بساطة العيش

04 يونيو 2024 20:28

هوية بريس – حميد بن خيبش

لماذا يقرر شخص غني أن ينهي حياته، إما بالانتحار وإما بالانسحاب من واجهة الشهرة والمكانة؟

قد يبدو مفهوما أن يقرر شخص عادي وضع حد لحياته بحبل أو طلقة مسدس. فتعب الحياة وشقاؤها، وتحطم الآمال على صخرة الواقع المرير، أضف إلى ذلك عدم الرضى عن توزيع المعايش بين الناس، والعجز عن احتمال وطأة الفقر أمام مظاهر الغطرسة والثراء اللذين تنعم فيهما فئة قليلة؛ كل هذه أسباب توعز للمرء بالانسحاب من مشهد لا يطاق. أما رحيل الأثرياء والمشاهير فيثير الحيرة والدهشة، خاصة من لدن المؤمنين بأن سعادة المرء تكمن في رصيده، وساعة يده، ويخته الذي يطوف به أنحاء العالم.

لم يكن ليو تولستوي من أعظم أدباء روسيا ومفكريها فحسب، بل كان أيضا أحد أثريائها الذين وفرت لهم الحياة كل الملذات المتاحة في عصره. و بالرغم من ذلك لم يخف قلقه وعذابه المتواصل من كون الحياة مجرد خدعة كبيرة. وظل سؤال ” وماذا بعد؟” يثير في نفسه أسباب الحيرة والقلق، ويدفعه للاكتئاب والرغبة في الانعزال، فكان يردد:” حسن، سيكون عندك ستة آلاف فدان في أرقى منطقة،وثلاثمئة حصان. وماذا بعد؟ حسن، ستكون أكثر شهرة من غوغول وبوشكين وشكسبير وموليير، بل وكل كتاب العالم. وماذا بعد؟”

بحث تولستوي عن الجواب لفترة طويلة في الكتب وطرق عيش الناس، فاهتدى إلى أن الراحة الحقيقية هي في العيش وسط البسطاء من فلاحي روسيا آنذاك، مع نوع من المعرفة لا يوجد إلا في العقيدة: معرفة توّحد الإنسان مع الله، لا بمعنى وحدة الوجود التي ينادي بها غلاة الصوفية، وإنما بمعنى التوحد مع أوامر الله وتعاليمه ووحيه وأوليائه.

تكشف سيرة تولستوي أن ثورته على الحياة المترفة سببها التصنع والتعقيد الذي يُفقدها جمالها، ناهيك عن تنصلها من القيم والأخلاق التي ينبغي أن تحكم العلاقات داخلها. ومسألة التصنع هاته تقف اليوم سببا وجيها وراء إقدام عدد من مشاهير الفن والسينما على الانتحار، حيث تندس خلف الصورة المشرقة لهؤلاء تجليات هشاشة نفسية، وخوف مستمر من العجزعن مواصلة الظهور بالمثالية التي ترسمها الكاميرات ووسائل الإعلام.

في صيف 2012 أصدر نجم السينما الأمريكي روبن وليامز كتابا بعنوان “12 خطوة”، ووضع على غلافه ملحوظة تؤشر على ما سيؤول إليه الوضع بعد سنتين فقط: ” أريد أن أساعد الناس على أن يكونوا أقل خوفا”، لكن يبدو أنه لم يحتمل هذا الخوف فوضع حدا لحياة تضج بالشهرة والثروة، والإنجاز السينمائي الضخم. وفي حديث زوجته لوسائل الإعلام تظهر شخصية مختلفة تماما عن الممثل المرح الذي ظل لسنوات يرسم الابتسامة على وجوه الناس، حتى أن الصحف العالمية لقبته ب” أطرف رجل عاش على الإطلاق”.

كانت سنواته الأخيرة مستنزفة بفعل نوبات القلق والارتياب، وتأثرت حياته المهنية حين بدأ يفقد قدراته كممثل بارع، خاصة في آخر أعماله” ليلة في المتحف”. ويبدو حسب مخرج الشريط الوثائقي “رغبة روبن” أن هذا الأخير لاحت عليه بوادر مرض “خرف أجسام ليوي” الذي يصيب خلايا الدماغ، فكان يتجنب اللقاءات العامة وحتى مقابلة الأصدقاء، لكن المحطة الأخيرة من حياته لم تخل من مبادرات تبعث رسائل وجيهة عن معنى الحياة، منها تبرعه بمبلغ 50 ألف دولار سرا لبنك الطعام في مدينة سياتل الأمريكية.

ينتحر الأغنياء ممن يعتبرون الحياة صفقة، حين لا يتحملون تبعات تلك الصفقة على حياتهم ومسيرتهم في عالم المال والأعمال. ورغم اليقين المسبق بأن مغامرات من هذا القبيل تنطوي على الربح والخسارة، إلا أن لذة تحقيق الثروة وتحصيل المكانة الاجتماعية اللائقة لا ينفي كون شبح الخسارة حاضرا ومتربصا، وأن على المرء أن يرتب نفسه على كل الاحتمالات ليمكنه مواصلة العيش والنهوض مجددا بعد كل كبوة.

كان رجل الأعمال الألماني أدولف ميركل يعيش حياة وصفها البعض بأنها طريقة حياة علم الأخلاق البروتستانتي. فالرجل متقشف في عيشه، يركب دراجة هوائية حين يذهب للعمل، ويسافر في الدرجة الثانية من القطار لإيمانه بأنك لن تصل أسرع إذا ركبت في الدرجة الأولى. وهكذا تمكن ميركل، بما يملكه من إصرار ورؤية واضحة وحكيمة عن مجال الأعمال، أن يحول النشاط التجاري في مجال الأدوية الذي ورثه عن عائلته، إلى ثاني أكبر شركة لبيع الأدوية في أوروبا.

على مدار أربعة عقود بنى أدولف امبراطورية تضم 120 شركة، بإيراد سنوي يبلغ نحو 38 مليار أورو. لكن حين حدثت الأزمة الائتمانية كان ميركل ثريا في الأصول، وفقيرا في التدفق النقدي كما صرح بذلك مستشار العائلة. لذا أمام انهيار أسعار الأسهم طالبته البنوك بضمانات إضافية، وصار الرجل الذي وُصف بالمفاوض العنيد، يأخذ جرعات من الدواء خلال محادثاته مع أزيد من 30 دائنا.

فقد ميركل موقعه ضمن المائة أغنى رجل في العالم، فكان عليه أن يهرب من نظرات الشماتة مثلما يهرب من ملاحقة البنوك التي تطالبه بسداد قروضها. وتحرك شبح الخسارة من مكانه ليدفع بالرجل إلى الانتحار ممددا على قضبان السكة الحديدية، في إحدى قصص السقوط المؤلمة التي تعلن أن السعادة ليست فقط مجرد صفقة.

إن كنت بسيطا في عيشك فهذا أمر جيد، وإن لم تكن كذلك فعليك أن تحاول.وهذه البساطة هي ليست دعوة لتجريب الفقر والحرمان، ولا عودة إلى البداوة وشظف العيش، لأن التحضر درجة طبيعية في الرقي الإنساني. ولكن، يتساءل أحمد أمين، ألا يمكن أن نتحضر و أن نتبسط معا؟

يبدو الأمر ممكنا برأي الكاتب المصري، مادامت البساطة لا تتعارض مع الانتفاع بنواتج العلم والتقنية. فما يحتاجه الإنسان المعاصر هو التخفف من أعباء الحياة المادية، والإيمان بأن هناك حياة روحية سامية وجميلة، تستحق أن يوفر لها المرء نصيبا من وقته وتفكيره.

ليس الأمر طبعا بتلك السهولة، فهناك من يعتبر الدعوة للبساطة خطرا يهدد الاقتصاد والمجتمع الاستهلاكي. لذا فإن ثقافتنا التي تجد صعوبة في تقبل البساطة، بحاجة للمراجعة واتخاذ القرار لتحديد ماهو مفيد وما هو غير مفيد. وبرأي دومينيك لورو فإن البساطة لا تتحقق إلا عبر التحرر من الأفكار المسبقة،  والمخاوف والضغوط التي تثقل كاهلنا. إن البساطة التي تعني اقتناء القليل، تفسح المجال لما هو جوهري وأساسي، مثل القيم الإنسانية، والراحة النفسية، والجمال والحرية؛ بمعنى آخر: لكل ما هو حي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M