أوهام المثقف العرقي.. الأساطير في مواجهة حقائق التاريخ وثوابت الواقع
د. إدريس جنداري (باحث)
هوية بريس – الجمعة 15 يناير 2016
تعيش الاطروحة العرقية، في المغرب، على وقع تحولات خطيرة تهدد مقومات الهوية الوطنية، في العمق، وقد ساعد على ذلك انبثاق الثورة المضادة مسلحة بدعم خارجي لا محدود من أجل استئصال بذور الربيع العربي.
في هذا المناخ السياسي التآمري الموبوء، يجد دعاة الاطروحة العرقية، في المغرب، الفرصة مواتية من أجل الانقضاض الشرس على مقومات الهوية الوطنية المجسدة في العروبة والإسلام كركنين أساسيين لا يمكن أن يتم البناء المغربي دونهما. فعلى خلاف كل الأوهام العرقية المُرَوّجة، لا يثبت التاريخ المغربي قيام كيان وطني مستقل خارج البعد الحضاري العربي الإسلامي للمغرب.
مناسبة هذا الحديث ترتبط بالخروج الإيديولوجي المثير لمُجَنَّد عرقي، لا يخفي نزوعه الاستئصالي لكل ما يرتبط بمكوني “العروبة” و”الإسلام” في المغرب. فبعد أن جرب لعبة توظيف المرجعية الفكرية والحقوقية الحديثة، بشكل مشوّه ورديء، من أجل تصفية الحساب مع البعد العربي الإسلامي للمغرب، يركب هذا المجنّد العرقي، اليوم، مركبا جديدا، ويتوجه رأسا إلى تهديم المعبد بمن فيه، وهو يتوهم أن الأرض أصبحت غير الأرض، وبإمكانه أن يهيئ حماره لجر المحراث الخشبي من أجل حرث سيرة جديدة لبلد عربي إسلامي أصيل مثل المغرب!
ففي خرجة إيديولوجية جديدة بمدينة تنغير، فسح السيد حسن أوريد المجال واسعا لمخيلته العرقية تصول وتجول بلا رقيب، وهو يتساءل عن المداخل الممكنة لبناء مغرب فاعل ومبادر في محيطه الإقليمي والدولي، ولعل من أبرز الإشكاليات التي شغلت بال السيد أوريد، وهو ينظر للخصوصية المغربية، إشكال عرقي مفضوح يجد تفسيره في المرجعية الكولونيالية ويستعيده السيد أوريد كأنه إشكال معرفي موضوعي.
فالتساؤل عن جدوى ارتباط المغرب بمحيطه العربي الإسلامي (الشرق) سبق أن أثير منذ دخول المغرب ضمن الحسابات الاستعمارية (الفرنسية خصوصا) وكان توجه الاستعمار الفرنسي إلى فك ارتباط المغرب عن محيطه الحضاري العربي الإسلامي، من خلال محاربة مقوماته الحضارية المجسدة في اللغة العربية والدين الإسلامي. ونحن بدورنا نتساءل: ما الجديد الذي اضافه المجنّد العرقي وهو يستعيد الأطروحة الكولونيالية ويلبسها لباسا تاريخيا وفكريا لا يليق بنزوعها الإيديولوجي الفج.
هذا يقودنا إلى مناقشة الخلاصة التي صاغها السيد أوريد على شكل توجيه مباشر، لا يخلو من عدوانية عرقية، فالبعد الحضاري الذي رسخه المغاربة، على امتداد قرون، سواء كانتماء قومي عربي أو كانتماء ديني إسلامي، هو في اعتبار المُجَنّد العرقي منظومة مستوردة لا تتطابق مع مصالح المغرب، وهذا أكبر تزوير يمكن أن يمارَس باسم التاريخ.
فإذا كان المكون الحضاري العربي الإسلامي مستوردا فما هو المكون الحضاري البديل الذي يجسد خصوصية المغرب؟ هل يمكن الإثبات علميا أن هناك ثقافة قومية مغربية جامعة سابقة عن الثقافة العربية الإسلامية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يوجد تراث علمي وفكري وأدبي مكتوب سابق عن الثقافة العربية الإسلامية يمكن للمغاربة أن يحيوه؟ ما هي الأسماء الفكرية والعلمية والأدبية التي تشكل القومية المغربية، رمزيا، من خارج البعد الحضاري العربي الإسلامي؟ كم عدد المؤلفات العلمية والفكرية والأدبية المدونة بلغة قومية أخرى غير اللغة العربية في المغرب؟
كلها إشكاليات معرفية صرفة، لا يطرحها المجند العرقي ويمر عليها مرور الكرام لأنها تهدد استقرار نسقه الإيديولوجي المنغلق على ذاته، ولذلك فهو بدل أن يفكر في البناء عبر المحافظة على الموروث الحضاري الذي أنتجه المغاربة، على امتداد قرون، مع العمل على تطويره من منظور حضاري منفتح، بدل مهمة البناء الصعبة يلجأ المجند العرقي إلى أسهل الحلول، من خلال ممارسة التهديم والتدمير، مع العجز التام عن تقديم البديل اللائق لأنه يدرك، في قرارة نفسه، أنه غير موجود.
في ظل هذا العجز عن تقديم البديل الحضاري، نجد المجنّد العرقي (يركب رأسه) ويهرب إلى الأمام، مفضلا تشييد المباني الطائرة بدل الارتهان إلى الواقع العملي الملموس عبر التحليل العلمي الملموس. فهو يقر صراحة، نهاية الأمر، أنه لا يمتلك بديلا ذاتيا يمكنه أن يساهم في تشييد الخصوصية القومية المغربية بعيدا عن الانتماء الحضاري العربي الإسلامي، لكنه يعوض كل هذا الخواء الحضاري بحلم عابر لا يرتكز على أي مبادئ معرفية صلبة يمكنها أن تحوله إلى حقيقة.
فالبديل، في نظره، هو القيم الكونية –هكذا بإطلاق- ولا يتحمل المجند العرقي أي عناء في شرح ما يقصده بالقيم الكونية هذه، غير أنه يوقع متلقيه في خلط خطير جدا حينما يختزل الانتماء الحضاري، كبراديغم وكرؤية للعالم بالمعنى الابستملوجي، في تقنيات وأعمال روتينية بسيطة متاحة للجميع، بغض الطرف عن المرجعية الحضارية، مثل: السياقة والإدارة…! (البديل هو القيم الكونية التي نخضع لها في السياقة والإدارة… في حياتنا اليومية) !!! وهكذا يحسم الجدل بجرة قلم حينما يدعو المغاربة إلى اكتساب انتماء حضاري جديد -يسميه بالكوني- مثلما يكتسبون فن السياقة ومثلما يمارسون أعمالهم الروتينية في الإدارة. فهل يوجد هناك من بؤس إيديولوجي يفوق هذا البؤس الإيديولوجي العرقي ؟ لا أظن ذلك!
في نفس هذا السياق من خلط الأوراق وحشر الحابل مع النابل، لم يفوت السيد حسن أوريد الفرصة دون أن يمارس دجله العرقي في مواجهة هرم لا يضاهى في الثقافة المغربية، بذل كل جهده الفكري والتربوي والسياسي كي يكون للمغرب مكانته المستحقة ضمن التاريخ العربي الإسلامي، ويعتبر مفهوم الكتلة التاريخية من أهم إنجازاته الفكرية، فرغم كون المفهوم يرتبط بالمفكر الإيطالي (أنطونيو غرامشي) على مستوى الدال، فهو جزء من تصور الأستاذ محمد عابد الجابري على مستوى المدلول -كما سبق أن حللنا ذلك بتفصيل في مقال سابق-:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=289469
وإذا كان السيد أوريد يتساءل عن الطرف المقصود من الكتلة التاريخية، التي تجمع تيارات الحركة الوطنية إلى جانب التيارات الإسلامية وكل الأطراف المقتنعة بمقومات الهوية الوطنية، فإن جواب الأستاذ الجابري كان واضحا ولا يحتمل أي تأويل، وهو مبثوث ضمن مشروعه الفكري الضخم. الكتلة التاريخية، في بعدها الوطني المغربي، موجهة ضد القوة الثالثة التي تشكلت، خلال المرحلة الاستعمارية، في مواجهة القوة الأولى المجسدة في المؤسسة الملكية، والقوة الثانية المجسدة في الحركة الوطنية. والقوة الثالثة امتداد للمشروع الاستعماري الذي أسسته فرنسا في المغرب وجندت له الأتباع من المغاربة، من خلال توظيف الورقة العرقية كمنطلق لتهييء مشروع إيديولوجي، بعيد المدى، مناوئ للمشروع الوطني المغربي.
إن الكتلة التاريخية، بهذا المعنى، مشروع وطني شامل هدفه لملمة القوى الوطنية الحية المقتنعة بالخيار الحضاري المغربي، في بعده العربي الإسلامي، وذلك من أجل الاستعداد الدائم لوأد كل المحاولات الساعية لتفكيك الهوية الوطنية.
فإذا تمكن المغاربة، خلال المرحلة الاستعمارية، من توظيف روح الكتلة التاريخية في مواجهة المشروع الاستعماري الذي جسده الظهير البربري، وإذا تمكنوا، بعد الاستقلال، من توظيف روح الكتلة التاريخية لإفشال مشروع القوة الثالثة الذي قاده الثنائي سيء الذكر (لحسن اليوسي وعدي أو بيهي) في شراكة مع بقايا الضباط والموظفين الفرنسيين، فإن المغاربة، اليوم، ما زالوا قادرين على توظيف روح الكتلة التاريخية، في مواجهة أجندة الاستعمار الجديد الذي تجسده الفرنكفونية، وفي مواجهة المشروع العرقي الذي يسعى إلى فصل المغرب عن امتداده العربي الإسلامي، وفي مواجهة الكيان الصهيوني الذي يغتصب أرضا تمثل للمغاربة وطنهم الثاني.
– ملاحظة: التغطية الإعلامية لمداخلة حسن أوريد توجد على الرابط التالي: