صفحات من ذكرياتي مع العلامة مولاي احمد أبا عبيدة رحمه الله تعالى
هوية بريس – د.وديع غوجان
الحمد لله بارئ النَّسم، وخالق الأنوار والظُّلَم، ومُوجِد الأشياء من العدم، الذي أبرم فأحكم، وأجزل فأنعم، وعلَّم الإنسان ما لم يعلم، وصلَّى الله وسلم على النبيِّ الأكرم, المبعوث بالدِّين الأقوم، والرضى عن آله وصحبه ذوي السَّبق الأقدم.
أما بعد: ففور انتهائي من مقدمة رسالتي الموسومة بـ”إسعاف الورى ببعض ما يتعلق بجزاك الله خيرا” وذلك يوم الأحد سادس المحرم عام ألف وأربعمئة وثلاث وأربعين للهجرة النبوية الشريفة موافق خامس عشر غشت سنة ألفين وواحد وعشرين نصرانية ظهر يومه تلقيت نبأ وفاة شيخنا العلامة مولاي احمد أباعبيدة المحرزي الفيلالي الأصل المراكشي المولد والوفاة, إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها, إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا, ومطابقة للحال ولعله من الفأل الحسن أقول لشيخنا مولاي احمد المحرزي “جزاك الله خيرا”.
مات العالم الأديب, اللغوي الفقيه, النحوي الأصولي السلفي الأثري الحافظ الضابط, الكريم السخي, البشوش الورع المتواضع, شريف النسب والنفس, الصبور على الإفادة الحريص على الاستفادة, الملازم لبيته, الحريص على وقته, آية من آيات الله في الفهم والحفظ, بحر من بحور العلم.
لقب شيخنا (العائلي) أبا عبيدة, وليس له ابن اسمه عبيدة يكنى به.
سألت شيخنا مرة عن “أبا عبيدة” أهي كنية عرفت بها؟ فقال لي رحمه الله: إن والدي رحمه الله كان رجلا أميا صالحا, فلما ذهب للباشوية قصد وضع اللقب (الاسم العائلي) كان يردد في طريقه أسماء الصحابة المبشرين بالجنة, فغاب عن ذهنه الصحابي العاشر, بينما هو يصارع بنات أفكاره فإذا به قد وصل عتبة الباشوية فاستحضر تمام الصحابة العشرة, فصرخ قائلا: “أبا عبيدة” فجعله لقبا لآل بيته, فعقب شيخنا رحمه الله على هذا الموقف: اختيار الوالد رحمه الله كان موفقا, وصادف وجها من وجوه الأسماء الستة وهي لغة القصر:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قَدْ بَلَغا في المجدِ غايتاهَا
إرهاصات ولادته:
حكى لي شيخنا العلامة مولاي احمد ببيته بستر اللحياني بمكة المكرمة أن أباه دخل مسجد ابن يوسف بمراكش فرأى حلقة عظيمة بين يدي شيخ وقور, وطلابا ملؤوا جنبات المسجد بترانيم أصواتهم الشجية آيات قرآنية, بين مذاكر محفوظه من القرآن, وبين مستظهر له, وبين مستمل..قال فهزت والدي مشاعر جياشة فقصد الشيخ وقال له: إن زوجي حبلى, وأود إن وضعت ذكرا تحفظه القرآن, فوافق الشيخ ودعا لأم شيخنا رحمها الله, وتمضي الأيام بأسابيعها وشهورها, فإذا بوالد شيخنا ممسك بولده مولاي احمد وقدمه بين يدي الشيخ وقال له: هذا الولد قد بلغ مبلغ القراءة والتحصيل, فأرني وعدك الذي وعدتني, فاعتنى به الشيخ عناية فائقة, وعلمه مبادئ القراءة والكتابة, وسرعان ما فاق أقرانه حفظا وفهما, فختم القرآن دون العاشرة من سنه, وظهرت عليه علامات الحذق والفطنة والنبوغ المبكر.
النبوغ المبكر:
قال لي شيخنا أبا عبيدة, كنت معجبا بالفقيه ابن عبدالقادر الذي كان مشهورا بالفقيه مَسُّو, وكان له درس في النحو خص به بعض الطلبة الكبار المتقدمين في المرحلة والعمر, ويمنع المبتدئين الصغار الالتحاق به عملا بقاعدة طعام الكبار سم الصغار, يقول الشيخ: فكنت أحضر مجالسه خلسة وأجلس وراء سارية من سواري المسجد, فسأل الفقيه مسو سؤالالم يوفق الطلبة للإجابة عنه, فأخرجت رأسي وقلت: هل أجيب, فاستغرب الفقيه مسو وجودي لكنه لم يتسرع في تعنيفي, بل قال لي أجب: قال الشيخ فأجبت جوابا أدهش الطلاب وأثار إعجاب الفقيه مسو, فقال لي: من الآن فصاعدا تلتحق بهذه المجموعة, وحينها بان للفقيه مسو نبوغ الشيخ أبا عبيدة وأهليته.
صبر الشيخ على التحصيل:
ظهر جلد الشيخ على التحمل مذ زمن الصبا وهو يتردد على مسجد ابن يوسف بمدينة مراكش لايعرف عنه غياب ولا كسل ولا فتور, ومن طريف ما ذكر لي شيخنا رحمه الله أن أحد الطلبة آنذاك سأل الفقيه مسو تخفيف مدة التفسير الذي دأب الفقيه مسو أن يلقيه من بعد قراءة الحزب الراتب بعد صلاة المغرب إلى منتصف الليل كما هي العادة في هذا القطر المغربي, وبعدها تقام صلاة العشاء, قال الطالب: إن الطلبة لايفهمون ما تلقي عليهم, ويتعبون من طول الدرس, فلما كان من الغد استرسل الفقيه مسو كعادته في الدرس, فلما انتهى في الوقت المعهود, وأقيمت الصلاة, وقف الفقيه مسو أمام الطالب المشتكي, والتفت إلى الطلبة قائلا: هل تفهمون ما أقول؟ فأجابوا بصوت واحد, نعم, فقال: هل أطيل عليكم؟ فقالوا لا, فصفع الفقيه مسو الطالب, وقال: هذا شيطان يريد أن يصدكم عن العلم, فوجد هذا الطالب في نفسه, فقصد أحد الشيوخ العقلاء بالمسجد نفسه, وقص عليه الواقعة, فربّت الشيخ على كتفه, وأخذ يجبر خاطره قائلا: ضربة الشيخ بركة, وصدقت فراسة الشيخ, فلم يلبت الطالب إلا يسيرا ورحل إلى الحجاز واستوطن المدينة رفقة أهله, ونالوا الجنسية السعودية, ومات الطالب ودفن بالبقيع رحمه الله, وكان أحد أبنائه رئيسا لهيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدة.
فهذه القصة الذي حكاها لي شيخنا أباعبيدة رحمه الله تجسد لنا مدى صبر الشيخ رحمه الله على الطلب وجلده في تحصيل العلوم, وحرصه على مثافنة العلماء ومجالستهم طول تلك الساعات الممتدة من صلاة المغرب إلى منتصف الليل, إضافة إلى المدة الصباحية التي كان يتلقى فيها الشيخ تعليمه على علماء آخرين, كالفقيه الصويري والفقيه الفيلالي.
الفقيه ابن عبدالقادر المشهور بمسو أبرز شيوخ العلامة أبا عبيدة.
كان الشيخ أبا عبيدة رحمه الله معجبا بشيخه ابن عبدالقادر, شديد الملازمة له, حريص الأخذ عنه وملازمة دروسه, متأثرا بطريقته وزهده, وظل ممتلكا سلهامه بعد وفاته, وكأنه يشم منه عبق الذكريات, وأريج مجالس الفقيه مسو التي كانت تفوح بشتى فنون العلم, وموقف شيخنا أبا عبيدة دليل وفائه وحسن عهده بشيخه, لولا كتاب سيبويه الذي حال بين الشيخ أبا عبيدة وسلهام شيخه ابن عبدالقادر رحم الله الجميع, فقد سافر الشيخ أبا عبيدة إلى مدينة مكناس أو فاس والشك مني, وكان بدلالة (سوق) الكتب, فلما عرض الكتاب, ولم يجد الشيخ ما يسدده مقابل شراء الكتاب, باع سلهام شيخه, وفاء لشيخه المحب هو أيضا للعلم.
وهذه القصة تصور لنا مدى تعلق شيخنا أبا عبيدة بالكتب, وبلوغ ذلك شغاف قلبه, فقد كان محبا ومجلا للكتب, لايكاد كتاب نفيس مخطوطا كان أو مطبوعا إلا وللشيخ أبا عبيدة نسخة منه, ازدانت مكتبته به, واكتحلت عين شيخنا بقراءته.
وعلى الرغم من فرط حب شيخنا أبا عبيدة للكتب لكنك لا تجده ضنينا به, بل سرعان ما يعرضه على طلابه ويعرفهم به, وإذا رأى تعلق أحدهم به وعده بتصويره له, فيناوله إياه على رحابة صدر, وانشراح فؤاد.
دخلت مرة على شيخنا فوجدت بين يديه شرحا على لامية الأفعال لابن مالك, يقع في أربعة أجزاء, قد صوره أحد الفضلاء من دولة الكويت وأهداه لشيخنا أبا عبيدة رحمه الله, فأخذت أتصفح جزءا منه, فلما لمح الشيخ إعجابي بالكتاب, بادرني قائلا: هذا أوسع شرح على لامية ابن مالك, غدا أصوره وأعطيه لك, فلما كان من الغد طرقت بابه كالعادة في الوقت المعهود أي الواحدة بعد منتصف الليل, وهو الوقت الذي كان يحرص الشيخ رحمه الله على الاستماع لتلاوة الشيخ محمود عبدالحكم التي كانت تبث تلاوته على أثير قناة القرآن الكريم السعودية, فلما فرغ القارئ من القراءة, التفت إلي وقال: خذ نسختك, فشكرت صنيعه, فرد علي فرحا جذلا:
كيف أهدي لك روحي ولقد صح بالبرهان أن الكل لك
وردد الكل لك.. الكل لك.. الكل لك…رحمه الله رحمة واسعة.
من رياحين تواضعه:
كان العلامة أبا عبيدة رحمه الله كثير الهضم لنفسه, لا يعلو على الناس ولا يتعالى, ولايتفاخر بنسبه, يجالس الفقير والطالب والمبتذل والسوقة, والتاجر, يعلم ذا تارة, وينصح, وكان ذا دعابة ولا ينطح, قريبا من العامة, ومذكرا لهم, تجده عند إلقاء فائدة علمية كله أذنا صاغية, ولو أدلى بها أصغر صغار طلابه, مجلا صاحبها ومشجعا له, ومستفسرا عن مصدرها, يحب مذاكرة العلم مع طلابه, محبا للإشكال, وكان يعتبره أس العلم, ومن بديع المواقف ما وقع لي معه رحمه الله, وهو أنه تلفظ بلفظ أثناء كلامه وهي لفظة أخباري, فقد نسبها للجمع, فقلت له: شيخنا! نسبت للجمع وابن مالك رحمه الله يقول:
والواحد اذكر ناسبا للجمع إن لم يشابه واحدا بالوضع
فوقف الشيخ منتفضا, فما لبت أن وضع يده على كتاب بخزانته بمكة المكرمة, ففتحه, وتصفح صفحتين أوثلاثا, فكأنما سري عنه, ونشط من عقال, وقال: ها قد وجدتها, وقال: يجوز على مذهب أهل الكوفة, فسكت وقلت: شيخنا لا أتعجب من سرعة الرد, لكن اندهشت من سرعة إيجاد المسألة بين هذا الكم من الكتب, وضمن هذا الكتاب الكبير, وهذا لم يقع لك مرة أو مرتين, فرمقني بعينه وقال: رحم الله ضعفي, فخفف عني تعب البحث.
إن الحسام وإن رثت مضاربه إذا ضربت به مكروهة فصلا
ومن مواقفه رحمه الله الدالة على طيب معدنه, ونقاء سريرته, وسلامة صدره نحسبه كذلك والله حسبيه, أنني كنت جالسا مع شيخنا أبا عبيدة ببيته بستر اللحياني بمكة المكرمة سحرا, فطرق طارق الباب, فقال لي الشيخ رحمه الله: وديع! انظر من الطارق, ففتحت الباب فإذا أنا بالدكتور أبي مالك محمد بن الحسين باقشيش, فأخبرت الشيخ بذلك, فقام ورحب ولم أره استقبل أحدا بمثل ما استقبل به الشيخ أبا مالك حفظه الله, فجمجم الشيخ بكلمات فهمت قصده, فتوجهت لإعداد قِرى ضيفه, وفجأة يقف الشيخ جنبي بالمطبخ قائلا: تعال, تعال, اجلس معي, قلت له: أجهز الشاي, فقال لي بصوت خافت: إنني أستحيي من هذا الرجل, علما أن الشيخ أبا مالك كان كبار طلابه المتتلمذين على يديه زمن قوة عطاء الشيخ بدار القرآن بآزبزت وقت السبعينات.
ومرحب بالزائرين وبِشرُه يغنيك عن أهل لديه ومرحبِ
دروس من زهده:
عاش الشيخ أبا عبيدة رحمه الله جل أواخر عمره بمكة المكرمة, مختصرا في شأنه وملبسه ومسكنه, مستحضرا عبارة شيخه الفقيه مسو: فاز من كفّ كفّه وفكّ فكّه, وخسر من فك كفه, وكف فكه, عرض عليه أحد وجهاء وفضلاء مكة شيكا رفيع القدر, فلم يقبله الشيخ ورده بإحسان قائلا لصاحبه: تكفيني يكفيني, مشيرا بتكفيني الأولى إلى الكفن, والثانية إلى الحسب والقد.
وأما مواقف شيخنا من استدعاء فضلاء مكة وأغنيائهم له فهي أكثر من أن تحصر أو تذكر, لكن شيخنا لم يبال بألقابهم, ولم يكترث بجاههم, فلم يكن حريصا على ملاقاتهم أو التباهي بدق بابهم له, ومثولهم بين يديه, فقد غير مسكنه بسب معرفة أحد وجوه أهل الفضل والخير محل سكناه زهدا وترفعا عن عطيته, وعرض عليه إلقاء درس بين يدي أحد الملوك فأبى, واستدعي للتكريم فزهد, وعجل الأوبة إلى مكة دفعا لهذا الحرج شعاره: تكفيني يكفيني.
وقد كنت أرجو أن أمَلَّاك حقبة فحال قضاء الله دون رجائيا
ألا لِيمُت من شاء بعدك إنما عليك من الأقدار كان حذاريا
ولله در أبي تمام:
وكل كسوف في الدراري شنعة ولكنه في الشمس والبدر أشنع
منح المُلح:
من ملح شيخنا أبا عبيدة رحمه الله أنه اتصل بي ليلة, وكان الشيخ حينها بالمملكة المغربية, وكنت أنا بمكة, فاتصل بي في وقت متأخر جدا, كانت الساعة تشير إلى الثالثة سحرا بتوقيت مكة, فقلت في دهشة مَن مَن؟ فأجاب بكل تواضع ورقة ودعابة: احمد أبا عبيدة؟ فقلت شيخنا خيرا, فقال لي أعرب: إني كافرا, قلت: إن: المشبهة بليس, وني: اسمها, كافرا خبرها, فقال لي نم نومة العروس, وأغلق الخط الهاتفي, فلما لقيت الشيخ بعد عودته من المغرب استفسرته عن سبب السؤال في ذلك الوقت المبكر, فابتسم وقال: كنت بمراكش, فلقيت رجلا فقال لي: الفقيه يقصد الشيخ أبا عبيدة: أعرب: إني كافرا, فأجبته: لي طالب سأتصل به, وسأجده نائما سيعربها دون تتعتع, فلما اتصلت بك وأجبت شفيت غليلي وأرجع الله كيده في نحره, ومن أراد معرفة المزيد من ملحه ورفيع دعابته وحكمته فعليه التواصل بالشيخ النحوي الفرضي آيت ديما لحسن حفظه الله, ورفيق شيخنا أبا عبيدة الشيخ الفقيه المصنف متع الله به وأفاد به العباد.
حقا! لقد كانت دعابة الشيخ علما, وحكايته حكما, وسكوته حلما, ومجالسته عبادة وقربة.
لقد كان شيخنا أبا عبيدة مولاي احمد أعجوبة دهره, لاينصرف عن مجلسه زائر إلا بفائدة نفيسة لاتدرك إلا بإنفاق الأعمار بين الكتب ومزاحمة العلماء.
الناس بعدك قد خفّت حلومهمُ كأنما نفخت فيها الأعاصيرُ
هل جزاء التعظيم إلا التعظيم!
من لم يجالس شيخنا أبا عبيدة رحمه الله ربما نسبني إلى الغلو فيه, ومن لازمه ألصق بي تهمة التقصير في حقه, فقد كان شيخنا إلى جانب ما تمتع به من صفات حميدة, وخلال مجيدة مجلا للعلماء, متيما بابن تيمة, مدمنا النظر في كتب ابن القيم, غواصا في دقائق ابن حجر, ذواقا طرر ابن بونه, عاشقا توجيهات أبي حيان, معجبا ببراعة الألباني, ودقة استنباط ابن العثيمين, لاينادي شيخنا محمد بن علي آدم الإثيوبي إلا بالفقيه, يربي طلابه على إحياء السنة وحب أهلها, وجنازته برهان ما ذكر, ولفقده لسان الحال يقول:
حلف الزمان ليأتينّ بمثله حنثتْ يمينك يا زمان فكفّرِ
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تغفر لشيخنا أبا عبيدة اللهم اغفر له وارحمه, وعافه واعف عنه, وأكرم نزله, ووسع مدخله, ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم آنس وحشته ونور ضريحه, وأفسح له فيه.
اللهم اغفر للشيخ ابا عبيدة و عافه و اعف عنه و ثبت عند السؤال منطقه ..إنا لله و إنا إليه راجعون