الأغنية الإيرانية..
هوية بريس – د.محمد إلهامي
كان شيخنا البصير حازم أبو إسماعيل كلما جلس في قناة سألوه عن رأيه في الخمر والسياحة والغناء والمرأة، حتى صار يقول ضجرا ومزاحا: لم يبق إلا أن أسجل رأيي في أغنية وألحنها وأحملها معي إلى كل برنامج.
وعملا بنصيحة الشيخ، فها أنذا أكتب هنا أغنية مختصرة وموجزة في المسألة الإيرانية؛ أجمع وأعيد فيها ما قلتُه في مواطن كثيرة، لا لشيء إلا لأجد رابطا أحيل عليه، كلما سألني سائل.. مع أني أعلم علم اليقين أن ذلك لن ينفعني كثيرا، فإن الكذابين والمتربصين لا دواء لهم، ولكن أعذر نفسي أمام الله.
وهذه أغنية موجزة ومختصرة، ولقد هممت أن أكتب واحدة مطولة فضعفت عنها همتي وضاق عنها وقتي.
1. إيران دولة ذات عقيدة: أي أنها تتحرك بمنطق الدولة في مسار ترسمه لها العقيدة.. منطق العقيدة يجمح بها إلى التوسع والانتشار والسيادة والهيمنة، ومنطق الدولة يذكرها بالمصالح والمفاسد، وحسبة المكاسب والخسائر.. فهي ليست حركة نضال ولا جماعة استشهادية ولا تفكر بمنطق حركة التحرر الوطني أو الإسلامي.
2. الشيعة في الجملة مسلمون (على خلاف وتفصيل يُلتمس في مظانه من كتب العقيدة والفرق)، أقول هذا لنتذكر معا أنه حين ترتيب الأقرب والأبعد فهم أقرب من اليهود والنصارى والملحدين.
3. المشكلة الأخطر في الفكر الشيعي أنه انشقاق عن أهل السنة والجماعة، بمعنى أن العدو الأقرب في الذهن الشيعي هو السني (يراه ناصبيا معاديا لأهل البيت ومتسببا في مقاتل أئمة أهل البيت)..
مثال بسيط: لئن كان المسلم يعبر عن سخطه لأمريكا فيقول: أمريكا شيطان هذا العصر. فإن الشيعي إذا أراد التعبير عن نفس هذا السخط فهو يقول: أمريكا (يزيد) هذا العصر. [المقصود: يزيد بن معاوية بن أبي سفيان].
تزداد خطورة هذه المشكلة وعمقها في أنها تظل تتراكم منذ 1400 سنة، ولك أن تتصور مذهبا فكريا لا يزال يبنى على الحزن والغضب والانتقام منذ هذه السنين.
4. التشيع فكر.. والفكر لا يتحرك من تلقاء نفسه بل يتحرك عبر البشر الذين يعتنقونه ويحملونه.. هؤلاء البشر يعيشون في عالم حقيقي.. هذا العالم الحقيقي حافل بالظروف والتوازنات وموازين القوى.. وكل هذا مؤثر في حركتهم.. ومؤثر كذلك في تكييف هذا الفكر أو تعديله أو تطويره.
والذي يهمنا من هذا الآن: أن ما يزيد من خطورة الشيعة الآن أننا ضعفاء، وبالتالي فنحن الطرف الأضعف الذي يمكن اجتياحه والهيمنة عليه، وهنا سيتعدل الفكر وحاملوه ويتكيف وفقا لهذا الوضع بحيث نكون نحن: الخطر الأهم والمعركة الأولى والانتقام الأكبر.
في ظروف أخرى، كان الوضع مختلفا، وإذا اختلفت الظروف سيختلف الوضع، فمثلا: حين وُجِد الشيعة في دول سنية قوية لم يمثلوا خطرا، بل ذهبت طاقة بعضهم في فتح أنحاء بعيدة في أطراف الدولة الإسلامية، ونقل أهلها من الكفر إلى الإسلام (على مذهبه).. وهذه من حسناتهم بطبيعة الحال. وظهرت لهم أحيانا دول فكان لها جهادها ضد الروم أو الصليبيين.
كَوْنُ أن الفكر يتكيف ويتعدل ويعاد ترتيب أولوياته لدى حامليه وفقا للظروف = هذه ظاهرة إنسانية عامة، ليست خاصة بالشيعة وحدهم.. إنما نذكرها هنا لقرب المثال.
5. إيران المعاصرة تشكلت عقب ثورة “إسلامية” قام بها الخميني، وهذه الثورة كانت ضد الشاه، والشاه كان قوميا علمانيا من عملاء أمريكا، وكان حليفا لإسرائيل، وهو شبيه بأتاتورك في تركيا وبعبد الناصر أو محمد علي في مصر وبورقيبة في تونس.. إلخ!
لذلك كانت الدولة المتشكلة بالانقلاب عليه مناقضة له في أمور، من أهمها: التوجه الإسلامي، العداء لأمريكا، العداء لإسرائيل.
(بالمناسبة: إذا كنت تظن أن إيران وإسرائيل أصدقاء وأشقاء، فيمكنك التوقف هنا، فهذه الأغنية لا تناسبك، ويمكنك اعتباري من المفتونين بإيران ومن عملاء الشيعة ومن المخترقين… وسائر ما أحببت! لكني حذرتك: بقية الكلام لن يعجبك).
وقد حاولت أمريكا الانقلاب على الثورة في البداية، ثم بدا لها أمر آخر (سآتيك به بعد قليل).. فقررت أن تدير العلاقة مع هؤلاء (الأعداء) لا أن تسعى في إزالتهم.
لكن خلاصة هذا البند: العداء بين إيران وبين أمريكا وإسرائيل عداء حقيقي، ولدينا نموذج حزب الله في لبنان وكيف أنه حارب إسرائيل في الجنوب حتى حرر الأرض منها.
6. نذهب إلى أمريكا، وتعال نفكر معا كأمريكان وبعقول أمريكية..
إذا كنتُ أمريكيا ونظرتُ إلى المسلمين الذين هم عندي العدو الأول، على الأقل منذ سقوط السوفييت، فاكتشفت أن لدى هؤلاء المسلمين انقسام كبير: سني شيعي، فإني أكون غبيا لو لم أعمل على رعاية هذا الانشقاق وتكبيره وتضخيمه.. إنه فرصة لا تقدر بثمن! فكيف أفرط فيه؟
أيهما خير: أن أنزل بثقلي لإزالة دولة إيران الشيعية فأضعف بقوتي الأمريكية وبأموالي وبجنودي هذا الانقسام، أم أنظر كيف يمكن أن أستفيد من هذا الانقسام بترك هذه الدولة تنمو وتتمكن؟!
ذهب الأمريكان إلى الخيار الثاني؛ إن طبيعة الدولة الإيرانية العقدية التي ستنشر فكرتها كلما تمكنت سيزيد من الانقسام السني الشيعي، وهو هدف ممتاز للأمريكان.. فلو أن إيران استطاعت أن تزرع في كل بلد إسلامي بذرة شيعية تنمو وتؤسس لانقسام جديد، فذلك غاية المنى، ستفعل هي ذلك بأموالها وملاليها ورجالها وربما بجنودها أيضا، والثمرة في النهاية مفيدة للأمريكان.
وهذا النمو الإيراني له مكاسبه وخسائره أيضا.. فمكاسبه كالتي قلناها، وخسائره أن يزداد نمو هذا المارد حتى يهدد المصالح الأمريكية أو يهدد ابنتنا: إسرائيل. ولكن الحسبة تقول بأن المكاسب قريبة ومحققه، والخسائر بعيدة ومحتملة، فلا تزال قوة إيران ضعيفة للغاية بالنسبة إلى الأمريكان والإسرائيليين.. وما زال بالإمكان العمل على تحجيم هذه القدرات وتعويقها، بل تشذيبها وتهذيبها وقصقصتها كلما طالت إلى مدى غير مسموح.
وبهذا صارت إيران (التي تتحرك وفق عقيدتها الخاصة، وفي سياق مصالحها الذاتية، وضمن رؤيتها المستقلة) لاعبا مفيدا بالنسبة للأمريكي.. وبها جرى تخويف الخليج ليزداد التصاقا بالأمريكان، وجرى العبث في باكتسان وأفغانستان والعراق وسوريا ولبنان.. وبأنحاء متعددة في إفريقيا وآسيا بل ولدى الأقليات المسلمة في أوروبا.
والتقت المصالح أحيانا: كما في احتلال أفغانستان والعراق ثم سوريا واليمن، وتبادل الطرفان الخدمات التي تحقق لكليهما مصالحهما.. وكانت الجثة هي جثة أهل السنة.
وهذا يفسر لك لماذا سلَّم الأمريكان العراق لإيران، ولماذا سمحوا لهم بإدخال ميليشياتهم ثم جيشهم إلى سوريا، ثم سمحوا لذراعهم اليمني بالاستيلاء على البلد.. وهي أمور لا يمكن أن يسمح بها الأمريكان لبلد سني بل لقوة سنية!
وتعد ثورة الشام هنا مثالا ممتازا لشرح ما أقول من فكرة الاستفادة من تناقضات طبيعية موجودة، دون أن يدخل فيها أمر العمالة:
حصلت ثورة شعبية على بشار، الشعوب بطبيعة الحال ليست عميلة لأحد، وانفلتت الأمور..
الأمريكان بحثوا عن بديل لبشار، لم يظهر لنا البديل العلماني المناسب بعد، فليستمر القتال.. ولتفتح الحدود لاستقبال شباب أهل السنة المقاتلين..
هؤلاء الشباب كادوا يزيحون بشار.. فلتأتِ المليشيات الشيعية..
لم يفلح الأمر.. فليدخل الجيش الإيراني..
وهذا أمرُ يوافق رغبة إيران الذاتية ومن منطلق مصالحها المستقلة، فهي قد استثمرت استثمارا عظيما في بشار وفي سوريا سياسيا وعسكريا ومذهبيا..
كيف يدخل الجيش الإيراني إلى حدود إسرائيل؟ وكيف تسكت إسرائيل؟
هذا يا صديقي هو حدود الخلاف، وهو الحد المسموح بالنمو، وهي تصارع الإرادات المستقلة، ومحاولة استثمار كل طرف لما تتيحه الظروف، ثم محاولة كل طرف قطف مكاسبه وتجنب خسائره.
فماذا كان؟
نُصبت المحرقة في الشام، هلك فيها خيرة شباب أهل السنة، وهلك فيها صفوة المقاتلين الشيعة ونخبة عسكرييهم.. ولما انحسرت الثورة بدأت إسرائيل تقصف بقية القادة الإيرانيين في سوريا.. وكانت إيران ثاني أكبر الخاسرين في هذه الثورة. الخاسر الأول: هم أهل السنة طبعا، فهم بلا دولة ولا قوة.
7. كان البند السادس طويلا.. تصبر معي، اقتربنا من النهاية..
إيران كغيرها من البلاد، وكغيرها من الثورات العقدية، تحولت بعد سنوات إلى دولة.. والدولة التي تكون ثمرة ثورة دائما ما تصاب بعد الأطياف فيها بإحباط عظيم، يقولون: ما لهذا أقمنا الثورة! ويا ليتنا لم نفعلها!
هذه أيضا ظاهرة طبيعية في التاريخ، أحيانا بعض الثوار يكونون مثاليين حالميين للغاية، وأحيانا يستطيع نفعي برجماتي ذكي أن يقطف ثمرة الثورة ويكون هو زعيم الدولة ويبدأ في التفكير بمنطق المصالح لا بمنطق المبادئ، وبمنطق الدولة لا بمنطق الثورة.. وغالبا ما يحصل الأمران معا.. وكلما سار الزمن تضخمت الدولة وتقزمت الثورة.
من كان قليل المتابعة لما يحدث في إيران، يعلم بيقين أن هذه السنوات هي الأشد في حجم الانقسامات الداخلية، وهي انقسامات تزيد مع تزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية، محاولات اجتذاب الخبراء النوويين وإغرائهم بالهجرة إلى الغرب لم تتوقف وفيها حكايات مدهشة، محاولات اختراق الأجهزة والمؤسسات، محاولات تفجير النزاعات الداخلية… إلخ!
والثمرة واضحة: عدد هائل من الجواسيس في صفوف قيادية وفي أجهزة مكافحة التجسس، اغتيال لأهم علماء نوويين في إيران نفسها، بل تزيد الشكوك حول اغتيال الرئيس الإيراني نفسه!
الفارق المالي والتقني والعسكري بين إيران وبين الأمريكان والإسرائيليين لا يزال رهيبا.
لهذا، فمن يقول بأن إيران تورطت في اغتيال هنية هو برأيي يجازف جدا (وسأكتفي بلفظ المجازفة هذا احتراما لفضلاء كثيرين رأيتهم وقعوا في هذا الكلام)، فإن اغتيال هنية صفعة مدوية لإيران، مثلما كان اغتيال العاروري صفعة مدوية لحزب الله.. وغاية ما يُقال: عجزوا عن حمايته كما هم عاجزين عن حماية رئيسهم وعلمائهم النوويين.
8. هذا هو البند الأخير..
إيران تدعم المقاومة في فلسطين.. لماذا؟!
الجواب: لأن هذا هو الطبيعي البديهي الذي تفكر فيه أي دولة لديها استقلال وطموح!
أم أن سياسة الأنجاس الحكام العرب قد جعلت البديهي مستحيلا؟! أليس دعم غزة وفلسطين هو حماية للدول العربية لو كان يحكمها فعلا وطنيون مخلصون لبلادهم ولمصالحها.. وهنا الحديث عن المصلحة العلمانية القومية البحتة التي يفكر فيها الكافر والمسلم والزنديق والملحد إذا حكم بلدا.
أي بلد عربي أو إسلامي أو حتى بلا ملة يعيش في هذه المنطقة، يرى في إسرائيل خطرا.. ومن ثم فإن تفكيره الطبيعي التلقائي أن يدعم من يشاغبون إسرائيل ويعرقلونها.
من قراءتي لبعض مذكرات الساسة الأمريكان أستطيع أن أقرر بأن إيران هي نقطة جوهرية خلافية بين الأمريكان والإسرائيليين؛ الأولون يرونها عدوا يمكن تهذيبه وتحجيمه والاستفادة منه، والآخرون يرون أنه لا يمكن التعايش معه بل تجب المسارعة في إنهائه. والأمريكان هم اليد العليا بلا شك.
لهذا ذهبت إيران في دعم غزة بما تسمح به طاقتها وظروفها ومنطقها كدولة.. واستفادت المقاومة من هذا بما استطاعت في ظل انعدام النصير والحليف.. وكلٌّ يعمل من منطلقاته. ولا شك أن إيران قدمت خدمات عظمى هي جزء من الأسطورة التي تشاهدها في غزة، كما لا شك أن هذا كله ما كان لينفع شيئا لولا أن في غزة رجالا وأبطالا:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا .. إذا لم يكن فوق الكرام كرام
وعادة السيف أن يزهو بجوهره .. وليس يعمل إلا في يدي بطل
بل أثبتت غزة أنها أعصى على الاختراق من إيران نفسها.
انتهت..
وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان، فمني ومن الشيطان.