في ظلال كتاب: المنهجية المعرفية الإسلامية للدكتور محمد السائح

01 مايو 2023 20:25

هوية بريس – مصطفى الجراري

توطئة: الحاجة إلى المراجعة الفكرية

ما أشد حاجة الفكر الإسلامي المعاصر، الأكثر شهرة اليوم، إلى أن يراجع مراجعة عميقة، جملة من مقولاته التي غدت عنده عقائد لا تقبل المساومة، ومسلمات يحرُم التداول بشأنها.

فإن لم تكن هذه المراجعة منه، فلا أقل من أن يلقي السمع إلى من ينتقده ممن يشترك معه في المرجعية الإسلامية، بل في كثير من جوانب منهجية هذه المرجعية.

ومن آراء هذا الفريق التي تحتاج النقد والتمحيص، تلك التي تتقدم بين يدي نص شرعي، أو تلك التي تتخطى حكما شرعيا قطعيا، أو تنكر نظاما إسلاميا أجمع عليه العلماء..

وغيرها من الانزلاقات الواقعة باسم التجديد واستيعاب المتغيرات والتقصيد.. ونحو ذلك من الألفاظ البراقة.

إنها ألفاظ متكأها في الظاهر النص الشرعي، وقاعدة درء المفاسد وجلب المصالح.. وفي العمق الاستجابة لضغوطات عقدة الملاءمة بين أحكامنا الشرعية ونظمنا الإسلامية من جهة، ومنظومة الحضارة الغربية من جهة أخرى؛ مع ضرورة، تعديل ما ينبغي تعديله من مساوئها، كما يدعى.

أما إن تمت المراجعة من هذا الفكر المشتهر لنفسه، فلا يمكن أن تكون مراجعة سليمة غير سقيمة، وتامة غير ناقصة، إلا إذا فطن إلى أن المنهج المعرفي الذي هو عليه، فيه من الاضطراب والغبش ما يجعله دون منهج السلف الذي تشربه الخلف عن السلف في مجالس الدرس محررا، وسلَّمه الشيوخ لتلامذتهم في حلق العلم محققا.

ولما كان هذا حال منهج سلفنا، فإنه قد وفّى بالإجابة الشافية الكافية، عن كل القضايا الحادثة والنوازل الطارئة، على طول تاريخ الأمة المديد؛ فلم نفتقر قط إلى نظم أجنبية تكملنا وتجملنا ببذل الجهد في ملاءمة متعسفة لنظامنا الحضاري مع تلك النظم.

ولهذا، بقي تراثنا المعرفي صافيا رقراقا، لم تشب صفاوته شائبة شذوذ أو شمَّة ابتداع إلا استثناء يثبت هذه التحلية ولا يرفعها.

     1_ نموذج للمراجعة:

إن أركان وقواعد منهجنا الأصيل والفريد، هو ما حاول تبريزها تأصيلا وتنزيلا، كتاب (المنهجية المعرفية الإسلامية، محاولة في الإحياء تأصيلا وتنزيلا) للدكتور محمد السائح، أستاذ الحديث وعلومه بالتعليم العالي.

لقد رفع المؤلف، في هذا الكتاب، لواء الدفاع عاليا عن تراثنا المعرفي؛ وصوب سهام النقد العلمي في المقابل، إلى بعض مقولات ومسلمات الفكر الإسلامي المعاصر، في خُلف تام لما يصنع هذا الأخير الذي يصب مراجعاته على التراث عوض طروحاته الفكرية!

  1. أقسام الكتاب:

لقد تطلبت من المؤلف، محاولة الإحياء أن يجعل بحثه في قسمين.

القسم الأول: نظري، شرح في الفصل الأول منه ماهية المنهجية المعرفية الإسلامية، المكونة من أربعة أركان، وهي:

الركن الأول: أصول المعرفة الإسلامية، وهي: الوحي أولا، فالعقل، فالحس، ثم البصيرة.

الركن الثاني: ترتيب هذه الأصول:   أكان ترتيبا عاما أو ترتيبا خاصا أي:

—  الترتيب بين الوحيين: القرآن والسنة.

—  وترتيب الدلالات، مثل: تقديم النص على الظاهر، والمحكم على المتشابه.. والحقيقة على المجاز، ودلالة الاقتضاء على دلالة الإشارة.. وهكذا.

كل ذلك وفق منهج علم أصول الفقه في فهم ألفاظ الوحي.

— وترتيب الأدلة التبعية، فيقدم الإجماع، ثم القياس، ثم الاستدلال وفيه أنواع…

— وترتيب العقليات، فتقدم البدائه الفطرية المستغنية عن الاستدلال، على العلم النظري وهو المحتاج إلى الاستدلال…

— وترتيب الحسيات، فتقدم المجربات والمتواترات لأن العقل يشاركها في إصدار الحكم، على المشاهدات، أكانت وجدانيات (ما يدرك بالحواس الباطنة)، أم محسوسات، وهي ما يدرك بالحواس الظاهرة.

الركن الثالث: التركيب بين هذه الأصول، أي الجمع بين أصول المعرفة، لإنتاج معرفة مركبة من أصول متنوعة…

الركن الرابع: تمام الإعمال لهذه الأصول، ويقصد المؤلف في المقام الأول وجوب إعمال جميع نصوص الوحي، وفق المنهج الأصولي، في جميع أحوال الإنسان، وفي جميع الوقائع في العالم…

وقد نبه المؤلف في المقدمة إلى أن هذه المنهجية مركبة من مناهج أربعة علوم، هي: علوم القرآن وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم الكلام، ثم من جملة علوم خادمة لها، مثل علوم اللغة وعلم التاريخ وعلم المنطق وعلم التصوف وغيرها.

أما الفصل الثاني من هذا القسم فخصصه للوقوف على أهم النتائج التي تفضي إليها هذه المنهجية، وهي ثلاث:

الأولى تصورية: وهي امتلاك رؤية للعالَم..

الثانية منهجية: وهي دفع التنازع المعرفي الداخلي، مثل التنازع بين الفكر السلفي والفكر الصوفي، والتنازع بين الفكر المقاصدي والحديث وعلومه..

الثالثة اعتقادية: وهي كفاية الإسلام، أي الثبات على الإسلام كما هو، عقيدة وشريعة وأخلاقا، والثقة المطلقة فيه..

وقد نبه المؤلف إلى أنه بنى القسم الأول بناء استدلاليا، يذكر فيه الدعاوى بأدلتها، ويتدرج من أصولها إلى فروعها ولوازمها، حتى انتظم عنده ما اعتبره منهجية في التفكير.

أما القسم الثاني فنزل فيه المؤلف تلك المنهجية على جملة من القضايا المعرفية والواقعية، فجاءت معالجته لها على غير ما ألفه الفكر السلفي والفكر المقاصدي، في تسع قضايا، هي على التوالي:

أصوليات جديدة، وفتنة المقاصد بعد الشاطبي، وسيف الوهابية، و ابن حزم حاجة منهجية، وحيرة العالم والمفكر، وخفاء المصطلحات، والثورة الأنثوية، ونهاية التاريخ، وسؤال رجوع الخلافة.

وفي خاتمة الكتاب اعتبر الكاتب أن المنهج السلفي والمنهج المقاصدي والمنهج الشيعي إلى نهاية وزوال، لأنها لم تستجمع أطراف المنهجية المعرفية الإسلامية الموروثة عن السلف الصالح رضوان الله عليهم.

كما دعا إلى مواصلة نقد جهود الإصلاح لدى هذا الفريق من الفكر الإسلامي المعاصر، لا التسليم به لمجرد أنه يحمل صفة الإصلاح؛ فلعل ما انتقده من فكر قديم في الأمة، يكون أولى بالصواب من جديده هو.

  1. خلاصة المستفاد من قول المؤلف في عنوان الكتاب: “محاولة في الإحياء”:

هذا إخبار منه أن عمله مجرد جمع المتفرق من منهجيتنا المعرفية الإسلامية، مرتبة مؤصلة مع رفع ما من شأنه أن يؤدي إلى الانزياح عنها.

وقد بقي فكرنا الإسلامي يمسِّك بهذه المنهجية الأصيلة، على طول تاريخنا العريق؛ إلى أن جاءت ساعة الصدمة مع الغرب الغازي، فاعتراها ما اعتراها.

إن الباحث لم يدَّع إنشاء منهجية لم تكن.. ثم وهو في منزلة الإحياء لم يدَّع كذلك، الصوابية المطلقة، وتمامية تبريز هذه المنهجية، بل قال بالمحاولة، تاركا باب البحث في هذا الموضوع المفصلي، مشرعا أمام الباحثين المعنيين، ليزيدوه تحريرا وتحقيقا، إلى أن تستوي منهجيتنا على سوقها، كما كان الحال أيام عزها.

  1. بين كتابين:

ما أشبه عمل المؤلف في هذا الكتاب بما قام به مثلا، الإمام الشافعي في الرسالة التي دون فيها علم أصول الفقه الذي نشأ منذ عهد الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد تتابع التأليف في هذا العلم بعد الشافعي ما بين الإسهاب والإيجاز.

وقد صرح المؤلف في المقدمة، أنه إنما يسهم في تدوين ما هو مقرر في شأن هذه المنهجية.

  1. المستهدف بعملية الإحياء:

يستهدف المؤلف بهذه العملية أساسا، وقد صرح بذلك، الفكرَ المقاصدي والفكر السلفي، لأن المنهجية المعرفية عندهما يعتورها الكثير من الخلل على مستوى الأركان: أصولا وتركيبا وترتيبا لهذه الأصول.

فموقف هذا الفريق من السنة فيه اضطراب.. وكذا مفهوم العقل ورتبته في الأصول غير واضحين، ونفس الأمر يقال عن تمام الإعمال للنصوص لفهم الواقع بالنص لا فهم النص بالواقع؛ وغيرها من مظاهر الاهتزاز في منهجيته المعرفية.

  1. أسباب الخلل:

إن خلل المنهجية المعرفية لدى هذا التيار مرده إلى أمرين اثنين:

الأمر الأول: السند المنقطع، والأخذ المفصول غير الموصول، في حين إن التسلسل في أخذ العلوم الشرعية وتحملها ركن ركين في العملية المعرفية الإسلامية؛ إلا أن هذا التيار متكأه المعرفي الأساس الوجادة لا السماع عن الشيوخ أو العرض عليهم في حِلق الدرس.

والوجادة، كما هو معروف عند أهل العلم، أدنى طرق تحمل المعرفة.

الأمر الثاني: الاسترواح، على حد تعبير المؤلف، للنموذج الغربي، وما الجهد المضني الذي يبذله هذا النموذج من الفكر في ملاءمة أحكامه ونظمه الإسلامية مع المنظومة الغربية إلا خير دليل..

ولما كان هذا حاله أصبحت ألوان من الشذوذ تترى عليه، ويزداد مع مرور الأيام، فكره ومواقفه بالتبع، بعدا عن التحرير والتحقيق الذي هو السمة الغالبة على تراثنا المعرفي.

  1. الفكر المسند:

لابد من التنبيه إلى أن هناك فريقا ثانيا في فكرنا الإسلامي المعاصر، غير مشهور في الإعلام، يمثل شعاعا رقيقا وخيطا رفيعا يمتد إلى فكرنا الأصيل قبل مرحلة الاستعمار.

فهو فريق غير منقطع، تشرب المنهجية المعرفية من ألسنة شيوخه في الحِلق. ولذلك فهو مقصود بهذا الكتاب بالتبع لا بالأصالة، كما هو الحال مع الفريق الأول.

     2– تلازم قسمي الكتاب وآفة التفكيك:

    إن النظر في القضايا المطروحة في القسم الثاني من الكتاب، بمعزل عن مستندها، أي المنهجية المؤصلة في القسم الأول، يسقط في آفة مسلك التفكيك الذي لا يوصل سالكه إلى باب نقد علمي، يضفي مزيدا من التحرير والتحقيق على موضوع الكتاب، لأن هذا المسلك يفصل الفرع عن أصله والنتائج عن مقدماتها.

ولذلك، يلزم اعتماد مسلك الجمع والترتيب بين قسمي الكتاب، فالثاني مأخذه الأول كما عبر المؤلف.

ومن شأن هذا أن يبلغ السالك إلى النتائج التالية:

*الإقرار بأن ما قدمه الكاتب متماسك غير متهافت، فلا يسهل الاعتراض عليه.

ومن تم الحكم على البحث بأنه تجديد حقيقي، واجتهاد بشرطه في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.

*أو بيان مواطن مخالفة المؤلف في القسم التطبيقي لما نظر له في القسم النظري.

* أو الاعتراض على البراهين التي ساقها المؤلف ببيان مكامن الخلل فيها.

* ثم معارضة مجمل ما قدمه بطرح منهجية معرفية بديلة بينة الأركان والقواعد، ومعالجة قضايانا المعرفية والواقعية بها.

الخلاصة:

إن هذا الكتاب يشكل مرجعا في بابه، ودليلا لا غنى عنه لطلبة العلم وللباحثين في أمر المنهج المعرفي الإسلامي، فالبناء الاستدلالي للكتاب، وتدرجه في الدعاوى من الأصول إلى فروعها ثم إلى لوازمها، وتنزيل ما أصله على جملة من القضايا المعرفية والواقعية، كل هذا وغيره، يجعل الكتاب تجديدا في بابه، واجتهادا بشرطه.

والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M