أي دور للأسرة في التربية على القيم والتنشئة الاجتماعية؟
هوية بريس – متابعة
تقديم:
تعد مؤسسة الأسرة اللبنة الأساسية التي تقام عليها نهضة الأمم وتقدم المجتمعات وبناء أجيال المستقبل، وذلك بالنظر إلى أدوراها في التربية على قيم الصلاح والاستقامة وتحصين الأفراد من القيم الهدامة والأخلاق الفاسدة التي تعصف بالمجتمع وتغرق به في شراك الفوضى الأخلاقية والنزعة الفردانية ، لذلك شدد ديننا الحنيف على الأخذ بمقومات بناء الأسرة السليمة منذ اختار الزوج لشريكته أو الزوجة لشريكها وذك على أساس الدين والاستقامة، كما أن من مقاصد الزواج تحقيق المودة والسكينة والرحمة بما يحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وخلق بيئة سليمة لتربية الأبناء وبناء أجيال الغد.
وقد عرف موضوع الأسرة ببلادنا نقاشات وسجالات كثيرة بين عدة مؤسسات رسميةوفعاليات مجتمعية ونخب فكرية وثقافية متباينة، حيث تجدد هذا النقاش اليوم وبحدة أكثر في ظل الإعداد لمدونة الأسرة الجديدة، التي يفترض أن تجيب عن اشكالات وقضايا الأسرة المغربية المعاصرةبما يسهم في استقرار وتماسك المجتمع.
وفي هذا الإطار، يتناول ملف “أي دور للأسرة في التربية على القيم والتنشئة الاجتماعية؟“، عددا من القضايا المرتبطة بالأسرة ومكانتها وأدوارها، إسهاما من حركة التوحيد والإصلاح في إغناء هذا الورش المجتمعي الذي من شأنه تعزيز مكانة الأسرة ودورها في بناء الإنسان وصلاح المجتمع.
الأسرة المسلمة والتحديات الراهنة
بقلم: د.عبد الله بوغوتة
مقدمة
إن للأسرة في كل الأمم شأن عظيم، فهي أساس المجتمع الإنساني، وما زال المجتمع بخير ما دامت الأسرة على الفطرة محصنة من كل ما يقوض دعائمها ويفسد أساسها، وما يصيبها فضرره على الفرد والمجتمع ضرر جسيم، قد يصل إلى حد الهلاك والزوال، لذلك، ومن باب الحكمة، أن تنال الأسرة عناية خاصة ومستمرة للحفاظ على كيانها وصيانتها من كل ما قد يؤذيها، ولذلك فهي تحتاج إلى إحكام وتحصين، ومناعة تصد بها الغارات الوافدة، وتواجه بها التحديات المحيطة، والمشكلات العارضة.
ونحن، إذ نتحدث عن الأسرة، فإننا نتحدث عن الأسرة المسلمة المكَرَّمة، لا بد أن نستحضر السياق العام الراهن؛ وهذا السياق –للأسف- يبرز فيه هجوم على القيم الفطرية الإنسانية التي جعلها الله عز وجل للناس شرعة ومنهاجا، حيث تعيش هذه الأسرة في بحر هائج، وفي محيط مضطرب، ووضع معقد يراد لها أن يمسها المسخ والفسخ والبخس.
هذا المسخ يستهدف، بالأساس، هويتها الدينية وشخصيتها الإيمانية وفطرتها التي فطرها الله عليها، والفسخ يروم تفكيك بنيتها الاجتماعية وأهميتها في المجتمع من خلال دعم مؤسسات الإفساد، والتبخيس والتقليل من قيمتها التربوية، ووظيفتها الإصلاحية، وكلها تحديات ومخاطر داخلية وخارجية سنتناولها في ثنايا هذه المقالة.
ولمقاربة هذا الموضوع، الذي لا يحق لنا ولا ندعي ذلك أننا سنحيط به من كل جوانبه، سنقوم بتسليط الضوء على أهم المعالم، من باب “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”، بل وحتى قليله، خصوصا في زماننا الحالي.
وإن من أهم ما ينبغي البدء به، هو التعريف ومواصفات الأسرة التي نريد، وبعد ذلك سنحاول رصد أهم التحديات الداخلية والخراجية، لنخلص إلى تقديم بعض التوجيهات التي نراها تسهم بشكل كبير في تحصين الأسرة وضمان استمراريتها لأداء المهام المنوطة بها.
أولا: مفهوم الأسرة المسلمة: القدوة التي نريد
معلوم أن للأسرة في الإسلام هوية ربانية، وشخصية إيمانية تتصل بقيمه، وتمتح من معينه، وتسترشد بأحكامه، وقد جعل الله منطلق تأسيس هذه النواة المجتمعية: “رابطة الزوجية” التي جعلها إرادة ناجزة، وسنة ثابتة، وطريقا واضحا لتكثير النوع الإنساني، قال تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [سورة النجم، الآية 45]، وقال سبحانه: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [سورة القيامة، الآية 39] وقال أيضا: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [سورة الأعراف، الآية189].
فلا حياة لهذه الأسرة إلا في كنف محضنها الشرعي، ومرتكزها القيمي الذي يراد أن تُفصل عنه، ويُفك ارتباطها به، وتُنتزع منها هذه الهوية حتى يسهل الانقضاض عليها، ومسخ هذه الروح السارية؛ روح الإسلام وقيمه. لذلك نشهد في العقود الأخيرة محاولات دائبة للترويج لأفكار مقطوعة عن هذا السياق الرباني الخالد، بل هي مصادمة له، ومنفرة منه، ومنها الأصوات التي ارتفعت منادية بتشريع ما سمي بـ“الزواج المدني” وهو مقابل “الزواج الديني”، والمطالبة بإدراجه ضمن مدونات الأسرة، وقوانين الأحوال الشخصية، وتشريعاتها المعمول بها في الدول الإسلامية.
وهذا اتجاه لا تخفى مطامحه وأهدافه؛ فهو يريد من خلال ذلك ضرب الأساس، أي عزل الأسرة منذ البداية عن الرباط الديني، وقطع هذا الترابط، وجعل ذلك مقدمة لفصله عن الأحكام الشرعية المتصلة به من إرث، وحضانة، ونسب، وطلاق، وموانع شرعية للزواج… فيصبح الطريق ممهدا لخلخلة هذه المنظومة القيمية المتصلة أجزاؤها ببعض، ونقض هذا البنيان الرباني الذي جعله الله رباطا مقدسا وميثاقا غليظا.
ولا ننسى أن هناك مساع حثيثة لإعادة صياغة تعريف “للأسرة” بما يفتح الباب للزواج المثلي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الأخلاقي، والخروج عن الفطرة السوية عبر زواج رجل برجل، أو امرأة بامرأة، أو رجل بأخته، أو أب بابنته ومحارمه، وزواج امرأة بعدة أزواج دفعة واحدة، (كما وقع مؤخرا في جنوب إفريقيا)، بل الأكثر انحطاطا وانحدارا وسفولا زواج إنسان مهما كان جنسه بحيوان، وهنا نستحضر النقاشات التي رافقت إقرار وثيقة بكين سنة 1995، وما رافقها من محاولات مضنية لتغيير طبيعة الأسرة الإيمانية، ورسالتها الأخلاقية، وبنيتها التكوينية القائمة على وجود رجل وامرأة في رباط مقدس، وعقد شرعي، ومحاولة نزع الصبغة الشرعية عن الزواج، وفصله عن منظومته القيمية.
ولذلك لا بد من أن نعود إلى التذكير بمفهوم الأسرة المسلمة، التي تعتبر النواة الصلبة للمجتمع، والحصن الحصين الذي يضمن تماسكه واستقرار نسيجه الاجتماعي والثقافي واستمرارية وجوده، إذ؛ إن ضياع الأسرة مؤذن بخراب المجتمع.
والأسرة التي نعني هي تلك التي تعارفت عليها الطباع الإنسانية السليمة، وأقرتها الأديان السماوية، وفي هذا السياق جاء في “الميثاق الإسلامي العالمي للأسرة” (06 أبريل 2016) أن: “الأسرة وحدة اجتماعية تقوم على ذكر وأنثى يربط بينهما بالتراضي ميثاق زواج شرعي قائم على العدل والإحسان والتعاون والتشاور والمودة والرحمة”. وهذا التعريف لا يختلف في جوهره ما جاء على لسان أهل الحكمة والعقل عبر التاريخ.
ولقد اعتنى الإسلام ببناء الأسرة من خلال منظومة عقدية وقيمية متناسقة وشاملة، يقوم أساسها على تحقيق مبادئ عظيمة، من أهمها: العدل والمودة والرحمة، كما قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الروم، الآية 30].
ويعتبر الإسلام نظام الأسرة المحضن الوحيد الذي يمكن أن تتم فيه التنشئة الاجتماعية السليمة، وتنمو فيه العلاقات الاجتماعية السوية، لهذا فإنَّ التعاليم التي وضعت في هذا المجال هيأت كل الفرص لتحقيق مجموع من الفوائد، على المستويات الإنسانية والاجتماعية والتربوية والصحية والاقتصادية… بحكم أن الأسرة هي سر وجود واستمرارية المجتمع.
والأسرة القدوة المنشودة هي الأسرة التي بنى عراها وشيد صرحها وأقام ركائزها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي أسرة “أسرة محمد وأهله” صلوات ربي وسلامه عليه، ورضي الله عن أهله وصحبه أجمعين.
تلك الأسرة التي بنيت على أسس التوحيد والتقرب إلى الله بالمودة والرحمة والتساكن، وكل القيم النبيلة والمعاني السامية، التي تحقق الأمن والطمأنينة، كيف لا، وقائدها هو من قال فيه رب العزة: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم، الآية 4]، والشواهد من القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية الشريفة، أكثر من أن تحصر في هذه العجالة.
ولقد انتظمت الأسرة على عهد الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، على أسس وقواعد ومقومات، اقتداء بنبي الهدى وأهله، نذكر منها: المودة والرحمة والخدمة والعدل واللطف والحلم وخفض الجناح والتوازن في الحقوق والواجبات، والتراضي والتشاور…
لذلك جعل النبي الكريم، صلوات ربي وسلامه عليه، الأمن سببا من أسباب السعادة، ومقوما من مقومات الاستقرار حين قال: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا” [سنن الترمذي، رقم 2346، الأدب المفرد للبخاري رقم 300]، ولأهمية الأمن ابتدأ به صلى الله عليه وسلم باعتبار أسبقيته وضرورته، ولكونه أصلا ينبني عليه غيره، ويحصل به ما دونه.
و”أمن السرب” إشارة إلى أن حصول “الأمن الفردي” متوقف على حصول “الأمن المجتمعي” والعكس صحيح، سواء في المجتمع الصغير -وهو أسرة الفرد ومحضنه الأول- أو في المجتمع الكبير الذي يشكل الامتداد الطبيعي للفرد في علاقاته ومصالحه وارتباطاته، فأمن الأسرة (السرب الصغير) مقدمة لحصول أمن المجتمع والأمة (السرب الكبير)، لذلك قَيَّد النبي صلى الله عليه وسلم المقوم الأول من مقومات الاستقرار: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا” بقيد إضافي “آمِنًا فِي سِرْبِهِ” تأكيدا على المعنى المشار إليه آنفا.
ولعل مما يلفت نظر المتأمل في هذا الحديث العظيم تقريره لمعادلة حاسمة تشكل نظرية متكاملة في “الأمن الشامل”قوامها:
الأمن الأسري والمجتمعي + الأمن الصحي + الأمن الغذائي= استقرار الإنسان وسعادته.
وإذا عدنا إلى النصوص المرجعية، ذات العلاقة بالأمن الأسري، خصوصا، نجد أن أهم مقاصد الأسرة تتجلى في:
1 – الإحصان والإعفاف للزوجين وصيانة الأعراض.
2 – حفظ النسل ورعايته صحيا واجتماعيا ونفسيا.
3 – بقاء النوع الإنساني.
4 – السكينة والاستقرار النفسي والمودة والرحمة.
5 – بناء المجتمع الإنساني الآمن المستقر.
6 – تلبية الحاجة إلى الانتماء الأسري.
وكل أسرة غابت عنها هذه المقاصد أو بعدها، فقدت الأمن والأمان، وعاشت التنافر والضنك النفسي والعلائقي.
والمتأمل في واقع الأسرة المسلمة اليوم يجد أنها بدأت تفقد بعض تأثيرها ودورها الريادي في التنشئة السليمة القمينة ببناء الشخصية الإسلامية المنتجة الفاعلة؛ وذلك بسبب الضعف الملحوظ في البناء الإيماني والتصوري والتربوي لبعض الأسر، وبسبب ضعف الثقافة الأسرية؛ لهذا وغيره من الأسباب ظهرت في المجتمع مشكلات كثيرة ومتشعبة، وزاد من حدتها وتنوعها الانفتاح الثقافي، وطغيان العولمة الإعلامية والاجتماعية، وأصبحت الأسرة المسلمة تتعرض لتغيرات سريعة من خلال غزو ثقافي ومفاهيمي في كثير من مكوناتها، كما تتعرض لتحديات خطيرة تهدد هويتها وتماسكها كيانها واستقرارها.
ثانيا: التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة وسبل التحصين.
وهناك نوعان من التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة.
أ. تحديات داخلية.
• ضعف القدوة أو انعدامها واستبدالها بقدوات مزيفة وبئيسة؛
• الخلافات الزوجية، والتي منشؤها أساسا تشوه في الفهم السليم لمفهوم المودة والرحمة والسكن والقوامة وغيرها من القيم الموجهة للحياة الزوجية والأسرية؛
• تعدد المتدخلين واختلافهم الذي قد يصل إلى حد التناقض، فالأم مثلا تفتخر بزوج ابنتها الذي يدللها ويلبي طلباتها ويحاول أن يحقق لها السعادة، وقد يضيق صدرها إذا كان تصرف ابنها مع زوجته؛
• تغير المهام والأدوار التي قد تصل إلى حد المسخ؛ بحيث نجد أن الزوجة تقوم بمهام الزوج، وهو يتحول بحكم الضغط المعيشي والضرورة المزعومة إلى القيام ببعض أدوارها التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها؛
• الخلل في ترتيب المطالب والأولويات؛ بحيث تتحول الكماليات والتحسينيات إلى ضروريات، وبما أن الدخل قد لا يكفي تبدأ عملية التداين والاقتراض غير الضروري، ونحن نعلم جيدا أن الدين أرق وعذاب نفسي بالليل ومذلة بالنهار.
ب. تحديات خارجية.
• الإعلام الموجه؛ وخاصة محتويات مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت توجه الحياة بشكل عام والحياة الأسرية بشكل خاص نحو النمط الاستهلاكي والاستلاب الفكري والحضاري.
• التغيرات المجتمعية، بحكم مستجدات الحياة في سياق التطور التكنولوجي والتقارب الكوني، والتدافع الثقافي الذي قد يصل إلى مرحلة الذوبان عند البعض، وخاصة على مستوى الانتقال من سكن العائلة الممتدة، إلى سكن الأسرة النووية (الزوج والزوجة والأبناء ما داموا صغارا)؛
• المتحكمات الثقافية والحضارية المخالفة؛ ودورها في عملية التفكيك والمسخ الذي طال العلاقات الأسرية وأقرت نماذج غريبة عن أصولنا الثقافية وجذورنا الحضارية، وهذا ما يمكن أن نصلح عليه بالتنميط الثقافي والحضاري، وما نلمسه في حياتنا اليومية (اللباس، والأكل، والقراءة…)، وكذا في المناسبات الدينية والاجتماعية التي اندثرت فيها مجموعة من القيم النبيلة…
وفي كلا مسارَيْ هذه التحديات تتفرع تحديات أخرى اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية كثيرة، ولن نستطيع في هذه المقالة بسط ومناقشة كل المشكلات والتحديات التي تواجه الأسرة المسلمة اليوم، لكن حسبنا أن نثير الاهتمام بهذه القضية الحيوية، ونقدم بعض الرؤى والمقترحات العملية التي نراها قمينة بالنهوض بالأسرة المسلمة وإعادتها إلى طبيعتها وفطرتها وتحصينها:
• لا بد من الإقرار بأن دور الأسرة التربوي والاجتماعي قد انحسر في كثير من المجتمعات، وليس فقط عند المجتمعات المسلمة، في الوقت الذي توسع فيه تأثير الفضائيات والأنترنت ونحوها من وسائل الإعلام والاتصال، وأصبحت كثير من الأسر تتخلى، إن لم تكن قد تخلت، عن مسؤوليتها التربوية، المنوطة بها شرعاً وعقلاً، وأخذت تعتني ببعض الشكليات المادية والاستهلاكية؛ بحيث تحولت البيوت إلى فضاءات للأكل والشرب والنوم بدل أن تكون محاضن للتربية بمختلف تجلياتها.
وإن إعادة التوازن التربوي، وترسيخ دور الأسرة الاجتماعي والتربوي من أولى الأولويات التي تسهم في تماسك المجتمع ورقيه؛ وهذه المهمة التربوية ينبغي أن تأتلف عليها كافة مؤسسات المجتمع، وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية/التربوية والاجتماعية والإعلامية، كما أن المسجد والفضاءات الدعوية والتربوية المتعددة هي المحضن العظيم الذي يبني الإطار العلمي، ويرسم السبيل القويم لتربية المجتمع وتوجهه نحو العمل الجاد والبناء الصالح، دون إغفال دور كل مؤسسات التربية والتنشئة وعلى رأسها المدرسة والإعلام وجماعات الأقران.
• لا بد أن نعترف بوجود مشكلات مزمنة في المجتمع، نلمس آثارها في ارتفاع نسب الطلاق والاعتداء على الزوجات، وعضل النساء، والعنف ضد الأطفال، وجنوح الأحداث، وانتشار الخمور والمخدرات… وغير ذلك، وإن إدراكنا لهذه المشكلات يجب ألا ينسينا الخير الكثير الذي ينتشر في المجتمع؛ ومهمةُ أهل العلم والتربية والتعليم، قراءةُ هذا الواقع بمنهج علمي رصين، مع التحلي بالموضوعية والإنصاف دون تهويل أو تهوين، ثم الإسهام والانخراط في بناء الخطط القمينة بحفظ كيان المجتمع والدفع به قدماً نحو التنمية والتقدم والبناء والانطلاق نحو مستقبل أفضل.
• اجترار الشكوى والاستمرار في جلد الذات والإكثار من التوصيف لن يغير من الواقع شيئاً، الذي رفع من نسبة التشاؤم والنظرة السوداوية لدى الأفراد والأسر، كما أن التغاضي عن المشكلات سيجعلها تتجذر وتنمو في المجتمع؛ لذا ينبغي السعي لبلورة الخطط والإسهام في تقوية المؤسسات الاجتماعية المتخصصة التي تتصدى لمشكلات الأسرة بوعي وعلم، كما ينبغي أن تتكاتف الجهود الرسمية والشعبية لتحقيق ذلك، ولعل الفرصة سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى من خلال الأدوار الإصلاحية الطلائعية التي أنيطت بجمعيات وهيئات المجتمع المدني بموجب الدستور الجديد.
• نحن -المسلمين- أَوْلى من غيرنا في عنصر المبادرة لاستنقاذ الأسرة وحماية كيانها الاجتماعي، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن نتهاون في ذلك، أفرادا وجمعيات وجماعات ومؤسسات؛ حتى لا نقدم للمنظمات الدولية ذريعة للتدخل في شؤوننا الخاصة، ونَقْضِ سيادتنا السياسية والاجتماعية؛ والكون لا يؤمن بالفراغ.
• من المهم أن نستفيد من خبرات الآخرين في المنظمات الدولية خاصة، لكن مع استحضار خصوصيتنا العقدية والثقافية؛ في إطار الاعتزاز بالذات والانفتاح على مكتسبات الحضارة الإنسانية، من باب “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها”، فديننا الحنيف يأمرنا بالعدل والرحمة، وينهانا عن الظلم والاعتداء، لكن مصطلحات (المساواة والحرية الفردية والعنف الأسري) وغيرها تأخذ أبعاداً مختلفة تماما عند بعض المنظمات الأممية، وفي مواثيقها الدولية، ومن المفيد جداً أن نعي أبعاد الواقع الدولي حتى نتعامل معه ببصيرة وحسن فهم، فهو كما أنه ليس خير كله فهو ليس شر كله.
وها هنا يأتي دور الدعاةِ والمصلحين وأهلِ الرأي في حفظ هوية المجتمع، ورعاية ثقافته وجذوره العقدية والاجتماعية. ولن يتحقق ذلك إلا بمزيد من الحيوية والتفاعل مع قضايا المجتمع، وتجديد آلياتنا الدعوية والتربوية، لتكون أكثر نضجاً وعمقاً.
3 أسئلة للدكتور محمد ابراهمي مسؤول قسم الدعوة والعمل الثقافي لحركة التوحيد والإصلاح
1: أطلقت الحركة حملة دعوية وطنية تحت شعار “أسرة متماسكة لمجتمع متماسك” ما الدلالة التي يحملها هذا الشعار؟
بسم الله الرحمان الرحيم، بعد الشكر والدعاء لأهلنا وأسرنا في غزة بالصبر والثبات والفرج والنصر القريب بإذن الله، أود الإشارة إلى أن الشعار دال على أهمية الأسرة ومكانتها في البناء المجتمعي، وفي تماسكه واستقراره، فالكل يدرك مركزية الأسرة وموقعها الأساس في بنية المجتمع ومؤسساته، إذ لا يمكن تصور مجتمعا متماسكا ومستقرا بدون أسرة مستقرة ومتماسكة، يؤكد هذه الحقيقة معطيات نصية وتاريخية وواقعية كثيرة، فهي الضامن لتماسك المجتمع واستمراره واستقراره، لما تحققه من وظائف مشتركة مع غيرها كالتنشئة والتربية والتأهيل، وخاصة بها كمد المجتمعات بالنسل، وهو أحد غاياتها كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس ابن مالك “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة“(1) ومعلوم ما للتكاثر من وظائف اجتماعية وحضارية واقتصادية لا يجادل فيها عاقل، ولا أدل على ذلك ما تعانيه العديد من الدول الغربية التي تعرف شيخوخة مجتمعية تهددها بالانقراض في المستقبل بسبب العزوف عن الزواج أو الولادة، فضلا عن ظاهرة المسخ الأخلاقي والثقافي التي طلت علينا من خلال التشريع للشذوذ وتقنينه في هذه المجتمعات.
كما تسهم الأسرة في نقل منظومة القيم المجتمعية للأجيال، وحفظ الذاكرة الحضارية والتاريخية، وتحصين هوية المجتمع ومرجعيته، قال صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه“(2).
وتسهم كذلك في استقرار المجتمع وتماسكه في حال الأزمات والتوترات لما تقوم به من وظائف إلى جانب مؤسسات المجتمع، بل ولقدرتها على القيام بوظائف باقي مؤسسات المجتمع، وهو ما تؤكده مرحلة الحجر الصحي الذي عرفته البشرية مع جائحة كرونا، حيث استطاعت الأسر أن تقوم بوظائف تعليمية وتربوية واجتماعية وأمنية وصحية في وقت توقفت فيه الكثير من مؤسسات المجتمع، فتصدرت الأسر الواجهة إلى جانب مؤسسة الدولة لحماية استقرار المجتمع وسلامة بنياته ومؤسساته واستمرار وظائفه الحيوية.
2: ما دوافع إطلاق هذه الحملة في هذا الوقت؟
تأتي هذه الحملة لتحقيق عدد من الأهداف أهمها، تعزيز مكانة الأسرة ودورها في الحفاظ على التماسك المجتمعي، وترسيخ ذلك في الوعي الفردي والجمعي للمغاربة، والعمل علىمدافعة القيم الهدامة لتماسك الأسرة ولأدوارها في التنشئة الاجتماعية، والعمل على التحسيس والتأكيد على سمو المرجعية الاسلامية في معالجة قضايا الأسرة، لأنها الضامن لتماسكها، ومنه تماسك المجتمع، فلكل مجتمع ومؤسسات ثوابت تتأسس عليها، والحفاظ عليها ومراعاتها حفاظ على بنية المؤسسات ووظائفها وتماسكها.
3: هل من برامج ومشاريع أخرى تشتغل عليها الحركة مواكبة منها لموضوع الأسرة؟
الحركة تشتغل على موضوع الأسرة منذ سنوات عدة، وجعلت منها قضية مندمجة وأساسية في برامجها، وهو ما أكدت عليه في مذكرتها حول مراجعة مدونة الأسرة، التي ورد فيها أن مؤسسة الأسرة تحظى ” بأهمية بالغة عند حركة التوحيد والإصلاحومن تجليات ذلك أن ميثاقها جعل إقامة الدين على مستوى الفرد والأسرة في صدارة المقاصد المتفرعة عن المقصد الأساسي للحركة المتمثل في الإسهام في إقامة الدين، ونص على أن الحركة تعتبر: “الأسرة مؤسّسة لها حرمتها ومكانتها السامية المنبثقة من الميثاق الغليظ الذي يجمع بين الرجل والمرأة، والذي يجب أن تُصان حقوقه وشروطه، وتقام أحكامه، وما يترتب عن ذلك من تكاثر وقرابات وارتباطات اجتماعية واجبة الرعاية والتعظيم”(3).
كما تعتبر حركة التوحيد والإصلاح حماية الأسرة من القضايا الإنسانية العادلة التي تستوجب التعاون والمناصرة؛ وهو ما تسعى إليه الحركة باستمرار من خلال التفاعل بما يتاح لها من وسائل وإمكانات، وأيضا من خلال شراكاتها مع هيئات المجتمع المدني والمنظمات المختصة في المجال بشكل عام.
وتأسيسا على ما سبق كانت الأسرة، وما زالت، دائمة الحضور في البرامج الدعوية والتربوية للحركة، فنظمت العديد من الحملات والأنشطة والمبادرات الهادفة إلى العناية بالأسرة، ومعالجة قضاياها للحفاظ على استقرارها ودعم أدوارها، وتُوِّج ذلك بإرساء مشروعها وبرنامجها الوطني المندمج: (الأسرة: مودة ورحمة، رسالة ومسؤولية) الذي ينظم جهود الحركة ويعززها، ويرفع من فعاليتها في مجال الأسرة؛ بالإضافة إلى إسهام الحركة في إحداث هيئات متخصصة وأنسجة جمعوية تهتم بقضايا المرأة والأسرة والطفل، وانخراطها في عدد من المبادرات المعنية بهذه المجالات”.
فالنص الوارد في المذكرة جامع لأهم الأعمال والمبادرات التي تقوم بها الحركة في هذا المجال، وما الترافع الذي تقوم به مؤخرا في مسألة مراجعة المدونة إلا تجليا من تجليات اهتمامها وانشغالها بالموضوع، وإلا فللحركة أنشطة مستمرة ومتنوعة الأشكال والمداخل والطبيعة للنهوض بمؤسسة الأسرة، والإسهام في تماسكها واستقرارها وأداء وظائفها، ولعل الحملة واحدة من الأعمال التي تقوم بها الحركة في هذه الموضوع، وقد تفاعلت جهات وأقاليم الحركة مشكورة معها بمبادرات متعددة ومتنوعة لتنزيل وتحقيق أهدافها، حيث نظمت العديد من الندوات والحملات والمحاضرات والخرجات والحفلات والتكوينات.. التي تصب في نفس الأهداف، وتسعي لتحقيق نفس المقاصد.
والله تعالى نسأل التوفيق والإخلاص والسداد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح ابن حبان، ج:9/ ص:338.
(2) المصدر نفسه، باب الفطرة، ج:1/ ص:336.
(3) ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، ص:65.
حوار مع الأستاذة خديجة مفيد رئيسة مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون
حاورها: عبد الباقي القرسي
س 1: بداية نشكر لك قبول الدعوة؛ ونود في مستهل هذا الحوار توصيفا للمكانة التي تحظى بها مؤسسة الأسرة في التشريع الإسلامي؛
ج: السلام عليكم، أولا نشكركم على هذا الحوار الذي يجعل الأسرة في قلب اهتمامات العمل الصحفي والإعلامي، خاصة في هذه الفترة المهمة التي تمر منها الأسرة إن على مستوى البنية الاجتماعية أو على مستوى التشريعات أوالتحديات القيمية التي تواجهها،
إذا أردنا أن نتكلم عن المكانة التي تحظى بها الأسرة في الإسلام، فلابد أن نربطها بما يحظى به الإنسان من مكانة في التشريع الإسلامي؛ فالإنسان هو موضوع للتكريم والإسعاد، فكل التشريعات التي جاء بها القرآن الكريم وفصلتها السيرة والسنة النبوية، كلها تصب في هذا الاتجاه. فكيف يتم تحقيق كرامة الإنسان والمحافظة عليها؟ وكيف يتم اكتساب كل المهارات والمناهج والأساليب التي تسعد الإنسان، سعادة في الدارين في الدنيا والأخرة، وهذه السعادة يعني يضمنها مفهوم الاستقامة وطريقها.
إذا فالأسرة تحظى بالاهتمام من لدن الإنسان، وهي محضن التنشئة بالنسبة إليه، كما أنها فضاء لتحريره من احتياجاته المادية والبشرية كالجنس والأنس، وكذلك بصفة الإنسان كائنا اجتماعيا، فهو يحتاج إلى بناء اجتماعي يحقق فيه ذاته ويحررها كذلك من احتياجاتها، ويتعلم فيها تحمل المسؤوليات واكتساب الحقوق، وداخلها يقرر ويبلور ويعزز كل مقومات الدفاع والرعاية والحماية والأمن والاجتماعي والنفسي والصحي…
انطلاقا من هذا المدخل، تحظى الأسرة بمكانة متميزة في الإسلام، بحيث جعل لها أحكاما أساسية، تنطلق من علاقة بين رجل وامرأة على أسس شرعية في إطار زواجي تؤطره الآية الكريمة: “ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما“، وقوله جلا وعلا “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة“؛ فهاتين الآيتين تبينان غائية الزواج ومقصديته في تحقيق الأمن النفسي والاجتماعي، والمقصد المجتمعي في بناء القيادات وتحقيق الاستقرار والشهادة على الناس.
كذلك تحتل الأسرة مقاما عاليا وقدسية كبيرة، حيث أدان الله سبحانه وتعالى كل ما يمس بها وبأمنها وبسلمها وسلامتها، بأن وصف الطلاق الذي فراق بين الزوجين بكونه فعل رغم أن حلال فهو يهتز له عرش الرحمان، وتوعد من يعتدي على الأسرة بزعزعة أمنها واستقرارها بالعذاب الأليم، كما ورد في الآية التي تتوعد السحرة الذين يفرقون بين المرء وزوجه، وجعل الزنا من الموبقات التي تهدد استقرار الأسرة، وجعل عقوبتها شديدة، ومصير من يرتكبها قاتم عند الله تعالى.
هكذا، فمنزلة الأسرة في الإسلام رفيعة جدا، حيث لم يتحددمعناها كما هو الشأن في المنظومة الوضعية، بل تعرف الأسرة بالألفة، التي يدخل ضمنها كل من يقيم في نفس المبنى وفي نفس السكن،فهو يعتبر من الأسرة، وليس هناك أي تحديد للروابط، بينما نص القرآن والإسلام على أن البنية الأسرية تقوم على علاقة مغلقة وثابتة هي أنثى – ذكر، ويحدد معناها بوظائفها وعناصرها، وتتوزها ثلاث حقول تؤطر المفاهيم التي تؤسس للأسرة أو تحوم حولها. وهذه الحقول هي حقل الزوجية، وحقل الوالدية، حقل الرحم والمحيط.
س2: كيف عاشت الأسرة المغربية القديمة في كنف الإسلام وتعاليمه؟
ج: في الحقيقة عاشت الأسرة المغربية في ظل الإسلام، وفي ظل القيم الإنسانية الرفيعة، حيث كانت الحقوق محفوظة، والأدوار فيها إدراك كبير، يتجلى في قيام كل فرد من أفرادها بوظائفه ومهامه المحققة لدوره، فالمرأة كانت مرابطة على دور الحافظية، والرجل كان متمثلا لدور القوامة، ومن خلاله كان يؤدي مهمة الرعاية والحماية والتنشئة، وكانت المرأة تقوم بدور تحقيق الأمن الداخلي وبعث الطمأنينة داخل الأسرة والقيام على الاقتصاد المنزلي وتدبير ماليتها ومدخراتها وتقوية الاقتصاد العائلي بالتدبير الداخلي عبر مختلف شؤون الأسرة على مدار السنة. كما كانت الأسرة، إضافة إلى ذلك، تقوم على ثغر التنشئة على القيم وعلى التدين، حيث سادت الأسرة الممتدة التي تضم إضافة إلى الزوجين الجد والجدة والعمات والأعمام والخدم في جو من التفاعل والقرب، وكانت طبيعة الدور المنازل متأثرة بالرؤية الاسلامية في شكلها وهندستها. فالدارة المغربية كانت مفتوحة على السماء مغلقة على العالم الخارجي، وداخلها كان هناك فضاء عام يجمع كل الأسرة في فضاء مريح في هندسته، له اتصال بالعالم الخارجي فوقيا، له تجليات بيئية، حيث الحديقة تتوسط الفضاء العام، كما كانت هناك سقاية يسمع خرير مياهها للجالسين الذين ينعمون بالاسترخاء وهم يتناولون واجباتهم أو يتسامرون، وكانت البيوت متداخلة لا فرق فيها بين الميسورة منها والفقيرة، حيث ساد القرب الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.
ولم تعرف الأسرة في ظل الإسلام أي ضياع للحقوق،فقد كانت المرأة والزوجة تحظى بالتكريم والعناية وبتوفير جميع وسائل الراحة، وكان الزوج كذلك يقوم بواجباته ويعتبرها جزءا من رجولته ولا يسمح بأن يقوم بها أحد غيره، فإذا ناب عنه فيها أحد يعتبر ذلك مسا برجولته، وكانت الجدة والعمة تقومان بدور التخفيف عن الزوجين من خلال العناية بالأبناء بما يتيح للزوجين وقتا لبعضهما للجلوس أو الخروج، فكان الأطفال دائما ينشؤون في حضن الأسرة وفي كنفها وينعمون في ظل قيمها المشتركة وعلاقاتها الممتدة التي يطبعها التعاون بدل التنافس والفرقة.
كما كانت الأحكام الشرعية تراعى من الجميع في توفير الحقوق والقيام بالواجبات، كما كانت الطقوس والعادات من اللباس وغيرها تخضع للتشريعات والأحكام الاسلامية، سواء في الطقوس الاحتفالية أوفي تدبير شؤون الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن تقسم الأسرة المغربية إلى ثلاث فئات: فئة التجار ، فئةالفلاحين، وفئة العمال، حيث كان هم هذه الفئات مشتركا يتحدد في قيامهم بالواجبات الخارجية مقابل إشراف المرأة على الشؤون الداخلية.
س 3: ما التحولات التي عرفتها الأسرة المغربية المعاصرة في ظل عولمة القيم وطغيان الحياة المادية؟
ج: أدى تطور المجتمع وتداخله خلال الفترة الاستعمارية التي مر منها المغرب إلى بروز قيم جديدة وأجندات مغايرة، مما جعلالتحول يتجه نحو بروز مفاهيم جديدة تتأسس على الحداثة والمشاركة في الحياة العامة واقتسام المسؤوليات، الأمر الذي أدى إلى إلتباس أدوار الرجال والنساء واختلاط مهامهم ووظائفهم، ولكن للأسف أصبح الثقل مضاعفا على المرأة وتسبب لها في اختلال دورها الأول الذي يروم تحقيق وظيفة الأمن والعناية بالتربية والتوازن النفسي والاجتماعي للأسرة لصالح الرفاه المادي ونمط الاستهلاك الذي صار طاغيا على توجه الأسرة وحياتها.
س 4: كيف نفسر هذا الاهتمام المتزايد بقضايا الأسرة المغربية وتشريعاتها في الآونة الأخيرة.
ج: لقد عرفت الأسرة كما المجتمع عدة تحولات في ظل التطور وتغيير نمط الحياة الذي طبع أولا بالانفتاح على العالم وإلغاء جميع الحدود مع الانفجار المعلوماتي والتحول الرقمي الذي طال الحياة الخاصة والعامة للإنسان عموما والإنسان المغربي خصوصا، وأثر على حياة الأسرة المغربية سواء في توجهاتها أو في قيمها وعلاقاتها.
وقد انخرط المغرب بحكم قربه الجغرافي أولا من الغرب وانتمائه للمجال المتوسطي ثانيا، انخرط في العولمة بشكل كلي -غير مفلتر- إذا صح هذا التعبير، بحيث أسس لهذا التوجه الجديدالقائمون على الشأن العام والمثقفون الذين تشبعوا بفكر وقيم الحداثة في نظام التعليم والإعلام وكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتداخلة، وتشبعوا بالثقافة الغربية، حيث صارت تسيطر على نمط تفكيرهم وأسلوب حياتهم، خاصة أنها محمولة على اللغة والثقافةوالفرنسيتين -للأسف الشديد- ضدا على ما ورد في الوثيقة الدستورية وعلى الطبيعة الحضارية للهوية والثقافة المغربيتين، حتى وجدنا أنفسنا نعيش نوعا من السلخ عن جذورنا وأصالتنا، وأدركنا أنفسنا قسرا وقهرا داخل منظومة حداثية، حتى أضحى كل ما يرتبط بقيمنا وبحضارتنا يتخذ طابعا فلكلوريا مؤثثا للفضاء مثيرا الإعجاب وتأخذ معه الصور، ولكن لم تعد له تلك القوة في تأطير حياة الأفراد، لأنه اندمج في نسق عولمة المعارف والقيم وعولمة التوجهات والاختيارات، وطغى النمط الاستهلاكي على الحياة الاجتماعية ودفع بالإنسان إلى اللهث وراء الكسب والرفاه المادي، وتحولت الأسرة من بنية تعاونية إلى بينة متجزأة قائمة على التفكير الفرداني والتمركز على الأسرة الأحادية -الكوبل- بمفهومه الحديث، والارتماء في أحضان المؤسسات الربوية والأبناك من أجل التمكن من الاستهلاك بشكل يستجب للأنماط المسوق لها إعلانيا وإعلاميا، كل هذا أدى إلى استعباد الإنسان واستعباد الأسرة وتوجيهها بشكل غير مدرك وغير متحكم فيه إلى أصبحت منخرطة في التقليد وهي تعتقد أنها تسير نحو التطور والتقدم، وهذا ما يعيق نهضة الشعوب والأمم ويؤدي إلى الشتات والتيه الاجتماعي والثقافي، لأن المشترك القيمي والوطني أصبح ضائعا وسط هذا الانجراف، وطبع المجتمع المغربي بتعدد الهويات على المستوى التربوي والاقتصادي والاجتماعي، وأصبح حقيقة غير قابل للتحليل، وحتى الطقوس الدينية والاجتماعية المرتبطة بالقيم الاسلامية -مثال الاحتفاء بعيد الأضحى- أصبحت في خدمة المؤسسات الرأسمالية وصارت نوعا من الطقس الذي ضاعت منه القيم وسيطرت فيه المؤسسات الربوية التي تمكنت من توجيه هذا المسار وإنهاك الانسان وإدخاله في دوامة لا يستطع معها فهم مقاصد التشريعات والقيم الاسلامية على وجهها الصحيح.
س 5: ما أبرز التهديدات والتحديات التي تواجه الأسرة المغربية اليوم؟
ج: هناك عدة تحديات تواجه الأسرة إن على المستوى البنيوي أو على مستوى التشريعات والأحكام، أو على مستوى القيم، فعلى مستوى البنيات انتقلت الأسرة من الأسرة المتعاونة إلى الأسرة الفردانية الأحادية، وهذا أدى بالأزواج إلى تقليص مسار الإعمار والولادة ومعدل الولادات حيث تناقص من 8% إلى 2%، في مدة زمنية قصيرة بالمقارنة مع دول الجوار الغربية مثل فرنسا، التي تحقق لديها في قرن ما تتحقق لدينا نحن في ربع قرن، وأثر ذلك على البنية الجيو سكانية بالمغرب، حيث انقلب الهرم السكاني بأن صارت قاعدته ضيقة وقمته عريضة.
أما على مستوى انخراط المرأة في التعلم وتقلدها أعلى المناصب، فقد أدى إلى خلق هوة بين الرجال والنساء في مسألة الزواج، حيث صار الذكور يقبلون على الزواج ممن تصغرهم سنا، وبالتالي انتشرت ظاهرة العنوسة وارتفع سن الزواج في صفوف الفتيات،وصار متوسط سن الزواج عندهن ما بين 28 و30 سنة، و40 سنة عند الذكور، وهو ما أدى إلى تراجع مؤسسة الزواج بنسبة كبيرة لأسباب التي ذكرنا، ولأسباب أخرى ترتبط بالتعلم والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع الأسعار وسقف التطلعات عن واقع الحياة والامكانيات.
أما بالنسبة للتحديات التشريعية التي تواجه الأسرة المغربية، فهي تحديات كبيرة مرتبطة بانخراط المغرب في العهد الدولي الجديد والتزامه بمجموعة من العهود والمواثيق الدولية، والتي من أبرزها وأخطرها على المسار الإنساني للأسرة وعلى الأسرة الفطرية، هو رفع جميع التحفظات والتوقيع على “اتفاقية سيداو” وعلى البروتوكول الاختياري الذي سيقلب مع مرور الزمن كل المفاهيم، خاصة مع تبني مصطلحات ستغير جذريا كل التوجهات والمفاهيم، حتى صرنا نعيش حربا في المفاهيم والمصطلحات التي تجتث المفاهيم الاسلامية والإنسانية من الفضاء الذي يؤطر الإنسان، سواء الفضاء التربوي التعليمي أو الفضاء الإعلامي أو التشريعي والاقتصادي والمالي، حيث سيؤدي ذلك إلى تحييد الدين من حياة الأسرة خصوصا والاجهاز على الفطرة الإنسانية عموما.
هذا هو المسار العام الذي يسير فيه المغرب في توجهاته وانخراطه الأعمى في المنظومة والمواثيق الدولية، مما سيكون له أثر سيء، ما لم تكن هناك مقاومة شعبية تواجه أو تتكيف مع هذا الواقع بشكل حذر، من خلال الاهتمام بأجيال المستقبل والتركيز على الطفولة للمحافظها على سوائها الفطري والنفسي عبر التنشئة المقاومة لهذه التوجهات الخطيرة التي تواجهها الأسرة.
على مستوى التشريعات، يسجل تسارع كبير في تغيير وبلورة تشريعات جديدة والتمكين لها، مما سيؤدي إلى الانقلاب التام في مفهوم العلاقات وفي مفهوم الزواج وفي مفاهيم المسؤولية، الأدوار، الوظائف… كلها مهددة بالانقلاب التام في ظل بروز مفاهيم مؤطرة ومؤسسة لمسار مغاير، مثل مصطلح “الجندر” و”المساواة” بما يحملها من دلالات خارج عن قيمنا ومصطلح “المناصفة” وغيرها… والتي أصبحت تجعل من الموقع داخل الفضاء العام معيارا محددا لقيمة المرأة ولمكانتها على عكس موقها ودورها في مؤسسة الأسرة.
هناك كذلك التحديات القيمية المؤسسة على الفكر الفرداني والأنانية والاستهلاك، حيث صار الإنسان كائنا استهلاكيا لكل شيء ولأي شيء،ومع الانفجار المعلوماتي صارت الأسرة متجاوزة كمصدر للتمكين للقيم وللتنشئة ولاختيارات أفرادها وأعضائها، مما أثر سلبا على التواصل بين أفرادها وعلى البناء المفهومي للحياة وعلى طبيعة العلاقات.
س 6: ما الدور المنوط بالأفراد للحفاظ على تماسك الأسرة وتماسك المجتمع؟
ج: في ظل هذه التحديات التي تواجه الأسرة اليوم، يتوجب على الإنسان تقليب النظر في هذه الأمور، ووضع استراتيجية حمائية واستشرافية للأسرة المغربية، بحيث يتم التركيز في إطار التكيف الحذر على الطفولة ومحاضنها والقيم التي تتلقاها. وهذا من شأنه أن يجعلنا نتجاوز هذا الهجوم وهذه التحولات السريعة التي يعرفها المجتمع المغربي وتعرفها الأسرة على وجه الخصوص. ذلك أن التركيز على الطفولة في محاضنها في ظل سياسة عمومية مندمجة يحضضر فيها الإطار القانوني الحافظ لهوية الأطفال وخصائصهم التي يركز على أنوثة الفتاة ورجولة الفتى في المناهج والمهارات المكتسبة، وتحضضر فيها القيم الحضارية الممكنة للهوية الثقافية والمستهدفة للإنسان الذي نريده في المستقبل، وكذلك في ظل قانون منظم لسيرورة ذلك في شتى المجالات ذات الصلة بالطفل وتطور شخصيته.
أما على مستوى الحاضرفلا بد من الوعي باستهداف الأسرة والفطرةوقيام الأسرة بمجهود كبير للدفاع عن وجودها وخصوصيتها والتعبير عن رفضها لكل ما يمس الفطرة والإلتئام العائلي.