كيف يبني الغرب قواعد سيرته في جوف المستضعفين؟؟؟

21 أبريل 2024 19:00

هوية بريس – محمد بوقنطار

[email protected]

لا زلت أذكر وأنا صغير تحتضنني كراسي دور السينما الفاقعة الاحمرار، أحسب أنني أمام ترفيه بريء، أقعد أمام شاشتها مسحور العين، مسترهب الفؤاد، أتلقى وأتجرّع، ويُصب في وجداني وذهني وفؤادي مُبكرا مقصود ومراد المخرج الهوليودي، مقصود تصدير انطباع وتأسيس تصوّر، أتلقاه في لهو وسرور لتهضمه معدتي العاطفية فتحوِّله وتُصًيِّره قيْتًا من أخلاط المحبة المتجانسة الصادقة لذلك الرجل الأبيض الأشقر الوسيم، الذي يدافع عن نهضة أمته، ويذوذ عن حياض تطوّرها الصناعي والعلمي في تفانٍ وإخلاص ويحمي ثغورها المادية والمعرفية من تربص ذلك الرجل الهندي الأحمر البدائي المتجرد من لباسه اللهم خرقة تستر سوءته المُغلّظة، العاري في استبشاع طافح من مظهره، وقد كنت بمعيّة جيلنا المخدوع، المدلّس عليه، ننبز الرجل فنسميه “بوريشة”، لقد كنت تراني في ذلك الغاسق السينمائي وقد وقب شرّه فاستوعب الفضاء، ظلمات بعضها مركوم فوق بعض، لا تكاد ترى المحاذي لجلستك، وكأن صاحب الدور أرادنا أن نواجه موقف تلقي اللقاح أشتاتا يأكل ذئب الإخراج القصية من قطيعنا الساذج، ترانا نشير على الجندي الأمريكي وهو يبحث في الأدغال إلى مكان اختباء ذلك الرجل الصلف القاسي المشاعر والقَسمات، ليقتله ببندقيته المتطوِّرة ذات الزناد الأتوماتيكي والشكل المبهر، فنتنفس الصُعداء ويعلو المكاء وتشتد حرارة التصدية، ثم نستريح على كراسينا فلا نكاد نُغبن مقابل ما دفعناه من ثمن بخس، وقد خرجنا مرتاحين فرحين مستبشرين ببشرى نهاية الفيلم الهوليودي الموقعة الذيل بقضاء وانتصار قوى الخير ودحضها لقوى الشر.

ويتكرر منا عين الموقف ومثيل المتابعة ونفس الإحساس المستبلد المستسذج، ونحن أشتاتا نتابع فيلما آخر تحكي تفاصيله عن مكافحة جنود البحرية الأمريكية الذين يتمتعون بكل صفات الشجاعة والمروءة والشهامة والجمال، لإرهاب ثلة من أشرار دولة الفيتنام وبغاتهم ـ ولربما كانوا خوارج بمنطق أغبياء المدخلية المقيتة ـ أشرار يريدون النيل برصاصهم الإرهابي الآثم من ذلك الجندي الجميل الوديع اللطيف ونعني به جندي المارينز الأمريكي، والذي حلّ ببلادهم لإقامة العدل وتحديث البلاد وإنقاذ العباد وتحريرهم من استبداد الشيوعية…

لقد اكتشفت بعد حين ـ غير متأخر ـ مع الاختمار واشتداد العود وخروجي من مرحلة الطفولة ونزق أولى بوادر سن التكليف، أنني كنت أتعرض وجيلي إلى عملية غسل أدمغة، ومسخ فطر، وتزوير صبغ، حيث تواطأت علينا اللقطة والمشهد والسلسلة المحبوكة اللحظات، لتبتلعنا في دوامتها الهالكة، لقد كانت رسائل قوية الوافد على حواضن محل ضعيف، ونفوس بيضاء إسفنجية قابلة للتنميط والتقولب والتشرب السريع السريع لمحلول هذه الرسائل المدخونة المتلاعبة بعواطفنا الجياشة، لقد كان صناع السينما غير بريئي الطوية وإنّما كانوا رجالا يتقنون فن صناعة وافتعال الانطباعات وخلق التصورات وفق ما يخدم ويحمي توجهات ومصالح القوى العظمى ذات الاستبداد الناعم…

لقد اكتشفت بعد حين أن تزييف الوعي هو منهج له أدواته المنتقاة بدقة، يحدث هذا في أعتى الديقراطيات المشهورة السيرة، السريالية السمعة، والطوباوية الذكر، ولعلك متى ما علمت أن هذا حاصل ويحصل في وداخل أوطانهم حيث بات أغلب المواطنين هنالك محبوسين مسجونين في نطاق مرسوم الأفق والحدود من إعلام وسياسة إعلامية لا اختيار فيها، وقد تعاطى الناشط والخطيب الاجتماعي والديني “مالكولم إكس” محذرًا من هذا التدليس وموصيا في وَجل وحرص: “إن لم تكن حذرا فإن الصحف ستجعلك تكره المقهورين، وتحب أولئك الذين يمارسون القهر”.

قلت لعلك التمستَ العذر لنا نحن الموسومين من جنابهم غير الموقر بشعوب العالم الثالث ولربما الرابع أو الأخير، واسمع في نفس السياق للمؤرخ الأمريكي والناقد الاجتماعي والسياسي “هوارد زن” متحدثا في كتابه “قصص لا ترويها هوليود مطلقا” واصفا المأمول: “إذا استطاع القائمون على مجتمعنا _ ساسة، ورؤساء الشركات، وأباطرة الإعلام _ الهيمنة على أفكارنا، فإنهم سيوطِّدون سلطتهم وعندها لا يحتاجون لشرطة تقوم بدوريات في الشوارع، لأننا سوف نتحكم بأنفسنا نيابة عنهم”.

يا الله كيف انقلب في دواخل وجداننا الظالم مظلوما، والجلاد ضحية، والمحارب الصائل مسالما لطيفا، إنني لا زلت أستحضر اجترارا رصيد ذلك الحقد الذي كنت أخرج به بعد مشاهدة العرض متأبِّطا شرّه بين جوانحي، أُكنّه في التذاذ وشماتة لذلك الهندي الأحمر من السكان الأصليين، من الذين أُبيدت قراهم واغتصبت حرائرهم وسُرقت خيراتهم في واقع حقيقي مأساوي غير مزيّف كالذي تناولته الحبكة الهوليودية، وعطفا وتباعا في ذلك الفيتنامي المقاوم المدافع عن عِرض شعبه المضطهد وحقوقه المستباحة، وأرض أجداده المجتاحة، التي هبّت عليها نيران القصف الأمريكي فأحرقت منها الأخضر واليابس، مُشكِّلة بذلك إحدى كبريات المآسي التي عرفها التاريخ الإنساني.

إنني وبعد عقود ذوات عدد مرّت من عمري، عقود سافرتْ ونأتْ بي بعيدًا عن تلك الشخصية الطفولية التي كانت قد تعرضت لاغتصاب معرفي إن جاز التعبير، لَأَربط ذلك التدليس السالف بهذا المكر الناسف المحيّن، الذي أصبحتُ أعيشه اليوم بمعية أجيال سابقة وأخرى لاحقة، في ظل دائرة من السواد شهدها ويشهدها العالم المعاصر على بدء متكرر الفصول، ونحن نعيش في كنف عولمة جبارة تأكل سنواتها العجاف ما يقدّمه المستضعفون عموما والمسلمون على وجه الخصوص لها من ضحايا وقرابين دموية وتنازلات هالكة، ثم بعد ذلك لا يكون المتاح أمامهم إلا أن يلبسوا تفصيلات خاطها لسيرتهم الإعلام الغربي المتواطئ البئيس، الذي دأبت أذرعه على بث وتصوير الضحايا والمظلومين ـ وعلى رأسهم اليوم معشر المسلمين ـ من خلال برامجها بالصوت والصورة ومنقول الأثير كمتوحشين إرهابيين وبرابرة مبتذلين يعادون الحياة، ويبغضون التحضر أينما أناخت مطايا ركائبهم، حتى صار الإرهاب مرادفا تستوعب تهمته الإسلام شريعة وشعيرة، وفقها وعقيدة وسلوكا،وكتابا وسنة، ومُرسِلا ورسولا، ورجالا ونساءً، وشيوخا وأطفالا…

والحقيقة أنّها نظرة ما فتئت تكرِّس لدى شعوب الغرب ووجدانهم الجمعي سكرة وفكرة أن الحروب الهجومية التي تخوضها حكوماتهم وعسكرهم إنّما هي حروب دفاعية نبيلة القصد، شريفة الجهد، بريئة العهد، كريمة الوعد…

فهل كانت هذه هي حقيقة القوم وسيرتهم التي سوّق وما فتئ يسوِّق لها الإعلام الغربي بكافة وسائله وأدواته وأنواعه؟؟؟

إن سيرة الغرب في واقع الناس ودولة زمانهم منذ أن قفز الرجل الأبيض إلى مقصورة قيادة الأمم، لم تكن في الواقع والحقيقة سيرة سويّة، بل غلب على ركزها في مناكب الأرض وزواياها طابع اللصوصية، والسرقات الموصوفة، والنهب لثروات المستضعفين، وفرض الاستبداد واستعباد الناس في أوطانهم، والهيمنة على مراكز القرار خدمة لمصالح الغرب الأمبريالية، وفرض سياسة تجهيل، وتنكيل وسجن، وإصمات وإخماد، وقمع وتجويع للشعوب المقاومة، وإبطال مفعول أي قوة مبدعة تنطلق من صفوفهم من شأنها أن تحرِّر الإنسان المستضعف من أسر وبطش وسطوة هؤلاء اللصوص المترفين، إنها للأسف سيرة ملأت أرجاءنا بأفعال وسلوكات تشيب من شدة بطشها وجبروتها النواصي، حتى بات مستقبل العيش والمساكنة وصار منطق التعارف الشعوبي والقبائلي على هذه الأرض يكتنف أنفاسه الشؤم من كل صوب وناحية، وأي شؤم أكبر ولا أبشع من أن تُقدّم حقوق المستضعفين باسم حماية الحقوق هدية وقربانا لوحوش بشرية تسترق آمال الإنسان وتغتصب خيرات البلدان، وتلغ دماء الغلابة، وتأكل لحومهم في ضراوة وحقد مخيف، قد جمع أصحابه بين الضغن الأعمى والجشع الأنكى.

إن مهمة الأشراف اليوم من ذوي المروءة والفكر، وصادق الانتساب إلى أمتهم المستهدفة هي مواجهة هذا الزيف الذي يضفي على هذا الحيف أصنافا من المشروعية، يصير معها المدافع المنافح عن وطنه ودينه وعرضه وأمته إرهابيا مجرما متطرفا يبغي الفساد في الأرض ـ مع واجب تقدير الاستثناء هاهناـ ، وأن يكبت أصحابه ويفرملوا في رباطة جأش حركة الكذابين المحليِّين من الذين يعتلون المنابر أينما حلّوا وارتحلوا، فيُعيبون السيف وينكرون امتشاقه دفاعا عن النفس وردا لعاديات البغي والعتو، بينما يسكتون عن كوارث ومآسي الرجل الأشقر، بل يصفقون للقتل والفتك الهمجي المقيت الذي ما فتئت تمارسه الآلة الحربية الغربية في غير رحمة ولا شفقة ولا رفق، فتجرَّبُ فينا أم القنابل وأخواتها من عنقودية وفسفورية وجرثومية وكيماوية حارقة لا تبقي ضرعًا ولا تذر زرعًا، وهم بذلك أي هؤلاء المحليين كالذي يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين عدوِّه.

وإنّها لمهمة نبيلة، لكنها ليست بالسهلة ولا بالمستحيلة، خاصة في ظل عالم عمّه النفاق السياسي والاجتماعي، فقد ترى هذا الرجل الأشقر الذي لطالما استنفر جيشا عرمرما من أجل إنقاذ قطة علقت في شرخ سحيق، أو كلبة سقطت في جب عميق، أو غيلم وسلحفاته انجرا مع سيل عرم، يواصل جنسه ونوعه تحت أشعة النيون الإعلامية عمليات الإنقاذ لأيام وليالي متواصلات من أجل تنفيذ هذه المهمة الإنسانية، هو هو جنسا ونوعا من ينتهك كل المواثيق والقوانين والضوابط الأخلاقية والأعراف المرعية إذا تعلّق الأمر بجنس المسلمين ونوعهم، فلا يقيم لهم وزنا ولا يقبل منهم عذرا ولا يلقون منه نظير ما يعامل به الحيات والثعابين السامة من رفق وحسن رعاية وبالغ صيانة…

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M