أسياد السرقة.. وديمقراطية اللصوصية
هوية بريس – طارق الحمودي
بطاقة تعريف دولية
السرقة أخذ أموال الناس خفية بغير إذنهم، فإن كان ذلك علانية كان حرابة وقطع طريق، وقد كانت “السرقة” ولا تزال جزء من الممارسات الإنسانية، وتتردد أسبابها بين “الاضطرار والحاجة” وبين “التوسع“، وبسبب ذلك تنوعت مواقف الشريعة من “السارق“، فجعلت لسرقة التوسع عقوبة قطع اليد، وعذرت الشريعة من سرق لدفع حاجة ضرورية كالطعام والشراب واللباس والدواء وغيرها، فإن كان أخذ المال عنوة علانية، كان ذلك في لغة الشرع “حرابة” عقابها الصلب أو قطع يد ورجل من خلاف، أو النفي من البلاد، ويرجع ذلك إلى صورة “الحرابة” الحاصلة، وهذا دال على “صرامة” الشريعة الإسلامية في مواجهة هذا النوع من “معيقات التنمية والإصلاح” .
سرقات.. ومسروقات
تطور مفهوم “السرقة” في العقل الإسلامي ولغته وأدبياته، فلإن كان معنى سرقة الأموال هو ما يتبادر إلى خاطر المخاطب ،فثم “سرقات” أخرى، متعلقة بـ”مسروقات” أخرى سوى المال، تجتمع معه في “الخيرية” و”القيامية“، فإن الله تعالى وصف المال بقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ»، وقال: و«َلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا»، ولذلك صرنا نتحدث عن “سرقة الأوقات” و”سرقة القلوب” و”سرقة الأحلام“، و”سرقة الأفكار“، و”السرقات الأدبية والشعرية“، و”لصوص النصوص“، و”سرقة العقول“، وحدث عن “السرقة” وأنواعها، و”اللصوصية“… ولا حرج!
حتى لا تعلم يمينه ما تسرق شماله
جعل علماء الحديث من جملة المطاعن في “رواة الأخبار” الفسق، وأصلهم في ذلك “الكذب“، وهذا عجيب من تصرفاتهم، ومن أدل شيء على عمق فهمهم، ودقة ملاحظتهم، فقد رأوا أن “من يسرق” لن يتردد في “أن يكذب“، وكذلك من يزني ويشرب الخمر، فكل ذلك أمارات على “خراب العرض” و”فساد الطوية“، فالسارق من أصحاب الشمال قطعا، مهما كانت يده التي يسرق بها “يمينا” في الظاهر، فهي شمال في الحكم، فالسارق ساقط العدالة غير مؤتمن على “نقل الخبر“، فما بالك بالأنفس والأموال والأعراض …والعقول.
لصوص العقول.. وأسياد الإلهاء
من عجائب كتاب الله تعالى التي لا تنتهي، أنه وصف شدة تأثير “عمل الساحر” الذي كانت نخبة فرعون تمارسه لنشر “العماء” في الشعب المصري، قبطيه وعبريه، بقوله تعالى: « قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ »، فهو سحر للأعين، وسرقة للألباب، وإيهام خيال غير واقع، وكذلك حال سحر اليوم، وهو الإعلام المرئي خاصة، وتبع له في التأثير وهو دونه، الإعلام الصوتي والمكتوب، فهو يمارس أنواعا من “التلاعب بالعقول العامة” و”سرقة الوعي“، وأنواعا من الإيهام والإشغال، لتمكين “لصوص المال” من ممارسة هوايتهم المفضلة بعيدا عن المراقبة والمتابعة، لانعدام أو ضعف “حالة الوعي بالسرقة“، ويشبه دورهم، دور من يلهي صاحب البيت أو السلعة بالمحادثة والحكايات، كي يتمكن “لص المال” من أخذ ما يريده، ثم يقاسم ذلك مع “الملهي“، فهي عملية “سرقة مركبة“.
سرقات بالجملة.. وتهريب عالمي
شهد القرن العشرين واحدة من أكبر عمليات السرقة والسطو المسلح في العالم، كان بطلها دول وصفت بعد ذلك في مقررات التعليم ومقالات المجلات والكتب الفكرية بـ”الإمبريالية“، منها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولاندا وبلجيكا وغيرها، وكانت “ضحيتهم” أموال الشعوب الأفريقية والآسيوية، من شمال القارة إلى جنوبها، وقد شهدت البحار والمحيطات عمليات تهريب كبيرة جدا، للألماس والذهب وكثير جدا من المعادن، وغير ذلك مما يطول عده، واستمر ذلك، بسرقة “البترول” و”الغاز” و”اليورانيوم” وغيره، لكن هذه المرة بتعاون من “عملاء محليين” ركزوا في القصور الرئاسية، والمؤسسات الوطنية، ولست أنسى ما ميز القرن التاسع عشر، من عمليات سرقة للبشر من أفريقيا، لبيعهم في “الأرض الجديدة” ،التي سيقوم اقتصادها القوي على أكتافهم، واليوم ترمى حقوقهم في البحر الذي جاؤوا منه.
الضيف السارق.. بين يديك
لم نكن نتصور ونحن ندير رقم الهاتف الرباعي على هواتف البيوت القديمة ان يصل عدد الأرقام في بلادنا إلى عشرة، وأن يصير الهاتف الثابت ذو الأذنين الكبيرتين، هاتفا ذكيا محمولا…في كل مكان، يصحب الناس في الشراع والمؤسسات والمساجد والإدارات والأسواق والمراحيض أيضا، وصار بعد مدة أحد أكبر “لصوص الأوقات” في العالم، تجاوز في ذلك محاولات متواضعة من “القنوات الأرضية” في الزمن الغابر، عبر تلفزات تغير قنواتها باليد، بالتدوير، ثم ضغطا على الأزرار بعد التطوير، وها نحن اليوم أمام سرقة لآلاف الساعات في العالم، يضيعها أصحابها في متابعة “التافه” من “الأخبار” و”المعلومات“، بل استطاع الهاتف أن يسرق من الناس “علاقاتهم الأسرية“، ويعوضهم بغيرها في عالم “افتراضي“، تسرق الساعات، ويتحول الأمر إلى سرقة “أجزاء مهمة من الأعمار“، يفتح احدنا برنامجا من برامج “التواصل الافتراضي“، حتى إذا رفع رأسه من ذلك، بعد سنوات، وجد الأبيض قد اختلط بالسواد في شعره ولحيته، وانكمشت جلدة وجهه، ولم يبق أحد حوله من أهله وأقاربه، هذا إذا كان قادرا على ملاحظة ذلك، فإن أغلب من سيرفع رأسه حينها، سيكون قد دخل حالة “الزهايمر“، ولا مخرج له منها….إلا إلى قبره !
سياسة اللصوص…عند لصوص السياسة!
من غرائب فروع البحث الأكاديمي المتعلقة بالفكر السياسي، ما اصطلح عليه الباحثون “الكليبطوقراطية-kleptocratie”، وتعني “نظام حكم اللصوص“، وهو نظام قائم على “إيهام السياسة“، التي سرقوها من أصحابها، وهو نظام يتمكن به مجموعة من “اللصوص” بالسطو على “مقاليد التدبير السياسي” للوصول إلى “خزائن الدولة“، وتفريغ حمولتها شيئا فشيئا في جيوب كبيرة مفصلة على سراويل متجاوزة للكعبين، وهذه أنظمة فجور سياسي كما وصفها الدكتور فريد الأنصاري، لكنه فاته أن يجعل سرقاتها من “مظاهر الفجور السياسي“، وهي أقبح كابوس يبتلى به شعب من الشعوب، حتى إذا استفاق، وجد السارق يخطب بالكذب والتزوير، مستعينا بأدوات “الإيهام والإلهاء“، والسرقات التي تتم على يد هذا النظام تكون أعظم وأقبح السرقات الوطنية، فهي سرقات للمال العام، وآثارها قبيحة مخربة كارثية، ينبني عليها سرقة أحلام الناس وحقوقهم، وضياع البلاد وفساد العباد، وغالبا ما يكون هؤلاء “أسياد الخبث والسفاهة“، وهم مع “أسياد الإلهاء بالتفاهة” صانعو محتوى…الفساد والإفساد، حتى إذا لم يُبْقِ هؤلاء اللصوص ما يُسرق، أمن الناس على أنفسهم، لعدم ما يملكون، كما قال شاعرهم:
أمنت في بيتي اللصوص فما — للِّص فيه فوقٌ ولا تحتُ
فمنزلي مطبق بلا حرس — صِفر من الصُّفر حيثما دُرتُ
ديمقراطية اللصوص
اشتهر بين الناس حكاية لطيفة لدوق بريطاني شاب، آل به الأمر إلى تكوين “عصابة” من “الفقراء“، يعترضون طريق القوافل الإقطاعية، ويصادرون محتويات العربات الملكية، يأخذون كل ذلك من “لصوص الأغنياء” ويردونها إلى “الفقراء“، وسارت قصته مسير الأحجية الغريبة، ولم تكن محل إجماع قبول من الجميع، ومع ذلك، فقد كان لصا ديمقراطيا، ينصر الشعب ضد الإقطاعيين الذين نهبوا خيراته، ولا يمنع ذلك، من أن يأخذ من ذلك ما يقيم به حال مجتمع “اللصوص” الذي أنشأه في الغابة، بل ربما أقام مآدب فاخرة لهم، ثمن “ديمقراطيته“، ومع هذه المواساة التي تعد أصلا من أصول الديمقراطية، تنضاف قيمة العدل، والتي تعد في “الفكر اللصوصي الديمقراطي” أساسا مهما لاستدامة التنمية اللصوصية، وقد أعجبني في هذا قول قدامة: «حسبكم دلالة على فضيلة العدل، أن الجور الذي هو ضده لا يقوم به إلا به، وذلك أن اللصوص إذا أخذوا الأموال واقتسموها بينهم، احتاجوا إلى استعمال العدل في اقتسامهم، وإلا أضر ذلك بهم»، فاعجب من “جور” يقوم على “عدل“… واستمر في التعجب فليس لك عنه محيد!
“اللصوصية”…في الدراسات الجامعية
لم تفلت “الجامعة” من أذى “اللصوصية“…كما لم تحرم من “فضلها“، فصحيح أن كثيرا من الباحثين في أطاريحهم، يسرقون النصوص، كما يفعل بعض المؤلفين، وبعض كتاب المقالات، فإن من فضل “اللصوصية” على الجامعة، أن مثلت مادة للبحث والمدارسة، ومن ذلك بحث عجيب مثير، أنجزت أطروحة الدكتوراه فيه عن “اللصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط“، وهو بحث منتم إلى مختبر التاريخ والمجتمع في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وقد أنجز البحث الدكتور يونس شيكر، في الموسم الجامعي 2020-2021م، الموافق للأصل الهجري 1442،1443هـ، وقد سبقه إلى ذلك الجاحظ، فإن له رسالة في اللصوصية، أشار إليها في مبدأ كتابه “البخلاء“، والتقييد بالعصر الوسيط يدل على استمرارية هذه الآفة وتطورها، ومتابعتها بحثيا أمر جدير بالاهتمام.
أخيرا…سرقة الزكاة
لعل من أقبح أنواع السرقات التي تمنع الخير، وتحبس القطر في السماء، سرقة أموال الزكاة، وأسياد هذه السرقة هم مئات من أصحاب المال والنفوذ.. وربما السياسة، ممن “أفلتوا” تاريخيا من شبكة “بخلاء” الجاحظ، و”لصوصه“، وهم مانعوا الزكاة، قوم ترجع أصولهم الفكرية إلى قبائل عربية، امتنعت، وربما ارتدت عن هويتها، فقاتلها أبو بكر ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس حقوق الفقراء من أبشع السرقات، لأنها مصحوبة بالتدليس والتزوير، فهم من يدفعون الأموال لبني علمان أسياد التزوير الفكري، من أجل الترويج لفصل الشريعة عن “الحياة المالية للشعوب“، ويمولون أبحاثهم المزورة للحقائق، لبث المغالطات في حق الإسلام وأهله، حتى إذا تمكنوا من ذلك، بمساعدة أسياد الإلهاء، ضاعت الحقوق، ومنع الغيث النافع، وظهر الغلاء، وقامت الفتن، نسأل الله السلامة والعافية، فاللهم أدم علينا نعمة الوحدة الوطنية والأمن والإيمان، اللهم آمين.