بكلامه الذي اعتمده القباج في مقاله.
ولولا خشية الخروج عن مقصود هذا الرد لأتحفت القارئ بثناء العلماء على هذا الشيخ وعلى منهجه.
ثم لِمَ نحن لم نتساءل أصلا، ولحد الآن عن مناسبة احتجاج الأخ القباج بقصة الإمام الدارقطني وما تضمنته من ثناء على ابن الباقلاني؟
أما إن كان عن الإمام الذهبي فالمناسبة هي مناسبة ترجمة لابن الباقلاني، أما عن الأخ القباج فلمن كان يترجم؟
مع العلم أن الأصل في منهج أهل السنة عند النقد والحكم على الأشخاص والطوائف جرحا وتعديلا في غير ترجمة، هو عدم ذكر حسنات المخالفين، وذلك لعدم خلو أحد أو طائفة من حسنات. فإن كان ولا بد من ذكر الحسنات فلِلتَّحذير من الاغترار بها. ومن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: “يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم”. فهو لم يرد عليه السلام مدحهم بكثرة الصلاة والصيام. وإنما كان مراده عليه السلام أن يحذر أمته من الاغترار بصلاتهم وصيامهم، وكأنه عليه السلام يقول لأمته؛ احذروا أن تغتروا بصلاتهم وطول قيامهم وصيامهم.
ومن ثم فالمقام كان يقتضي من الأخ القباج وهو لم يكن في موضع ترجمة للابن الباقلاني، ألا يقتصر على نقل قول الذهبي فيه وهو يترجم له: “كان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة…”، وإنما كان عليه أن يتعدى به الأمر إلى القول؛ أداء للأمانة، وتبرئة للذمة، ونصحاً للأمة، احذروا أن تغتروا بردود ابن الباقلاني على المعتزلة فإن عقيدته أشعرية وليست سلفية، وذلك تماما كقول أبي نصر السجزي السالف ذكره: “فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة…”11. فإن الكتابة في الترجمة ليست كالكتابة في نقد الرجال.
يتبع…
ــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر رقم:6 بهامش الحلقة 4 من سلسلة “الاعتدال في نقد الرجال”.
2- وهو مثل يضرب لكل إفساد بعد إصلاح، و نقض بعد إبرام، وإنكار بعد إقرار. وهو وفق مدلولا المثل المغربي الشعبي : “لِحْرَثْ اجْمَلْ دَكُ“. وقد ورد في القرآن تقبيحا لنكث العهد بعد توكيده وعدم الوفاء به؛ في قوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون. ولاتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً} (سورة النحل الآية:91، 92).
3- (1/165).
4- (8/66).
5- كقياسهم ولاية البرلمان على ولاية يوسف ومُلك سليمان عليهما السلام مع وجود الفارق. انظر غير مأمور الحلقة 4 و5 من سلسلة مقالاتي: “وقفات مع كتابات ومقالات في الممارسة السياسية والأنظمة المعاصرة” موقع “هوية بريس”.
6- التهذيب (2/117).
7- الاعتدال في نقد الرجال (ح3).
8- وهو الشيخ الحويني عجل الله شفاءه.
9- الاعتدال في نقد الرجال (ح3).
10- أنظر شريط “الأسئلة السويدية”، وشريط “إتحاف الكرام”.
11- قطع اللجاج (ج1) من هذه السلسلة.