الانتقال من البيعة إلى العقد الاجتماعي.. تطور خطير يهدد الدين والدولة بالمغرب

الانتقال من البيعة إلى العقد الاجتماعي.. تطور خطير يهدد الدين والدولة بالمغرب
هوية بريس – إبراهيم الطالب
منذ أن كُلف الوزير التوفيق بتدبير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تَحكَّم في دين المغاربة بفكره وسياسته في الشأن الديني لمدة تقرب اليوم من ربع قرن منذ 2002 إلى اليوم، انتقل خلالها المسجدُ والمنبرُ من مرحلة التضيق قصد الضبط إلى مرحلة الإخضاع قصد الاستعمال، وما نراه اليوم من إجراءات تَحَكُّمية في الخطبة والخطيب والخطاب هو عملية لتوظيف الدين في السياسة لا لِيُصلحها بمنظومة سلوكه ورؤيته العقدية بل ليخلع عليها الشرعية ويُفتت نفسه بعد تحكمها في كل مناحي الحياة العامة والخاصة.
وهذه ليست مبالغةٌ أو ملاحظة مُجازِفة، بل حقيقة ثابتة، وضابط هذا النظر، هو الإدراك التام للاتجاه العام لسياسة الوزير، ودراسة الخط الناظم للخطب الموحدة، وكيف تكتفي خطة تسديد التبليغ فقط بإصلاح النفس، في بُعد صوفي فرداني، لا يتجاوز ذات الفرد، لتستفيد منه في النهاية السوقُ الرأسمالية، دون أن يعود هذا التدين الفردي على الدين بالتمكين، بحيث يحقق رجوعُ الأفراد إلى الانضباط بالدين، رجوعَ الدين إلى مكانته التاريخية والشرعية في تأطير الحياة العامة والشأن العام.
ويظهر صدق زعمنا هذا أيضا من خلال تتبع مآلات أغلب “إصلاحاته” وتدابيره في ضبط مجال الدين والتدين المتعلق بالمغاربة المسلمين، ولا مجال للحديث عن غيرهم، فليست له القدرة ولا الإمكانية ولا الجرأة حتى ليناقش، بله أن ينتقد ويقترح؛ لكنه بالنسبة للمغاربة المسلمين -وهم تقريبا كل المغاربة-، فمنذ اعتلى التوفيق كرسي الوزارة وهو يهذِّب ويشذِّب ويعاقِب ويؤدِّب، ويُقلِّب ويُشقْلِب كل ما تعلق بالشأن الدين الإسلامي في المغرب.
وكل ذلك تطبيقا لمبدأٍ فرضَه هو، ما أنزل الله به من سلطان، وهو: “تحييد المسجد عن الصراع”.
وهل عملية التحييد هنا سوى تعطيلٍ مقصودٍ لوظيفة المسجد والمنبر والخطيب، الذي أصبح كركوزا مثيرا للشفقة، لِسانا دون عقل، وصوتا لا يختلف عن صوت المسمِّع الإلكتروني.
ويمكن أن نعتبر خطبة الجمعة الأخيرة ليوم 21 جمادى الآخرة 1447هـ الموافق لـ 12 دجنبر 2025م، مثالا جيِّدا يشي، بل يوضح ما يتوارى خلف مقصودِ الوزيرِ وخطتِه وتنزيلاتِه لمشروعه، ومجرد عنوانها يختزل الكثير: )الحرص التام على احترام اختيارات الأمة والقوانين المنظمة للحياة(، وسيتبين ذلك من خلال التحليل.
وحتى لا نطيل، نقف مع الخطبة في وقفتين سريعتين مع القاموس الذي استعمل في بناء هيكل الخطبة ومفاهيم المصطلحات المقتبسة منه.
الوقفة الأولى: “العقد الاجتماعي”
استعمل كاتب الخطبة مصطلح “العقد الاجتماعي” والوزير بصفته دكتورا وباحثا في التاريخ متخصصا فيه منذ عقود طويلة، يعلم سياقات نشوئه، وحمولته المفاهيمية المؤطرة، لهذا فاستعماله كبديل للبيعة، نعتبره تطورا كبيرا على مستوى الخطاب الديني في المغرب، لم يُسبق إليه، فالبيعة شرعها الله في كتابه، ولها مفهومها الشرعي، ولها آليات انعقادها وانحلالها، أما “العقد الاجتماعي” فمرجعيته وضعية فلسفية غربية صاغها الفلاسفة أمثال هوبز ولوك وروسو، وتطوَّرت في سياقاتِ قطْعِ أوروبا مع الدين وتبنيها للعلمانية، بعد ثورات متتالية، رفعت خلالها شعارَ “اشنقوا آخرَ ملكٍ بأمعاءِ آخرِ قسيس”، وبمقتضى تلك النظرية يتنازل الأفراد عن جزء من حريتهم مقابل الأمن والنظام، وهذا العقد مَدني لا علاقة له بالدين والمعتقد، ولا الأجر والإثم، ولا الجنة والنار.
والغريب أن هذه المفاهيم التي أقحمها الوزير في الخطاب الشرعي للمساجد والمنابر بالمملكة الشريفة، ربما لن تجدها حتى في الكنائس في بلاد الغرب النصراني، لأن أربابها يعرفون حمولتها الفكرية والمفاهيمية التي تتناقض مع تصوراتها الخاصة، أو لأنها اكتفت في خطابها بما ليسوع، وتركت ما لقيصر لقيصر.
فما هو مقصود الوزير من هذا الإقحام الفج لتلك المفاهيم؟
سبق أن امتدحَتْ بعض الجرائد العلمانية المتطرفة سعادة الوزير التوفيق وخلعت عليه لقب “مارتن لوثر المغرب” وذلك عندما أدخل التلفزة إلى المسجد سنة 2006، وكانت تلك أولى محاولاته لتنميط الخطاب الشرعي في المغرب، فاحتفى العلمانيون حينها بالوزير واعتبروا فعله إصلاحا دينيا بالمغرب، شبيها بالإصلاح الديني الذي قام به في أوروبا كل من هولدريخ زوينغلي في سويسرا، ومارتن لوثر في ألمانيا، وجون كالفن في فرنسا، خلال القرن 16، والذين كانوا حلقة مهمة في السيرورة الأوربية نحو تبنِّي العلمانية.
وهذا يفسر لنا كذلك قبول العلمانيين لرؤية الوزير، واجتناب تعرضهم لمشروعه “الإصلاحي” وانتقاده، وذلك لكونه يتفق مع متطلعاتهم، وتتسق مآلاته مع أهدافهم، بخلاف سلفه الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري الذي كان محط هجوماتهم واستنكاراتهم.
فهم يعلمون أن الوزير التوفيق مُغرم بفلسفات الأنوار المؤسسة للعلمانية والحداثة، ومقتنع بأن الدولة الإسلامية لا رجعة لها، وأن العلمانية المتعايشة مع الدين والإسلام غير المزعج للعلمانية، هو الحل لمعضلة تناقض المرجعيات في المغرب، لذا فلا عجب أن تَعتبر خطبته أن البيعة يمكن تعويضها بالعقد الاجتماعي، وأن هذا العقد الاجتماعي عندنا تمثله وثيقة الدستور، والنتيجة حسب منطوق الخطبة: “يجب احترام العقد الاجتماعي الأول المتمثل في وثيقة الدستور تدينا”.
ونسائل الوزير هنا: كيف يمكن للمغربي المسلم أن يحترم الدستور تدينا؟
علما أننا عندما نقول: “تدينا”، نكون قد أدخلنا احترام الدستور في العبادات التي يؤجر عليها المسلم ويؤزر، فيا ترى مَن قال بهذا من العلماء؟
فإذا كان الدستور في ديباجته ينص مثلا على أن الاختيار الديمقراطي هو ثابت من الثوابت، وينص كذلك على احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، وينص على مبدأ سمو المواثيق الدولية، فكيف سيتدين المغاربة بهذه الأحكام والنصوص؟
ربما يلزم السيد الوزير أن يضيف بابا في المذهب المالكي، يعنونه بـ: “باب لا يَكْمل إيمان المسلم إلا باحترام العقد الاجتماعي والدستور تدينا”، وعليه كذلك، أن يبين للمغاربة الأجر الذي يكتسبونه بامتثال ذلك، والوزر الذي يلحقهم إذا خالفوه، وعليه أن يعقد الدروس في المسجد لبيان الدين الجديد للمغاربة.
إن على سعادة الوزير أن يدرك وهو المتخصص في تاريخ المغرب، أن القبائل المغربية في صراعها ضد الفرنسيين اعتبرت نفي السلطان محمد بن يوسف مسًّا بالبيعة، وليس تغييرا سياسيا على مستوى الحكم، عَوَّضَ فيه ابن عرف وهو شريف أيضا ابن يوسف وهو السلطان الحاكم.
ويشهد لمثل هذا، موقف القبائل في عهد السلطان العادل المولى سليمان، فعندما احتدم الصراع بين قبائل آيت أومالو وجيش السلطان المولى سليمان رحمه الله، سقط هذا الأخير في أسر “القبيلة”: أيت يوسي في أواخر سنة 1233هـ/1818م، بعد أن مُني الجيش المخزني بهزيمة شنيعة، لكن القبيلة احترمت السلطان وبجَّلته وبَذلت له فروض الطاعة والولاء، وقامت به في موكب إلى أن بلغ فاسا. فما الذي جعل القبيلة وقد قُتل منها الكثير ودمرت ممتلكاتها تحترم السلطان وتبجله؟
الجواب: لأن العلاقة بين السلطان والقبيلة أو الرعية كانت مؤسسة على أساس ديني ولم يكن أساسُها اجتماعيا، وكانت ثورتُها ضد الولاة والظلم، ولم تكن قط ضد السلطان وشرعيته، فالبيعة هنا ذات مفهوم متجذر في الوعي الديني والسياسي المغربي، يمنع كثيرا من وجوه تقويض العلاقة بين الراعي والرعية التي يمكن أن يقبلها “العقد الاجتماعي”، فهل يعي التوفيق جريمة إقحام المفاهيم العلمانية في المساجد المغربية؟
فلو كانت العلاقة المذكورة بين المغاربة والسلطان مبنية على أساس “عقد اجتماعي”، لوقع مع السلطان المولى سليمان ما وقع مع الملك الفرنسي لويس السادس عشر الذي أعدمه أصحاب فكر “العقد الاجتماعي”، ورغم عودة الملكية بعد هزيمة نابوليون في سنة 1814، واعتلاء لويس 18 عرش فرنسا، ومحاولته الحكم بملكية دستورية وفق ميثاق 1814، مازجا بين إرث الثورة والشرعية التقليدية للملكية، بقيت الملكية تفقد شرعيتها تدريجيا إلى أن أجبر الملك لويس فيليب على التنازل عن العرش سنة 1848 فبدأ عهد الجمهورية الثانية والتي تطورت إلى ما نرى فرنسا عليه اليوم.
المقصود مما سبق ليس الدفاع عن الملكية ولا عن الاستبداد ولا رفضا للتجديد ودولة المؤسسات، بل المقصود هو بيان صراع الأفكار والمفاهيم الذي دخله المغرب منذ تأسيس ليوطي للدولة في المغرب على أسس فرنسية علمانية، جعلتنا نعيش في تناقض مستمر على مستوى المرجعية.
هذا التناقض الذي يجتهد التوفيق في حسمه دون إخضاعه لرقابة الشرع واجتهاد العلماء، محاولا لعب دور مارتن لوثر في وزارة الأوقاف منذ 23 سنة، ودور الوزير الفرنسي أدولف تيير (1797-1877) وهو مؤرخ وسياسي شغل منصب رئيس الحكومة ثم رئاسة الجمهورية ولعب دورا محوريا في ثورة يوليو عام 1830، التي أطاحت بالملك شارل العاشر، وأتت بالملك لويس فيليب الأكثر ليبرالية، وكان كذلك من الشخصيات البارزة في ثورة عام 1848 التي أنهت حكم ملكية يوليو وأسست الجمهورية الفرنسية الثانية.
فبراغماتية التوفيق تشبه إلى حد بعيد منهج تيار أدولف تيير، حيث كان هذا التيار يعتمد البراغماتية السياسية منهجا للانتقال من الملكية إلى الجمهورية المحافظة، وهو تماما الدور الذي يريد التوفيق في رأينا أن يلعبه في المغرب من خلال مشروعه، الذي يُحَيد فيه المسجد وخطابه ودوره عن الصراع الفكري والاجتماعي والإيديولوجي، ويقرب المسافة بين الملكية المؤسسَة على البيعة من ملكية متعايشة مع العلمانية، تقترب من مفهوم الملكية البرلمانية التي تسود ولا تحكم، في أفق التخلي الكامل عنها لصالح الجمهورية، خصوصا وأننا في المغرب أقرب للنموذج الفرنسي من النموذج البريطاني، وعندها سينتصر الملك على أمير المؤمنين.
لذا، نعيد السؤال على الدوام: مَن سيستفيد من هذا التحييد للمسجد والمنبر والخطاب الشرعي يا سعادة الوزير؟
الوقفة الثانية: “احترام اختيارات الأمة والقوانين المنظمة للحياة”
نتساءل مرة أخرى: ماذا يقصد كاتب الخطبة التي يطلع عليها الوزير قبل إصدارها، بمفهوم “اختيارات الأمة”؟
هل يعتبر النواب والمستشارين ممثلين وحيدين للأمة المغربية، وبالتالي يلزم المغاربةَ المؤمنينَ القبولُ والاحترام لاختياراتهم التي يصوغها “ممثلوهم” في شكل مشاريع ومقترحات قوانين تصبح تشريعا ملزما بمجرد نشرها في الجريدة الرسمية.
وهل يُطلب منا أن نعتقد أن هذه القوانين تُنشئ حقوقا يجب احترامها تدينا، وتفرض واجبات يجب امتثالها تعبدا؟
ودعونا نضرب مثالا من الواقع، إذا تم الترخيص لملهى ليلي أمام بيت أحدنا بموجب القانون الذي صوت عليه نواب الأمة، يتناول فيه مرتادوه الخمور، وعند منتصف الليل تخرج النساء متهتكات مخمورات يصطحبُهن الرجال إلى فِلل مفروشة، هل يكون -بموجب خطبة الجمعة- مفروضا على المغربي أن يرضى بهذا لأنه مؤطر قانونا، وينبغي عليه أن يحترمه؟
فحسب ما جاء في الخطبة، ما دام من المفروض أن الملهى مرخص له قانونا، فقد صار من حق صاحبه أن يستقبل الزبناء، وما دام تقديم الخمر ليس مخالفا للقانون فعلى المغربي أن يحترم صاحب الملهى وزبناءه تدينا، فـ”العقد الاجتماعي” لا يعترف بالحلال والحرام والإثم والأجر، وإنما ينظر إلى المشروعية التقنية القانونية المسطرية فحسب.
ما يقال في هذا الملهى يقال في مقاهي القمار المنظم، وكذا في الحوانيت والأسواق التي تبيع الخمور للمسلمين، وفي الربا وغيرها من القوانين التي تخالف منطوق النص الشرعي بمفهومه الأصولي، فهل على المسلم أن يُنكر كل هذا أم عليه أن يحترمه؟
قد يعترض بعض المغترِّين بحسن النوايا، بالقول: إن المقصود هو “القوانين المنظمة للحياة”، فنقول نعم هذا منطوق الخطبة وهو إخضاع لمفهوم القرآن للحياة لصالح مفهوم الحياة في فلسفات الأنوار، ومع ذلك نسائلهم: هل خصصت الخطبة أو قيدت عموماتِها وإطلاقاتِها الكثيرة؟
لا أبدا، فقد تَقصَّد كاتبها الهروبَ إلى الأمام، وبدل أن يوضح للمؤمنين والمؤمنات أن المقصود ما وافق الشرع من القوانين ينبغي امتثاله لتحصيل المصالح والبعد عن الفوضى، فضَّل المزيد من العبث، بضرب المثال بقانون السير على وجوب احترام باقي القوانين، وهذا هروب فيه تدليس وعبث، وتقصَّد عدم البيان حتى لا يَقع الوزير في انتقاد العلمانيين.
ومع ذلك تنزلا، نقول: هل يختلف البشر كافرهم ومؤمنهم حول حفظ الضروريات الخمس، فكل الشرائع متفقة في ذلك، لكنها مختلفة في التفاصيل. بل أصبحت اليوم بعد تغول العلمانية الدولية في القرنين الأخيرين لا تتفق مع ضرورة حفظ الدين وحفظ النسل.
ومع ذلك أيضا نتفق مع الخطبة وكذلك كل المغاربة على أن هناك من النصوص القانونية الوضعية ما لا يخالف الشرع، بل يوافق شواهد وأدلة من الشرع، لكن ينبغي الاعتراف أن مَن شرَّعها لا يضع في اعتباره أصلا القرآن والسنة مصدرا لتشريعاته، ولهذا لن تجد في الدستور ما يدل على أن القرآن والسنة يُعتبران مصدرا من مصادر تشريع القوانين المغربية، التي تصدر عن المؤسسات العمومية، ونتذكر تلك الجولات الكثيرة المريرة خلال تعديل الدستور في سنة 2011، والتي قادها العلمانيون من أجل حذف النص الذي يعتبر الإسلام دينا للدولة.
فكيف إذن، يجعل الوزير “احترام القوانين المنظمة للحياة” واجبًا شرعيًا؟
وحتى قانون السير الممثل به في الخطبة -عند التحقيق- لا يتلاءم مع الشريعة في كثير من نصوصه، فمثلا لا يتحدث في حالة القتل الخطأ عن صيام شهرين متابعين، ولم يكن قط محل نقاش فقهي بخصوص البنود التي تنص على العقوبات بالسجن في حق سائق المركبة حين تحدث الوفاة للضحية في حادثة السير، وكذلك في العقوبات الزجرية هل توافق المذهب المالكي في القوَد والجروح وجبر الضرر، وكذلك التأمينات على حوادث السير لم تخضع للتخريج الفقهي ولا للملاءمة؛ فكيف يمكن أن نتعبد باحترام قانون السير والحالة هذه؟
إننا ندعو الوزير التوفيق إلى إعادة النظر في منهجية تعامله مع الشرع والشريعة والمسجد والمنبر، وألا يعتدي على اختصاصات العلماء، فهو مجرد سياسي يدبر الشأن الإداري في مجال الشؤون الإسلامية، ولا علاقة له بالعلم الشرعي ولا بالتشريع ولا بالتنظير لما يتعبد به المغاربة أو يتخذونه دينا.
ولقد أصبحت مآلات خطته واضحة لمن أرد أي يبصرها، فهو حقا لا يتبنى العلمانية، لكنه يقترف أكثر من ذلك، فهو يعمل على أسلمة علمانية ترعرعت وفُرضت خلال المرحلة الكولونيالية (1912-1956)، وقد عارضها علماء المغرب، وقُتل في التصدي لها آباؤنا وأجدادنا، ولم يزل علماؤنا في رابطة علماء المغرب -حتى أقبرها الوزير عند مجيئه-، ينددون باستمرار العمل بقوانين فرنسا، ويطالبون الدولة بملاءمة ما يخالف منها الشريعة مع المعمول به في الفقه الإسلامي.
إن الإشكال المركزي الذي يلتصق على الدوام بكل خُطب الوزير وتدابيره وقراراته هو: كيف يمكنه ردم الهوة بين الدين/الإسلام والدولة؟ لذا نرى إصراره الدائم على أن “يُؤسلمِ” القانون الوضعي بإطلاق، وبالمقابل لن تجد له نقدا للقوانين المخالفة لصريح المذهب المالكي، ولا المذاهب الفكرية العلمانية المناقضة لعقيدة الأشعري، ولا السلوكيات التي لا يزجرها القانون والمناقضة لسلوك الجنيد، لكنه يتخذ من هذه “الثوابت” أداة لإقصاء من يريد من العلماء والوعاظ والخطباء من المساجد، ولشيطنة من يخالفه الرأي من العلماء، الذين يعتبرهم غير شرعيين ما داموا لا يشتغلون من داخل المؤسسات الرسمية، وهذه شبيهة بخلق طبقة من الكهان ستؤدي لمعارضات في المستقبل، إذا ما استصحبنا ما ذكرناه في الوقفة الأولى.
ونقول على سبيل الختم، إن منظومة القوانين في المغرب هي مشاريع تَحَكَّمَ في إخراجها إلى الوجود دهاقنةُ الاحتلال برؤية استراتيجية ممتدة في الزمن، وتم بناؤها رويدا رويدا في إطار عملية كبيرة لتطوير المجتمع المغربي حتى يلحق بأوروبا ثقافيا وفكريا، ويَتْبع من خلال دولته الحديثة التي بناها ليوطي خُطواتٍ علمانية تُفتت البنياتِ العلميةَ/الشرعية والاقتصادية والسياسية الأصيلة، ليصبح المغرب مجتمعا ودولة جزءا من منظومة سياسية دولية لا تزال تتحكم فيها الدول الإمبريالية من خلال مجلس الأمن والمؤسسات المالية والنقدية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان يراقبان أداء الحكومة المغربية برمتها وليس أداء وزير الأوقاف وحده.
لهذا، نحن على وعي تام بأن الإصلاح المرجو صعب للغاية، لكن الحل ليس في شرعنة العلمانية ومخرجاتها، وإضفاء الطابع الشرعي على قوانينها، بل يكمن في “أسلمة القوانين” وملاءمتها تدريجيا مع الشرع/المذهب المالكي، حتى لا يتحول الخطاب الشرعي الإسلامي في بلاد الأشراف والمرابطين إلى أداة لتسويغ إرث الاحتلال الفرنسي.
وعلى الوزير أن يفتح أوراشا للعلماء تهيمن عليها قيمة الاحترام والتقدير، ويمتنع فيها عن مصادرة حريتهم، وأن يعيد للمسجد حياته التي سلبها بفرضه للخطبة الموحدة، -والتي لا تقل شناعة عن قرار إغلاق المساجد بين الصلوات في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، عندها فقط، يمكن الحديث عن خطة تسديد التبليغ وبيان حقيقة الدين والتدين الصحيح.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عيه وسلم.



