وقفات علمية مع د.أحمد كافي لما قرره في مشاركته في النقاش حول “مدونة الأسرة”: السكن الرئيس والإرث

21 نوفمبر 2022 14:29

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

الحلقة: 1/2

نشر فضيلة الدكتور أحمد كافي على موقع حركة “التوحيد والإصلاح” شريطا مسجلا بعنوان: ” مشاركة في النقاش حول مدونة الأسرة.. السكن الرئيسي والإرث”، تناول فيه موضوع السكن الرئيس وأحقية الأسرة به دون باقي الورثة في حالة بعينها، هي التي وصفها بقوله:
“نحن نتحدث بالضبط عن الأسرة التي ليست عندها وفر، والتي ليس عندها إلا هذا البيت؛ ليس عندها تركة أخرى يمكن أن يستوفي العصبة حقهم بارتياح…إذا كان لهذه الأسرة بيت هو سكنها ومستقرها، وليس لها أي شيء آخر تملكه مما يمكن أن تعود به على العصبة لاستيفاء حقهم من هذه التركة، هنا أرى والله أعلم.. ألا ندخل هذا البيت في وعاء التركة ولا يكون من مشمولاته، ويبقى لهذه الأسرة تنتفع به”. انتهى

ولتعزيز هذا الرأي، قدم فضيلته أدلته الشرعية المرعية التي عول عليها فيما ذهب إليه، وهي عبارة عن دليلين عنون الأول منهما ببيوت زوجات النبي، والثاني بالسنة العملية في حياته عليه الصلاة والسلام.

وقبل مناقشة ذينك الدليلين واستنطاق محل الشاهد منهما، أشير إلى أن المسألة التي كانت مثار الجدل والسجال ليست السكن الرئيس للأسرة المتوفى عنها معيلها (زوجا وأبا)، بل السكن الرئيس للزوجة عند وفاة زوجها(1). وبدهي أن بين الصورتين فرقا كبيرا، خصوصا ونحن نتحدث عن الحقوق المالية بين الناس التي الأصل فيها المشاحة وليس المسامحة؛ فالأسرة عند وفاة المعيل تتكون عادة من زوجة الهالك وأولاده وأحيانا أمه، والقول بأحقية انتفاع هذه الأسرة بالسكن الرئيس بالضابط المذكور أعلاه لا يمنع سوى العصبة الأباعد، ولكن لا يـعـيّـن الحقوق إذا وقع النزاع بين أفراد تلك الأسرة واستحال عيش أفرادها معا في ذلك السكن: فهل ستنفرد بالانتفاع به زوجة الهالك لوحدها؟ أم ستنفرد بالانتفاع به بنت الهالك لوحدها؟ أم بناته؟ أم أمه؟

هي أسئلة شائكة ملحة لا محيد عنها، لأنها جوهر الموضوع ومحوره، وخاصة حين إطلاق مصطلح “الأسرة” أو أسرة الهالك، ولعل الإجابة عنها قد تغير الموضوع رأساً على عَقِب، سواء من حيث الاستدلال والتحليل ورعاية المصالح.

وبناء عليه، أبادر إلى أن الدكتور أحمد كافي لم يكن دقيقا في اختيار المصطلح المناسب في توصيف الحالة التي يريدها بالضبط، وهذا سيفضي حتما إلى الغبش بخصوص فهم الواقع وتصوره تصورا سليما، ومعرفة الواجب فيه(2). والغريب أن الدليلين اللذين ساقهما لا يعنيان الأسرة بتاتا، بل زوجات الهالك فقط. لهذا، وجب مناقشة هذين الدليلين في ضوء دلالة مصطلح الأسرة واستدعاء صوره عند الحاجة؛ لأن المدونة التي تعرف نقاشا نخبويا ـ ولا أقول اجتماعيا ـ ليست مدونة المرأة أو الزوجة، وإنما هي مدونة الأسرة كما أومأ إليه الخطاب الملكي.

تمحيص_الدليل_الأول: بقاء زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في بيوتهن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى

قال الدكتور أحمد كافي:

“بيوت أزواجه؛ لأننا نعلم قطعا أن أبابكر الصديق ومن معه من أصحاب النبي منعوا آل محمد من ميراث ما تركه عليه الصلاة والسلام، واستشهدوا بالحديث المشهور: «نحن مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ مَا تَرَكْنَا، فَهُوَ صَدَقَةٌ»، غير أننا لم نجد من هؤلاء الصحابة الكرام قد قال بإخراج أزواجه من بيوته صلى الله عليه وسلم، أو قال بضم هذه البيوتات إلى مصرف الصدقة ومصالح المؤمنين، بل عاشت أزواجه في بيوتهن ولم يخرجن منها، ولم يلحقنا هذه البيوتات بالتركة ولا بأي شيء… على سبيل الرفق بهن لا التمليك”.

قلت: بيان الشاهد من كلام الدكتور أنه أنزل بيوت أزواجه منزلة السكن الرئيس الذي لا بديل لهن عنه، وأنه وقع اتفاق الصحابة على عدم ضم تلك البيوت إلى مال الصدقة على سبيل الإرفاق دون التمليك. وبناء عليه، جاز أن يقيس حالة النساء اللواتي توفي أزواجهن، ولم يتركوا لهن إلا سكنا رئيسا لا بديل لهن عنه، بحالة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بجامع الإرفاق.

وهذا الدليل لا ينهض، في تقديري، بأن يكون حجة للمطلوب بناء على حجج ثلاث:

1 ـ إن ظاهر قول النبي كما جاء في الصحيحين مرفوعا « لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يقتضي أن جميع أموال النبي عليه الصلاة والسلام التي تركها صدقة لا يحق لأي وريث من ورثته أن يطالب بها أو يستفيد منها، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى نساءه من جميع ورثته، وخصهن بالنفقة من ماله، ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ يَقْتَسِمْ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ»، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى جميع ورثته أن يقتسموا ما تركه من مال، ثم استثنى منهم نساءه وخصهن بالنفقة، ولم يضرب لهن وقتا معلوما تنتهي النفقة عليهن بانتهائه، بل يستفدن من ذلك طيلة حياتهن، وهذا بخلاف ما تقرر في الشرع أن عموم النساء المعتدات من وفاة لا نفقة لهن من مال أزواجهن بالإجماع.

وإذا كان حديث أبي هريرة يتحدث عن النفقة وليس عن السكنى، فلا مانع أن تدخل السكنى في عموم النفقة التي تحتاجها زوجاته رضي الله عنهن. ويتأكد هذا الدخول حين نعلم أن النساء المعتدات من وفاة أذن لهن الشرع في البقاء في بيت الزوجية طيلة مدة العدة أربعة أشهر وعشرا، لكنه لم يشرع لهن النفقة، أما أزواج النبي فقد شرع لهن النفقة طيلة حياتهن، وعليه، فدخول السكنى في حقهن هو من باب أولى.

2 ـ إن لزوجات رسول الله عليه والصلاة خصوصية ليست لسائر زوجات المسلمين، فهن رضي الله عنهن أمهات المؤمنين، ولا يحق لهن الزواج أبدا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكأنهن في حكم المعتدات من وفاة، اللواتي لا يجوز إخراجهن من بيوتهن بسبب العدة، لأن عدتهن دائمة وليست مؤقتة كسائر النساء، فلا تنتهي إلا بوفاتهن رضي الله عنهن. يقول الخطابي: “ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم ‌في ‌معنى ‌المعتدات؛ لأنهن لا ينكحن وللمعتدة السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها”(3)، فقرر أن لزوجات النبي أمهات المؤمنين خصوصية في السكنى والنفقة لا يقاس عليهن غيرهن من النساء اللواتي محل الزواج بعد انتهاء العدة من وفاة أزواجهن. وهذا توجيه قوي يسقط دعوى القياس بزوجات النبي عليه الصلاة والسلام لوجود الفارق بينهن وبين زوجات المسلمين.

3 ـ إن الأموال التي تركها النبي صلَّى الله عليه وسلم، ومنها بيوت زوجاته رضي الله عنهن، ليست محلا للإرث ابتداء، فهي أموال صدقة كما سماها رسول الله وليست إرثا يرثها قرابته من بعده، سواء كانوا من أصحاب الفروض كزوجاته وبنته فاطمة رضي الله عنهن، أو من عصبته كعمه العباس رضي الله عنه، إنما هي أموال صدقة تصرف حيث صرفها رسول الله عليه الصلاة والسلام بإشراف ولي الأمر بعد وفاته. وبلغة العصر، إنها أموال مرصدة للصدقة بقيت تحت وصاية الدولة ومسؤوليتها ونظرها، ولا يعرف مالكها على الحقيقة إلا عندما يتسلمها. أما السكن الرئيس الذي هو محل البحث والمناقشة، فهو مال لورثة على جهة التعيين، يحق لهم المطالبة به والتصرف فيه بمجرد موت الزوج، ولا يحق لولي الأمر أو للدولة أن تضع يدها عليه وتتصرف فيه لا بالإرفاق ولا بالتمليك.

يتبع إن شاء الله تعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) وهذا ما حاول الأستاذ عبد الله ابن الطاهر مقاربته من خلال مبدأ الكد والسعاية، وجانب الصواب في ذلك.
2) فإن ثـلـثَـي الفقه الصحيح ليس إلا تصورا سليما مطابقا للواقع معبرا عنه بلغة فقهية واضحة.
3) معالم السنن (3/48)، وقال أيضا: « بلغني عن سفيان بن عيينة أنه كان يقول: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ‌في ‌معنى ‌المعتدات، إذ كن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا، فجرت لهن النفقة، وتركت حجرهن لهن يسكنها». أعلام الحديث (2/ 1348).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M