اختبار الصبر قراءة فطرية في تجربة المارشميلو

17 ديسمبر 2025 07:57

اختبار الصبر قراءة فطرية في تجربة المارشميلو

هوية بريس – د.لطفي الحضري

مقدمة

كانت تجربة المارشميلو، كما عرضها والتر ميشيل في دراسته الشهيرة (Mischel, 1974)، نموذجا تجريبيا يكشف البنية الأولية لحركة الصبر داخل النفس حين تُوضَع أمام خيارين: لذة عاجلة ولذة مؤجلة. وقد أتاحت التجربة، في لحظتها التكوينية، مراقبة انتقال الاستجابة من الداخل إلى السلوك، من الرغبة إلى القرار.

يقوم النموذج على وضع طفل أمام قطعة واحدة من الحلوى، ويُوعَدُ بأن يحصل على قطعتين إن هو انتظر. ومن هذه البنية البسيطة يتولد الامتحان الحقيقي: امتحان قدرة النفس على إرجاء العاجل عندما تتلقى وعدا بالآجل، وما يتضمنه ذلك من توتر بين الصورة الحاضرة للمتعة والصورة المستقبلية للمكافأة؛ وهو ما سماه ميشيل “الصراع التمثيلي” الذي يحدد شكل القرار لاحقا.

أجرى الباحثون التجربة في غرفة فارغة من الملهيات: كرسي، مكتب، وقطعة حلوى أمام الطفل. يخرج الباحث من الغرفة، فتظهر النفس على حقيقتها. بعض الأطفال غطّوا أعينهم أو صرفوا نظرهم، في سلوك فسّره ميشيل وإيبي إبسون ( 1970) بأنه “إعادة توجيه الانتباه” لتقليل الاندماج مع المثير. وبعضهم ضرب الطاولة أو ضغط على المارشميلو، كأنهم يحاولون تحويل التوتر إلى حركة. وآخرون التهموا القطعة فور إغلاق الباب. لم تكن هذه مجرد ردود طفولية، بل كانت صورا أولية لكيفية اشتغال النفس عند أول اختبار للانتظار.

الصبر: المعنى الذي لامسته التجربة دون أن تُسمّيه

ربطت الدراسات الأولى بين القدرة على الانتظار وبين جودة الحياة لاحقا. لكن الدراسات اللاحقة، وخاصة التي أعادت التجربة على عينات واسعة ومتنوعة، أظهرت أن الإرادة وحدها ليست التفسير المركزي. السياق الاجتماعي يلعب دورا عميقا؛ فالطفل الذي نشأ في بيئة ندرة لا يرى في الانتظار وعدا مضموناً، بل مجازفة. أما الطفل الذي تعوّد الوفرة فيرى في الانتظار استثمارا. ومع ذلك يظل الدرس الروحي قائما: الانتظار قدرة تتشكل في النفس قبل أن تصقلها الظروف. وهذا هو الصبر في مستواه الأول: صبر الرغبة، لا صبر الشدة.

وهو ما يوافق ما ذهب إليه باومستر وهيذرتون (1996) حين اعتبرا أن “التنظيم الذاتي ينهار عندما تفشل النفس في إدارة العلاقة بين الرغبة واللحظة”.

وقبل التجربة الشهيرة، لاحظ ميشيل في ترينيداد أن الأطفال من خلفيات مختلفة يتصرفون بصورة متباينة أمام الرغبة. أطفال من أصول هندية أظهروا قدرة أعلى على تأجيل المتعة لمدة أسبوع كامل، بينما فضّل كثير من الأطفال الأفارقة الحصول على المتاح الآن. واللافت أن العامل الحاسم لم يكن الاقتصاد بل بنية التربية ووجود الأب، كما بيّن ميشيل في تقريره الميداني. كأن التجربة تقول: إن الصبر لا يظهر في فراغ، ولا ينمو في العزلة؛ إنه ثمرة بيئة تُعلّم الطفل معنى الوعد، ومعنى الزمن، ومعنى الوزن الحقيقي للرغبة.

المشهد الروحي:

عندما نعيد قراءة التجربة من مقام “الصبر” — مقام التحول الداخلي — تتجرد المارشميلو من رمزيتها الحسية، وتصبح دلالة على مواجهة النفس لدنياها. الطفل أمام قطعة الحلوى هو نموذج الإنسان أمام رغباته: تارة ينجذب لما يَظهر، وتارة يرى أبعد من اللحظة، وتارة يحتاج إلى أن يغضّ النظر حتى لا يُستدرَج. والصبر هنا لا يأتي في صورته الوعظية، بل في صورته النفسية الدقيقة: القدرة على تحمّل فراغ اللحظة كي يولد معنى جديد. هو نفسه الامتحان الذي يعيشه الراشد، وإن اختلفت أدواته: مال، شهوة، مكانة، غضب، رغبة في رد الإساءة، استعجال نتيجة لا تُبنى على عَجَل. وتقول التجربة -من حيث لا تنوي- إن النفس التي لا تتدرب على الانتظار تُهزم عند أول رغبة تطرق بابها.
والحاصل: أن تجربة المارشميلو لم تكن دراسة في الإرادة فحسب، بل كانت مرآة تُظهر التداخل العميق بين الإرادة والصبر حين يعملان معا داخل النفس. فقد بيّنت التجربة أن الإرادة هي القوة التي تضع القرار في مساره، وأن الصبر هو الحركة التي تحافظ على القرار في الزمن. الإرادة تفتتح لحظة الاختيار، والصبر يصون الاختيار حتى يكتمل.
ومن هنا ظهر أن الصبر ليس حالة ساكنة، بل بناءٌ يتعزز بالتربية والمعنى، وأن الإرادة لا تعمل في فراغ، بل تستمد توازنها من إحساس الإنسان بأن ما ينتظره أعظم مما يُعرض عليه الآن. وعند هذا المستوى يتضح أن التجربة العلمية لم تفحص مجرد ضبط النفس، بل لامست – دون أن تدري – جوهر البناء الروحي: الإرادة التي تُقرر، والصبر الذي يحفظ القرار حتى يصبح الانتظار عبادة لا مجرد مهارة.

مراحل الصبر

الصبر هو مسار متدرج من المراحل النفسية والروحية التي تعيد بناء الإنسان من الداخل، لا موقفا لحظيا أو فضيلة جامدة، حيث:

1. تبدأ مرحلة التقبل حين يواجه الإنسان واقعه دون إنكار أو تمرد، فيعترف بما حدث ويُسلم بما لا يستطيع تغييره، فتسكن النفس بعد صراع الرفض الأول.

2. يليها مرحلة الأمل، حيث ينتقل الشعور من السكون إلى الرجاء، فيستعيد القلب ثقته بأن وراء كل ضيق حكمة، وأن للظلمة نهاية مهما طالت.

3. ثم تأتي مرحلة التجاوز، وفيها يتحول الألم إلى وعي، فيتخلص الإنسان من ثقل الشكوى، ويتعلم كيف يعيش فوق الجرح لا تحته، فيبدأ في تحويل التجربة إلى طاقة بناءة.

4. وأخيرا مرحلة بدء الفعل، وهي الذروة العملية للصبر، حين يُترجم الوعي إلى حركة، فيعود الإنسان إلى العمل، إلى السعي، إلى البناء، وقد صار أكثر نضجا وصلابة.

بهذا المعنى، الصبر ليس انتظارا سلبيا، بل رحلة من الاعتراف إلى الرجاء، ومن الوجع إلى الفعل.

خاتمة

تُظهر القراءة الفطرية لتجربة المارشميلو أن قيمتها الحقيقية لا تكمن في قياس القدرة على تأجيل الإشباع، بل في كشف البنية الداخلية التي تنتظم فيها علاقة الإنسان بالرغبة والزمن والمعنى. فالتجربة لم تختبر سلوكا معزولا، بل لامست حركة نفسية مركبة يُستدعى فيها القرار ليصمد أمام امتداد الزمن.

يتضح من التحليل أن الصبر لا يعمل ضد الرغبة ولا يلغيها، بل يعيد تنظيمها حتى لا تتحول إلى اندفاع قاهر. وهو بهذا المعنى ليس امتناعا سلبيا، بل قدرة على تحمّل فراغ اللحظة دون فقدان المعنى.

وتؤكد المقارنة السياقية أن الصبر لا ينمو في فراغ فردي، بل يتشكل داخل بيئة تربوية تمنح للوعد صدقيته وللزمن قيمته. فالانتظار لا يكون فضيلة إلا حين يُدرَك بوصفه استثمارا، لا مجازفة.

وعليه، فإن تجربة المارشميلو، حين تُقرأ في أفق فطري، تُعيد تعريف الصبر بوصفه مسارا داخليا متدرجا ينتهي بالفعل الواعي.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
16°
الخميس
15°
الجمعة
15°
السبت
16°
أحد

كاريكاتير

حديث الصورة