أثر التقليد الثقافي على الطفل المغربي.. متابعة سوسيولوجية
هوية بريس – د. إدريس كرم
مر على هذا البحث الذي نشر في كتيب من قبل (مجلة التربية والتعليم) حوالي ثلاثين سنة، وقد جاء في تقديم المجلة له:
“إن حاجتنا إلى تحليل واقعنا الإجتماعي ودراسة مكونات ثقافتنا على كل المستويات، ضرورة علمية وشرط أساسي لمواجهة تحديات عصرنا المتنامي في كل المجالات، ومن ثم يصبح من الضروريات العلمية تفهم المتغيرات التي واكبت وتواكب عملية تنشئة الطفل المغربي في ظل مناخ الثقافة الإجتماعية السائدة، وهذا التفهم يقتضي بالضرورة المواجهة العلمية المستنيرة لما قد تتمخض عنه هذه التنشئة من مشكلات ومتناقضات” انتهى منه بنصه.
ذكرني بهذا الموضوع، ما وقع من إهانة علم البلاد أمام البرلمان الذي هو حسب دساتير العالم مقر ممثلي الأمة ومشرع قوانينها والمعبر عن رغباتها وحاجاتها، ففيه ممثلو الأحزاب الحاكمة والمعارضة والنقابات المهنية وممثلو المشغلين، وهم الذين تكفلوا منذ الإستقلال بقولبة المجتمع، وتنميط أبنائه، ليكونوا مثل الذين تم رصد تصرفاتهم أمام البرلمان، وهم يعبرون عن رأيهم في المؤسسات والسياسات ورمز الوطن (العلم) الذي لم يكن له دور في المعارضة ولا في الأغلبية، وإنما هو تعبير عن هوية وطن مات من أجل رفعه الآلاف من المغاربة دفاعا عنه لأنه يمثل استقلال البلد وعدم خضوعه للأجنبي.
أما وقد اعتدي عليه وأمام البرلمان من قبل المتمدرسين، فيجب مساءلة مدبري الشأن العام عن هذا الخطب الجلل بعد وضعه في مكانه الصحيح من منظومة القيم التي لم يعد لها مكانة لدى هذا الجيل الذي انفلت من التقليد، بفعل السياسة الإستعمارية أثناء الحماية وبعد الحماية بالوكالة من قبل مناهضي الحاكمين والتابعين والمستغربين، حتى إذا ما سقطت تلك الواجهة التي كانت تحمي المجتمع والمدعومة أساسا من الأخلاق الإسلامية وما جرى به العمل تم الإنقضاض على كل مكونات تماسكه، وآليات ترابطه، فكان ما كان أمام البرلمان، والذي لم يعقد بالمناسبة جلسة خاصة لا لمساءلة وزير أو غفير وإنما لمساءلة مدبري الشأن العام من إعلام وأحزاب ومثقفين وسلطات محلية وتربوية وتنشيئية عن هذا المارد المجتمعي، الذي انطلق من قمقم التسيب المنتج من الأكل والإستهلاك الذي لم يعد يخضع لمنطق ولا لحلال أو حرام.
لقد كتبنا في سنة 1992 رسالة جامعية حول علاقة العصرنة بما سيحدث في المجتمع، وقلنا بأن المجتمع المغربي سائر نحو التفكير بمعدته وشهوته، وأنه سيحدث انهيار للقيم سيكون أول ضحاياه العاملون على هدم القيم الموصوفة بالتقليدية وكذلك كان، حيث وجدنا في العشرين سنة الأولى من الألفية الجديدة أعداء الدين والتدين يطالبون بحماية رمز الشرعية الدينية المتمثل في إمارة المومنين، ويقولون بما لم يقل به ماركس وانجلز وروزا في صلاحها وقدرتها على التأطير والتدبير، ثم هرول المعادون للرأسمال للمغالاة في الدعوة للخوصصة والتخلي عن العمومي، وبيع المؤسسات العامة للقطاع الخاص، فاعلين ما كانوا يدفعون الناس لفدائه بالمهج والأرواح في أكثر من مجال، وما دروا أنهم بتحولهم في المواقف تسعين درجة حسب المصلحة يحفرون في مفاهيم الأمة ما لا يقوون على ردمه واجتيازه، وجاء اليوم الذي تم العبث فيه بالعلم فلم يقدر أحد على الخروج للعابثين لنهيهم ووعظهم لعدم وجود رمز يصدق ولا قوة تحترم.
لقد تم تعرية المستور وهو أنه لم يعد من يمكنه التوسط ولا الجهر بالحق ولا تبصير غير المبصر الذي ضاقت به السبل، ولم يعد يدري حدود الواقع والمتخيل من القول والعمل، بعدما لم يعد لشيء قيمة لا في ذاته ولا في سيرته ولا في منطقه.
لقد دخلنا للغابة هوى وشهوة عن سوء تصرف حيث لا شافع ولا مشفع لوقف التحفز للإفتراس والتغول، فحذار حذار من فوات الوقت على ما بقي من باقية التقليد والرشاد، فالذي يظن أنه سيبقى في منجاة من نار الشطط وضرر الخلط واهم، لأن ألسنة نيران الفتن لا تبقي ولا تذر.
فهل سيظهر في الأمة رشداء يتداركوا ما لم يتغول بعد، ويستمعون القول فيتبعون أحسنه، ثم يرشدون ويرشدون؟
والله غالب على أمره.