اليسار والاختيارات العقائدية قراءة في المسار والتحولات
هوية بريس – ذ. بن الطالب عبدالغني
فرّق منصف المرزوقي الرئيس التونسي الأسبق بين اليسار الاجتماعي واليسار العقائدي الأيديولوجي الذي انحرف عن هدفه وانخرط في صراع عقائدي مع خصومه وأصبح مساندا للأنظمة الديكتاتورية الظالمة، وانشغل بمحاربة الإسلاميين ليتحول إلى مساند رسمي للرجعية العربية وللإمبريالية المتوحشة.
البداية و التحولات:
فمنذ نشأة اليسار العربي وهو ينادي بإسقاط الرجعية العربية ونصرة الشعوب المقهورة ومحاربة الإمبريالية الغربية حتى أصبح نقيضا لليبرالية ومساندا للنضال ضد الفقر والقهر والظلم والاستعمار.. فظهر أبطال ومقاومون من عمق اليسار وسطروا بطولات في الكفاح الوطني والقومي والعالمي حتى أصبح اليسار أمل كل المثقفين والمظلومين والثائرين.
ومع تنامي قوة الحركات الإسلامية بدأت الصراعات اليسارية العقائدية تتشكل وتبرز، فكان النظام الناصري القومي الاشتراكي أول من دخل في المواجهة الصريحة مع الإسلامييين وتشكلت مفاهيم الاستقطاب القومي اليساري الليبرالي لمواجهة المد السياسي للحركات الإسلامية .. و رغم ظهور ملامح الصراع العقائدي فقد ظل اليسار محافظا على مسافة بينه و بين الرجعية العربية والتغول الأميريكي الصهيوني وظل يتأرجح بين المشاركة النضالية والصراع العقائدي، ومما زاد اليساريين ميلا إلى الجانب العقائدي ظهور التيار السلفي الذي طرح نفسه نقيضا للحركات الإسلامية واليسارية على السواء، فلم يفرق اليسار بين تشكيلات الخط الإسلامي ووظف التنوع وهجوم التيار السلفي ومواقفه المعادية للتغيير والحداثة، ضد أعدائه السياسيين خاصة وأن الساحة النضالية لم تعد ملكا له وأغلب قيادات ومناضلي الإسلام السياسي جاؤوا من عمق اليسار و الحركات القومية. و بوعي أو بغير وعي أحيانا كثيرة كانت ردود الفعل قوية وصادمة بين كل الاتجاهات فانهارت كل محاولات للتقريب والتواصل، وازداد التباعد بانتصار الثورة الإيرانية وانتصارات المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان و تنامي قوة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.. ووجد اليسار نفسه في الهامش و قريبا من الخروج من اللعبة ولم يعد ممثلا كما كان شعبيا وقوميا بل ولاحظ مغازلة السلطة للإسلاميين للتخلص من قوة اليسار الراديكالي في لعبة سياسية تقاطعت فيها المصالح لتنتهي بتوازنات سياسة غير مرغوب فيها انتهت بضعف اليسار واستقطاب رموزه الثورية للعمل في وزارة الداخلية ورموزه الثقافية لمهاجمة الإسلام والحركات الإسلامية ضمن لعبة التوازنات السياسية للأنظمة الحاكمة.. غير أن عقلاء اليسار ظلوا محافظين على مسافة بينهم و بين أطراف اللعبة إلى أن جاءت موجة الربيع العربي لتكشف ما لم يكن متوقعا؛ فسقطت أكثر الأنظمة الديكتاتورية و خرجت الشعوب بعفوية متجاوزة كل الأحزاب والحركات وكانت التنظيمات والأحزاب الإسلامية وحدها المؤهلة للقيادة والمشاركة لأن الشعوب مرت بتجارب يسارية وقومية في العراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن.. ولم تنتج هذه التجارب إلا صراعات وفقر وظلم..
وأمام هذا الواقع ظهرت التجربة التركية قوية ناضجة اندمجت فيها كل التيارات الإسلامية والعلمانية والقومية بقيادة الإسلاميين، فشكلت دفعة قوية للتيار الإسلامي والشعوب العربية وأملا للخلاص من التخلف والتبعية.. كما شكلت انتكاسة للمشروع اليساري العقائدي الذي آثر الانحياز إلى الأنظمة البوليسية والقمعية والتصالح مع الإمبريالية والرجعية العربية. و أصبحت الإمارات والسعودية نقطة استقطاب للمناضلين القدامى والمفكرين المزيفين وتشكلت تحالفات جديدة للقضاء على كل ما هو إسلامي.
تحالفات جديدة و صراعات استراتيجية:
وجد اليسار نفسه بعد 2011 أمام خريطة سياسية جديدة تلعب فيها (الرجعية العربية) القديمة دورا مركزيا.. ومرة أخرى تتقاطع المصالح الوجودية والعقائدية والاقتصادية بين الدول العربية وإسرائيل والغرب الإمبريالي والتيارات التقدمية والعلمانية والأنظمة الديكتاتورية فتم خلق داعش “السلفية” المتشددة بأموال خليجية ودعم غربي لإسقاط بقايا جبهة الممانعة (سوريا والعراق) فوجدت تركيا وإيران وحزب الله نفسها أمام معركة وجودية ومصيرية، لأن سقوط سوريا و العراق في أيدي الرجعية العربية هو الطريق لإسقاط المقاومة في لبنان و محاصرة تركيا و إسقاطها، و هو ما لم يفهمه الرئيس الشهيد محمد مرسي فأعلن دعمه للجهاد في سوريا تعاطفا مع الفصائل الإخوانية والإسلامية المقاتلة. وكان طبيعيا أن تتخوف إسرائيل من ظهور قوة جهادية منظمة تحت راية مصر، و أن تتخوف دول الخليج من تحولات المركز العاطفي الديني و سحبه منها لأن ذلك بداية للسقوط و الانهيار فتم إسقاط التجربة الساسية الوليدة في مصر و إعلان عاصفة الحزم لإسقاط حركة الإصلاح في اليمن و التطبيع العلني مع إسرائيل وتمويل الانقلاب الفاشل في تركيا واستقطاب كل القوى المعادية للإسلام.. ووجد اليسار العقائدي نفسه مضطرا للمواجهة ومضطرا إلى أن يصبح جزءا من محور الشر والتطبيع حتى يستعيد ما سحب منه أو على الأقل أن يسهم في تدمير المشروع النقيض ولو على حساب المبادئ والقيم وحتى الوطن أحيانا فسكتوا عن إدانة الانقلاب العسكري في مصر وفرحوا بالانقلاب الفاشل في تركيا التي خرج شعبها ضد العسكر فاسقط المؤامرة ومعها سقطت آمال اليسار في إعادة خلط الأوراق وترتيب الدخول الجديد إلى الساحة السياسية من خلال نافذة العسكر والديكتاتورية والقمع وهو ما لم يكن متوقعا من مناضلين تجمعوا أساسا حول برنامج يناضل من أجل تحرير الشعوب ومحاربة الاستبداد.
مواقف سياسية/عقائدية غريبة:
وتتابعت الانحرافات وأصبحنا لا نفرق بين اليمين واليسار بين الرجعية والتقدمية لأن الهدف المشترك بين الجميع بما فيهم التيار السلفي الخليجي وإسرائيل هو إزاحة الإسلام السياسي من الساحة، وهي مهمة دفعت بالبعض إلى اعتماد النقد الأخلاقي والديني لتشويه الحركات الإسلامية بدل المشاركة الفاعلة في بناء الوطن وتحرير الشعوب واعتماد خطاب سياسي مرن يتوافق مع المبادئ المسطرة في البرنامج النضالي.
و من غرائب النضالات مواقف بعض اليساريين من المغرب وتونس حين ساندوا حفتر لإسقاط حكومة الوفاق ذات الأغلبية الإسلامية، مع العلم أن انتصار حفتر فيه دمار مباشر لتونس، ومتاعب قوية للمغرب تتمثل في مساندة ودعم البوليساريو، وذلك هو جوهر الخلاف بين المغرب و دول الخليج،التي دفعتها مصالحها لتدمير استقرار الدول والتدخل المباشر في سياساتها.. فانتصار حفتر دعم لامتداد النظام الديكتاتوري المصري ودافع قوي لإسقاط التجربة التونسية، وهو ما سيشكل دعما قويا لجنيرالات الجزائر ونكون بعدها تحت رحمة الضغط والاستبداد بل وظهور حفتر جديد يقود الهجوم على الدولة المغربية.. وتسقط كل أوراق التوت و يتحول المغرب إلى ليبيا جديدة لا يقوى على الصمود أمام المال الخليجي والسلاح الحفتري والحقد العسكري الجزائري. إنها معركة الوجود. و كل من راهن فيها على تدمير الآخر فقد عرض نفسه كذلك للتدمير. هذه الخيارات المفروضة على (الرجعية العربية) -كما كان يسميها اليسار- محاولة منها للحفاظ على وجودها دفعتها لممارسات لا إنسانية ضد الشعوب العربية، فانساق خلفها اليسار الأيديولوجي ليصبح عنصرا ظلاميا ظالما داخل المشهد السياسي العربي، يسوقه عماه العقائدي للتحالف مع (القوى الرجعية) ضد أعدائه التاريخيين ولو أدى ذلك إلى تدمير الشعوب وإدخالها في حروب أهلية ومجاعات وانقسامات وصراعات تمهيدا لسيطرة الغرب وإسرائيل على المنطقة. إن مثل هذه السلوكات الداعمة للعسكر و قهر الشعوب لن تذهب بعيدا لان إرادة الأمة أقوى من العقائد الرجعية، و أقوى من المصالح البعيدة عن الاختيارات الشعبية والوطنية. إنها مرحلة التصفية والتصنيف.. ولا شيء يبقى – بعد هذه التحالفات المشبوهة – إلا خيارا أساسيا واحدا ووحيدا هو تجمع القوى الوطنية المخلصة بجميع تياراتها وتنوعاتها لمواجهة التدمير والتشويه وبناء الدولة والمجتمع، وأن يكون المقياس هو المصلحة الوطنية العليا ومعاداة كل شكل من أشكال التجزئة وكل أشكال العمالة لعناصر الفوضى والتخريب.
ولا شيء يبقى – بعد هذه التحالفات المشبوهة – إلا خيارا أساسيا واحدا ووحيدا هو تجمع القوى الوطنية المخلصة بجميع تياراتها وتنوعاتها لمواجهة التدمير والتشويه وبناء الدولة والمجتمع، وأن يكون المقياس هو المصلحة الوطنية العليا ومعاداة كل شكل من أشكال التجزئة وكل أشكال العمالة لعناصر الفوضى والتخريب.
دمت متألقًا سلمت أناملك 🌺
تحليل منطقي يساير وبواكب الاحداث . حياك الله