الشيخ الكتاني يرد على أبي حفص.. توريث غير المسلم من المسلم (2)

24 فبراير 2024 23:23
محمد عبد الوهاب رفيقي الحسن الكتاني

هوية بريس – الشيخ الحسن الكتاني

المثال الثاني: توريث غير المسلم من المسلم:

هنا تطرق لمسألة توريث المسلم من قريبه الكافر والعكس، وأتى بصور عاطفية على عادته، يضرب بها الأمثال للحكم الشرعي، وقال: “من الذي حرم هذه الزوجة وذلك الابن من الميراث؟ مع أن نصوص الإرث في القرآن عامة لم تفرق بين زوجة مسلمة وغيرها، ولا ولد مسلم وغيره، ” ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لم ولد”، “يوصيكم الله في أولادكم”، فضلا عن نصوص حفظ المال وحق أي إنسان في حماية ماله، كل هذه العمومات خصصت بحديث ظني وخبر آحاد “لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم”، فخصصنا القطعي بالظني، علما أن هذا الخبر الظني له سياقات خاصة وأسباب ورود لا تتعداه إلى غيره، فهو قضية عينية في المحاربين لا في الكتابية التي وهبت عمرها وحياتها ومشاعرها للرجل المسلم، ولا في الابن المسلم الذي اختار الاسلام طواعية فكان سببا في حرمان ماله، بل إن مثل هذا الحكم قد ينفر غير المسلم من الدخول في الإسلام، إذا علم أنه يحرمه من ماله وحقه، أو قد يفرض عليه إعلان إسلامه شكلا ونفاقا لئلا يحرم من التركة”.

وللرد على هذا الكلام، ننظر في تخريج هذا الحديث، فنقول:

لهذا الحديث روايات متعددة وألفاظ مختلفة، ومن أشملها ما رواه محمد بن مسلم بْنِ شِهَابٍ الزهري قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: وَهَلَ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقُولُ: “لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ”. أخرجه البخاري في صحيحه (1523) ومسلم في صحيحه (2402) وأبو داود في سننه (1756) والترمذي في جامعه (2127) وابن ماجه في سننه (2742) وأحمد في المسند (21279) ومالك في الموطأ (1093).

وفي رواية الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ”.

وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى”، أخرجه أبو داود في سننه (1392) والترمذي في جامعه (1371) والنسائي في الصغرى (2523) وابن ماجه في سننه (2400).

حدثنا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمَّةً لَهُ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً تُوُفِّيَتْ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ يَرِثُهَا؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَرِثُهَا أَهْلُ دِينِهَا ثُمَّ أَتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: أَتُرَانِي نَسِيتُ مَا قَالَ لَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: “يَرِثُهَا أَهْلُ دِينِهَا”. اخرجه مالك في الموطأ (1095) والدارمي في سننه (2948) وعبد الرزاق في مصنفه (9578) وسعيد بن منصور في سننه (137) وابن أبي شيبة في مصنفه (30540) والبيهقي في السنن الكبير (11459).

بل إن هذا ما أشار إليه القرآن نفسه حين قص علينا قصة نوح وابنه الكافر وقال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} (هود:45-46). فقطع الصلة ما بين الولد وأبيه، ولم يعتبره من أهله، فقد فرق بينهما الإيمان والكفر.

فهذا الحديث ورد من طرق كثيرة، وهو من الأحاديث المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول، ولذلك فحتى الأحناف الذين قالوا بالقاعدة التي قدم بها صاحبنا القديم بحثه، لم يوافقوا على نتائجه، فقد قال الإمام أبو بكر الجصاص (في “أحكام القرآن” (2/148)): ((وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم، فصار في حيز المتواتر)).

ولنبسط مذاهب العلماء في هذه المسألة، لتتضح ويظهر الصواب من الخطأ في كلام صاحبنا القديم.

مذاهب العلماء في التوارث بين المسلمين والكفار:

فقدِ اتَّفقَ المُسلِمونَ على أنَّ الكافِرَ لا يَرِثُ المُسلِمَ («مجموع الفتاوى» لابن تيمية (32/36)، «أحكام أهل الذِّمَّة» لابن القيِّم (2/452).)؛ فقد أجمع جمهور فقهاء السنة، على أن غير المسلم لا حقَّ له في الإرث من المسلم، الذي يتَباين معه في الدِّين والمعتقَد، سواء أكان عن طريق القرابة والنسب، أم كان عن طريق المصاهرة والنكاح، وعُمدتهم في ذلك من القرآن قولُه جلَّ وعلا: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141] غير أنَّ العلماءَ يختلفون في المسلمِ: هل يَرِث الكافرَ أم لا؟ ومذهبُ الجمهور: أنه لا تَوارُثَ بينهما مُطلَقًا، اعتمادًا على ظاهرِ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ» ( مُتَّفَقٌ عليه، كما تقدم)، وهو مذهبُ الأئمَّةِ الأربعَةِ وأتباعِهم مِنَ السَّلفِ والخَلَفِ(انظر: المصدرين السابقين، الجزءين نفسهما (ص35) و(ص462).).

وقد ذكر السَرَخْسي من الحنفية اتفاقاً بين العلماء على: أن الكافرَ لا يرث المسلمَ بحال، فقال: (ثم لا خلاف أن الكافرَ لا يرث المسلمَ بحال)( المبسوط 7/586).

ونقل هذا الاتفاق أيضاً ابن رشد الحفيد من المالكية فقال: (أجمع المسلمون على أن الكافرَ لا يرث المسلمَ؛ لقوله تعالى ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 141]، ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ “) (بداية المجتهد 1/1160).

كما نقل هذا الاتفاق أيضاً ابن قدامة المقدسي من الحنابلة، فقال: (أجمع أهل العلم على أن الكافرَ لا يرث المسلمَ) (المغني 7/166).

ويتفق على هذا الحكم الشيعة بزيديتهم وجعفريتهم. قال محمد بن النعمان المفيد في «المقنعة»: ولا يرث كافر مسلماً على حال (المقنعة: 700)، وقال أبو جعفر الطوسي في «المبسوط»: والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف (المبسوط 4: 79).

وبعد هذا التقرير، يتبين لنا أن حديث منع توريث الكافر من المسلم هو حديث مشهور تلقته الأمة بجميع طوائفها بالقبول، سنة وشيعة، وأجمع المسلمون جميعا على أنه لا يرث كافر مسلما بتاتا. فقول صديقنا القديم: ” مغربي مسلم تزوج امرأة مسيحية كما يتيح له القرآن الذي أباح الزواج بالكتابية، وكما نصت على ذلك مدونة الأسرة، وكان بينهما حب ومودة وعشرة بالمعروف، واكتسب الرجل مالا خلال فترة الزواج مالا ودورا وعقارا وأموالا كثيرة، وبعد عشرة طويلة توفي الرجل وترك إخوة وأخوات، فحسب القانون الحالي لا ترث الزوجة ولو درهما واحدا من ميراث زوجها، فيما يرث إخوته وأخواته كل المال”.

ثم قال: “من الذي حرم هذه الزوجة وذلك الابن من الميراث؟ مع أن نصوص الإرث في القرآن عامة لم تفرق بين زوجة مسلمة وغيرها، ولا ولد مسلم وغيره، “ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لم ولد”، “يوصيكم الله في أولادكم”، فضلا عن نصوص حفظ المال وحق أي إنسان في حماية ماله، كل هذه العمومات خصصت بحديث ظني وخبر آحاد “لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم”، فخصصنا القطعي بالظني، علما أن هذا الخبر الظني له سياقات خاصة وأسباب ورود لا تتعداه إلى غيره، فهو قضية عينية في المحاربين لا في الكتابية التي وهبت عمرها وحياتها ومشاعرها للرجل المسلم، ولا في الابن المسلم الذي اختار الاسلام طواعية فكان سببا في حرمان ماله، بل إن مثل هذا الحكم قد ينفر غير المسلم من الدخول في الإسلام، إذا علم أنه يحرمه من ماله وحقه، أو قد يفرض عليه إعلان إسلامه شكلا ونفاقا لئلا يحرم من التركة..

لذلك ليس من المعقول ولا المنطقي تخصيص نص قطعي بخبر ظني إذ لا يستويان في القوة ولا في الحجية، وبذلك يكون الاجتهاد في مثل هذه القضية متاحا وممكنا من أجل قانون أسرة عادل ومنصف”. فهذا من ضرب النصوص ببعضها، لأن الحديث ليس ظنيا بل هو قطعي لكونه حديثا مشهورا تلقته الأمة بالقبول وعملت به كافة العلماء، وأجمع عليه المسلمون، فأي ظن بعد هذا القطع؟

فالمطالبة بتغيير هذا الحكم هو عبث بالشرع وخرق للإجماع المحقق. والله المستعان على ما يصفون.

يتبع….

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M