إسماعيل ولد باردي.. بطل المقاومة الصحراوية (1/2)

هوية بريس – ذ.إدريس كرم
ملخص ؛
يتحدث النص عن الآلية المتبعة في إدارة قبيلة الرقيبات، وعلاقتها بمقاومة الاحتلال الفرنسي في الصحراء المغربية، وظهور شيخ فخذة من القبيلة هو اسماعيل ولد باردي الذي رفض كل تعاون مع الكواون مما أدى به للاعتزال عن القبيلة في وادي الذهب
كلمات مفاتيح:
أدرار، الشركة الصحراوية للساورة، تابلبالة، إدارة الحدود، الكفار، كونفدرالية تكنة، مالي، انوديبو، اولاد ادليم، ماء العينين، موريطانيا، فرع الغراب، الساقية الجمراء، اولاد موسى، الاد لحسن، الرقيبات، محمد ولد خليل، ادويديح الكلونيل موريط، لقواسم، واد الذهب.
النـــص:
في عام 1909 احتل الجيش الفرنسي منطقة أدرار الموريطاتية، وفي عام 1910 أنشأت “الشركة الصحراوية للساورة” مركزا عسكريا في تابلبالا، وفي 1912 وضعت فرنسا حمايتها على مملكة المغرب، وفي 1913 احتلت أكادير، فقاوم السكان الصحراويون المسيحيين المحاصرين لهم، بغية استعمار البلاد أكثر من عشرين سنة، فاحتلت القوات الفرنسية تزنيت سنة 1917 بعد أن كانت القوات الإسبانية قد أنشأت مراكز تجارية لها في طرفاية سنة 1916، وفي سنة 1920 اجتاحت لكويرة، وإلى غاية 1934 تمكنت القوات الإستعمارية بالجزاير، والمغرب، وموريطانيا، من الإلتقاء وإنشاء (إدارة الحدود) مكلفة بمراقبة البلاد.
سكان شمال الصحراء الغربية، رعاة رحل أو شبه رحل، في الأغلب الأعم، منضوين في قبائل أو فخذات من قبايل، ولكل فخذة شيخ معين من قبل مجلس الأعيان الأرفع نسبا.
وفقا للوضع السياسي والإقتصادي يتأرجح شيوخ فخذات القبائل المحاربة الرئيسية، منذ خمسة وعشرين ستة، بين السلم والحرب، بين ما يطلق عليه العسكر الفرنسي (الخضوع) و(الإنشقاق) بيد أن أحدهم قاتل الكفار للآخر، مغامرا بمكانته وثروته في لعبة التوازنات؛ إنه إسماعيل ولد باردي، الذي اعتبر من قبل الإدارة الاستعمارية كشخص “عنيف”، “ماكر” و”عنيد” أنهى أيامه، فقيرا مجهولا في عزلة، مرفوضا من أقرانه الذين عرفوا كيفيية استخدام الهزيمة، لصالح طموحاتهم الشخصية.
ومع ذلك ما يزال تروى مآثره الحربية تحت خيام البدو بفخر واعتزاز، لم يلحقها تغير أو نسيان.
فسيفساء من القبايل
كان إسماعيل ولد باردي شيخا لقبيلة اولاد لحسن، القبيلة المهيمنة على شمال غرب الصحراء في الماضي، بين أدرار الموريطانية والجنوب المغربي، وهي وحدات سياسية مستقلة: القبائل جمع قبيلة، وهي تجَمُّع عائلات تنحدر من سلالة ذكورية مشتركة.
هذه القبايل تقليديا، تحافظ بينها على توازن القوة في التحدي الرئيسي للسيطرة على الموارد الرعوية، كل قبيلة مقاتلة، تهيمن على أرض تختلف حدودها عبر التاريخ، فنجد إذن شمال الساقية الحمراء كنفدرالية تكنة القوية، مقسمة لعدة قبايل، وهو مشترك بين المستقرين وتجار واد نون (أحيانا برْبَرُفون) ونصف رحل وقوافل واد درعة (عرب فون).
في الجنوب، منذ نهاية القرن التاسع عشر 19، سيطر الرقيبات (عرب فون) على منطقة شاسعة تمتد عبر أدرار الموريطانية ومالي، وتشمل منطقة تندوف الساحل وناحية بنوادبو (بورت إيتيان) التي يسيطر عليها اولاد ادليم (عرب فون) الذين دفعوا من قبل الرقيبات بعدد سلسلة من الصراعات المحلية.
كانت قبايل أخرى أقل أهمية، ترتحل في المنطقة، سواء تحت حماية المحاربين، أكانت مجموعة دينية خاصة متميزة، أو مجموعة داعمة ومساعدة، بصفة عامة الأفراد ومجموع الأفراد الذين شاركوا في الصراع ضد الإختراق الكولونيالي جاؤوا من قبائل محاربة، يجب تسجيل حضور المتصوفة حول القايد الروحي بالساقية الحمراء ماء العينين، تأثير هؤلاء المتصوفة أخذ في التناقص، لأن أولاده اهتموا بالمنافسة بينهم على تركيز قوتهم.
ولذلك فالرقيبات الذين قدروا بحوالي 35.000 نسمة حسب وثائق القوات الإستعمارية في موريطانيا ذلك الوقت (الإسبان لم يتواجدوا في الميدان قبل 1934) القوة الصحراوية المقاومة لم تكن الوحيدة، طبعا كانت الأكثر عددا، والأكثر قدرة على هيمنتها على المنطقة، التي صارعت فيها القوات الفرنسية سابقا، عندما كانت تريد احتلال الساحل الموريطاني.
فرع الغراب
نظريا؛ كل فرد يريد مغادرة قبيلة الرقيبات، له الحق في الترحال حيثما يريد، داخل الأرض المشتركة، في الواقع، كل فرقة تميل للبقاء عن طيب خاطر، في ناحية خاصة، وترجع عندما تكون الأحوال المناخية مواتية. أيضا المناطق المحيطة بهذه الأرض، هي الأكثر خطورة نظرا لتردد المقاتلين عليها مع جيرانهم، وأيضا وجودها على تخوم أدرار، فخذات الركيبات المقاتلين الأشداء الموجودين بالساقية الحمراء، مسقط رأس أسلاف القبيلة، وموطن لمجموعة أخرى مسالمة وأشد تدينا، موازاة مع المستوى الرعوي، حيث يختلف تكوين القطعان من المركز إلى الضواحي المحيطة، لأن الأغنام ترتفع بين واد ادْرا (درعة)، وأعالي الساقية، في حين أن الإبل فقط تبتعد أحيانا لنواحي الشمال، ممتدة في السهول الرملية، وكتل الكثبان الرملية المحيطة بها، هذا التخصص الرعوي يبرز، انقسامية المجتمع، فرقتين؛ فرقة مركزية، وفرقة ضاحوية، فرقة تربي الأغنام، قليلة الحركة، وفرقة تربي الجمال واسعة الحركة، فرق دينية وفرق محاربة، وكل الفرق الدينية والحربية جميعها تكون وحدة مترحلة مستقلة، يسود بينها نوع من التسلسل الهرمي المنطلق من الفروع الأصلية للسلالة المشتركة.
السلطة السياسية تعود لجماعات الفرقات حيث يكون كل نسب ممثل فعليا، أحفاد الشيوخ غالبا ما يكونوا شيوخا يلعبون أحيانا تأثير أكبر من الممثلين للعروش الثانوية، يطلق على عرش المسن فرع “عرش الغراب” لأن في أعلى فرع بالشجرة، يحب الغراب أن يعشِّشٌ ويقيم، النسق يتضاعف مع الزمن، فيصبح لدينا “فرع الغراب” من مجموع الرقيبات و”فرع الغراب” لمجموعة الشمال “رقيبات لقواسم: ثلاث فرق ” و”فرع الغراب” مجموعة الجنوب “رقيبات ساحل” سبع فرق.
داخل نفس كل فرقة “فرع للغراب” الذي يحدد النسب الأكبر الذي يختار الشيخ، ونجد بالطبع، خاصية بين كبار الجمالين والمحاربين الذين لا يريدون تكوين وحدة كبيرة مترحلة (لسبب جغرافي) فخذات صغيرة، صارت مستقلة في القرن 19 تقاد من قبل شيخ رمزي معتبر، وهذا هو حال اسماعيل ولد باردي؛ فهو ينتمي إلى “فرع الغراب” لأولاد لحسن، الذين يشكلون طائفة فرعية، أصغر سنا، داخل المجموعات المقاتلة، المترحِّلة في أطراف الأودية حول أدرار، في الفترة الإستعمارية.
في الواقع، فصائل الرقيبات التي اعتادت على الترحال هي تلك التي كانت دائما في المقدمة، والتي غزت الجيوب والمراعي البعيدة عن مركز المنشإ.
عندما احتلت القوات الإستعمارية منطقة أدرار، كانت تلك الفخذات أشد مقاومة لها، لأن أراضيها الرعوية المعتادة صارت بالقرب من المعسكرات الفرنسية الوافدة على المنطقة، البديل المقدم لشيوخ الفخذات وجمع الأعيان، هو التالي: حليف للسلطة الجديدة، أو معارضيها.
مع أو ضد المقاومة
هناك أسباب مختلفة تدفع المشايخ إلى تبني أحد الخيارين، لصالح السلام، هناك عدة حجج تطرح نفسها؛ أدرار لا تدخل ضمن أرض الرقيبات، والفرنسيون لا يرغبون في الذهاب لأبعد من ذلك، فهم ليسوا مربي مواشي، ولا يتغذون على حليب النياق، ولا يعيشون تحت الخيام، في أدرار توجد قرى ونخيل حيث يمكن الإقامة، شمال هذه السلسلة الحياة المستقرة مستحيلة.
يجب على تجمع الجمَّالة “سائقو الجمال” من أجل العيش؛ القيام بالمزاوجة في التحرك على نطاق واسع.
منذ حضور القواة الإستعمارية لجنوب البلاد، عرقلت كل محاولة للتوسع نحو الشمال، بعض مجموعات الجمَّالة الذين يرغبون في تحدي الرقيبات في أراضي مراعيهم الجنوبية، بمعنى ما، احتلال أدرار يصب في صالح هؤلاء الأخيرين، لأنه يحيِّد جميع المجموعات المقاتلة في موريطانيا، وأخيرا تحافظ الرقيبات كالعادة على علاقات التبادل والصداقة مع أدرار؛ حيث يقوم كبار البدو بتخزين الثمور هناك، ويقايضون مواشيهم، ويلجأون إلى المراعي المحيطة عندما يشتد الجفاف في الشمال، وإذا تغيرت السلطة السياسية، فإن الضرورات الإقتصادية تبقى قائمة.
إن رفض التحالف يعني بالضرورة التراجع نحو المناطق الشمالية، والتخلي عن كل المزايا الإقتصادية المكتسبة خطوة بخطوة، خلال مسار طويل للغزو، وانعدام حجج القيام به، برز مقابله دعوة الجهاد (الحرب المقدسة) التي تضمن للمومن الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن ناحية أخرى يدرك الرحل المحاصرون في صحراء الشمال الغربية أنهم المستهدفون، ويخشى البعض من أن المسيحيين لن يتوقفوا عند أطراف الصحراء، بل سيحاولون على العكس من ذلك فرض سيطرتهم على كامل المنطقة، إلا أن هذا الخطر يبدوا وشيكا، ويعتقد البدو أنهم في مأمن، ومع ذلك، يدفعهم للنضال الشعور بالإنتماء للمجتمع العربي والإسلامي، وواجب التضامن الذي يولده هذا الشعور.
مرونة النظام القبلي، والإستقلال النسبي للفصائل الدائمة، يسمح باتخاذ مواقف مختلفة؛ هناك من يريد الارتباط لصنع السلام، وهناك من يريد القتال بالانضمام لمناطق الشمال التي لا يمكن للجيش الفرنسي الوصول إليها، ومن ثم فإننا نشهد انقسام منطقة رقيبات الساحل.
مما يعرض الإنقسام القبلي للخطر، خاصة أنه يفضل الإنقسام، حيث لم يكن هناك سوى التنافس الذي يعيق التوازن، وفي الواقع تضاف حجة أخرى من أجل المواقف التي يتخذها كل من الطرفين:
الفصائل الشابة التي كانت تعتمد بصبر على الكبار، تستغل هذا الوضع الجديد لتحرير نفسها منه باعتماد نهج معاكس.
عندما نظَّم الكولونيل موريط الحملة العسكرية التي توجهت إلى قلب الساقية الحمراء للقاء المقاومة، جاء شيوخ الفخذات الرئيسية لرقيبات الساحل لصنع السلام في أطَار، (قرية توجد بها قيادة الإدارة العسكرية الفرنسية) بينما الفخذات الثانوية الصغيرة التحقت بالشمال.
ينتمي اولاد لحسن إلى “فرع الغراب” من ارقيبات الساحل، اولاد موسى، مسؤول عائلة اسماعيل ولد باردي من أعضاء هذه الفخذة، كما يقول المثل الوقتي: “إذا باعك اولاد باردي حَسَني، اشتره بكل ثقة”.
وضعية إسماعيل ولد باردي من كبار المحترمين باعتبار سنه ونسبه، كان ينبغي أن يكون متحالفا مع فرنسا، في الحقيقة، إذا كان من الشيوخ، شيوخ اولاد موسى، فهو أيضا أصغر بالمقارنة مع الشيخ الرئيسي لهذه الفخذة الهامة المسمى: محمد ولد خليل، ومن المناسب قول بعض كلمات عن هذه الشخصية الذي يبدو تاريخيا، في مركز العلاقة بين فرنسا والرقيبات بين 1917 و1925 (تاريخ وفاته).
إسماعيل ولد باردي ومحمد ولد خليل
ضمن اولاد موسى نسب محمد ولد خليل ليس الأكبر سنا ولكنه الثاني، واسماعيل ولد باردي الثالث في الترتيب السلالي، بالنسبة للتصدر في الصف الأول محمد ولد خليل الذي كان عليه أن يجمع بين هيبة الحرب ومهارة السياسة.
لقد اكتسب هيبة المحارب من خلال الصراعات الكبرى القبلية التي سمحت للرقيبات بهزيمة كل جيرانهم المباشرين، واكتسب مهارة السياسي من خلال ممارسته الداخلية بالقبيلة، من خلال تفاقم المنافسات بين مؤيديه وتحييد أولئك الذين يمكن أن يضروه، وكذلك من خلال تحديد نية فرنسا منذ 1907.
في نهاية القرن 19، تمكن محمد ولد خليل من زعزعة توازن نسب اولاد موسى الأكبر عن طريق كسر التماسك الداخلي، عندما حصل على دعم القوة الفرنسية بأطار التي نجحت في تنصيبه كشيخ بصفة نهائية، بعد بضع سنين من هذا التصرف، الإدارة الإستعمارية اعتقدت طبعا بأن سلطة محمد ولد خليل امتدت على مجمل الرقيبات، مما يقوي التأثير السياسي لهذا الأخير داخل القبيلة.
في وقت مبكر جدا، تنافس اولاد لحسن على سلطة محمد ولد خليل، هذا التنافس قام على رفض تعيين إسماعيل ولد باردي كشيخ، مع أنه كان الأكبر سنا، وإن ليس الأكبر على الإطلاق، لأنه دائما كان من الصعب تولية الصغير في وجود من هو أكبر منه، وضعية إسماعيل عورضت بسبب ما قام به محمد ولد خليل من اتصلات مع “الكفار”.
اولاد لحسن رفضوا المشاركة من البداية، اتفاقية السلام وتميِّزا من مجموع اولاد موسى، محمد كشف بسرعة وخيَّم هناك أيضا كاسرا التماسك الداخلي للفخذة ويثير في داخل اولاد لحسن المنافسة بين النسب الثانوي و”فرع الغراب” فيشجع على الخصوص العين الأساس الثانوي ادوديح ولد عبد الله لتحدي سلطة إسماعيل ولد باردي.
للوصول لهذه الغاية، استخدم أقل المشاحنات المحلية (سرقة مواشي، شجار الخ) للتدخل وتقويض سلطة إسماعيل، قام أيضا في 1920 بإدانة إدارة اولاد لحسن، بالمشاركة في عملية عسكرية سيرت ضد الكولون الفرنسي، واتصلوا بكومندار دائرة أدرار لتحديد مضارب عائلة باردي.
أرسل كومندار الدائرة مفرزة من الرحل لمهاجمة مضارب إسماعيل ومرافقيه، ومن ثم تمَّت القطيعة النهائية:
التحق إسماعيل ولد باردي بوادي الذهب “بريودورو” مع الفخذات الصغيرة لرقيبات الساحل وبعض الأقارب المقربين، من أبناء وأبناء إخوة محمد ولد خليل، وبقي الباقي من مضارب اولاد موسى وأكثرية اولاد لحسن الذين اعتادوا الترحال في المنطقة الفرنسية في أماكنهم، معربين عن عدم استعدادهم لترك مراعيهم المفضلة بها، لفائدة الجهاد (الحرب المقدسة).
في 1912 انضمت أغلب الفخذات الثانوية لفرنسا، بشرط عدم الإعتماد كليا على محمد ولد خليل.
خلال الهجمات التي نفذها إسماعيل في المنطقة الفرنسية، طيلة السنوات الموالية محاولا تصفية حسابه مع محمد ولد خليل، وادويدح ولد عبد الله.
في سنة 1923 غزى مضارب محمد، وفي 1924 غزى مضارب ادويدح، وفي غضون سنوات قليلة انتهت سلطة عائلة باردي، على اولاد لحسن وأفلست، بانهيار الفخذة، نجح محمد ولد خليل في إبعاد الخطر الذي يمثله تنافس الفخذة الهامة الثانوية؛ اسماعيل وادويديح صاروا متباغضين، لدرجة تبادل إطلاق النار ولم تعد عائلة إسماعيل نفسه تتبعه.
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إضافة: يسمى المعبر الحدودي بين موريتانيا والجزائر باسم المجاهد “إسماعيل بن الولي ولد الباردي”، والصورة توضح ذلك.




