عبودية المُرَاغَمَة بين إغاظة السلف ومهادنة الخلف لبغي الباطل

26 يونيو 2017 22:25
بين الكلب والحمار وفرعون وعصيد

 محمد بوقنطار – هوية بريس

للحق أنفاس تدافعية، كما للباطل صولات هجومية، والعلاقة بينهما يحكمها الصراع منذ أن كاد إبليس لأصلنا فأخرجهما مما كانا فيه من نعيم، وإلى أن أسس لأثر  هذا الإخراج والإنزال إلى الأرض في مهد تاريخ البشرية انطلاقا وبداية من قتل قابيل لأخيه هابيل، والأمر دولة بين الظهور والضمور في دائرة الصراع المقرر طبعا وحسا وشرعا إلى أن تقوم الساعة، بل إلى أن يقف الناس بين يدي رب العالمين للحساب…

 ولا شك أن أصحاب الباطل وهم يتمثلون أدواره قد ماتت ضمائرهم، وفقدوا حواس إدراك الحق والاهتداء إلى مناراته المشرقة، بل تكيفت طباعهم ومألوفات وعوائد ركزهم في الأرض على الهضم والاجتياح والاحتكاك المؤسس على قواعد العدوان والبغي والطغيان، ولا شك أن هذه الدندنة هي اجترار على بدء متكرر لطبيعة ذلك الصراع الأزلي، بل هي مسلمات حكتها بتواتر متصل وتناقلتها الأجيال عن الأجيال من جنس أولئك وهؤلاء المشكلين لأسس الصراع وطرفي النقيض.

وهو حكي منضبط عندنا خاصة معشر المسلمين بمستشرفات النتائج التي قرر حكمها الحاسم لصالح الحق أو ما ينفع الناس بتعبير أدق الوحي السماوي مصداقا لآيات الله البينات: “ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون” وقوله تعالى: “بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق” وقوله جل جلاله: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” وقوله جل وعلا: “ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته” وقوله سبحانه: “قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد” وقوله تعالى: “فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون”.

وإنما كان الجنوح أو سجلت معالمه الحائدة على وجه غريب وعجيب يعكس ما تسلل إلى حصون الأمة عبر النوافذ الوجدانية من كبير إحساس بالمهزومية، وما انعقدت عليه أفئدة الجماعة من كابوس الوهن والضعف الجاثم الكاتم للأنفاس، والصاد للعزائم عن قبلة المدافعة، ومقصود المرافعة عن الحق والتلبس بتهمته في زمن التخوين وأيامه الخداعات.

لقد كان هذا الجنوح حاضرا باديا للعيان، من جهة نظر صاحب الحق إلى حقه المقرر نقلا وعقلا، وإلى مسألة وجوده وضرورة تواجده بمسوغات متهافتة تجتر، أو تفرض نوعا من التقابل وحتمية التلازم، الذي ينعي لنا خبر هذا وذلك بسيرة وجود منضبط بقيد مفاده أن وجود الباطل هو أصل ومقدمة حتمية لابد منها، بل لابد لهذا الأصل من مزامنة ومصاحبة كنودة قبل ظهور الحق واستهلاله واستئثاره وتمكنه من مسافات زمانية ومكانية تعود ملكيتها في الأصل وسوف تعود بتحكيم منطق التداول للباطل المرة تلو الأخرى.

وإنه والله لجنوح يستبطن بين ثنايا فلسفته حقيقة حجم الوهن المتفشي في صفوف من يحملون لواء الحق أو يحسبون على محرابه، كما تحكي تجليات غربة التفكير وفقدان بوصلة المجاهدة المتلوة بالهداية الربانية إلى سبيل الحق، واعتناق عراه بكامل أهلية وجميل أحقية حتى وإن اشتد العمق وبَعُدَ الغور مصداقا لقوله تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”، وهذه قاعدة قرآنية يجود بها مقطع سورة العنكبوت في إجابة عن إشكالية مطلع السورة وحتمية المحك المقررة في ذلك المستهل، والمتعلقة طبعا بعرض الفتن وتمحيص قضايا الذوق الإيماني وحلاوته بين الدعوى والمزاعم من جهة وبين الصدق والرسوخ من جهة أخرى.

ولنخرج من طوق التجرد لما أدرجناه في سياق الكلام سلفا باحثين منقبين عن موطن تمثل، وتطبيق وتجلية لها علاقة محسوسة بحياة المسلمين وطقسهم التعبدي في شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار شهر رمضان المبارك، وهم يستعبرون مظاهر الإيمان ويدافعون غصص النحيب تحقيقا لمناطات الإخلاص ودفعا لشبهات الوقوع في لجة نقائضه، يحتلون الملك العمومي ويستوطنون الأزقة والطرقات، تفيض بأعدادهم المساجد العامرة بذكر الله، وتنضح بشذى أصوات المشفعين الفضاءات الموازية والحاضنة لصلواتهم وسنة تراويحهم العمرية، وأعظم بها من مجامع وتجمعات منيبة مخبتة لربها، مُواثقة لميثاق نعمة الله عليهم في هذه الأيام المعدودات، وهم بعيدون منسلخون عن لعاعة الدنيا، متفلتون بامتياز من الإخلاد إلى سلطان هواها، مستجيبون لتذكير الله إياهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: “واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به”.

وكل هذا حسن جميل تضيق به صدور الذين يرسمون على ظهورنا سريالية الصورة المتطرفة، والسادية العطشى لاستهلاك دماء الأبرياء من الآمنين المطمئنين… فيحملها الضيق على فقدان الأمل في نهايات حبل المواجهة وطول التربص، ويلوح في أفق مغلوبيتها مأخذ اليأس من إمكانية قطع الصلة بين أفئدة العباد وفاطرها جل في علاه…

 كما تسعد به نفوس، وتقر به أعين، وتطمئن إليه أفئدة وألباب، فيحملها الاستبشار على تثبيت جذور غرس الانتساب وتجديد أواصر صدق الانتماء، وإنما كان المعيب أن تتملك المسلم وهو يمارس عرى إيمانه ومستطاب حقه أحاسيس ومعتقدات تذهب مذهب ربط هذا الحق بما يقابله من واجب باطل، فترى الناس وهم يشكرون نعمة التعبد في هذا الشهر المبارك على سبيل الغالب يستبطنون أو يشهرون العزاء راكبين طقس تعبدهم بمنطق “هذا بذلك وهذه بتلك”، واصفين تجمعاتهم ومجالس ذكرهم، بأنها استدراك لاحق لموازين الحق مثلا على موازين الباطل، موسمين الدعاة والوعاظ والمقرئين بالنجومية الحقة التي سرقت منهم، وألصقت بغيرهم من الفنانين والفنانات والراقصين والراقصات والمغنيين والمغنيات، كل هذا في سياق يصور الأمر وكأن هؤلاء هم القدوة لنا في حرث الدنيا وزرع الآخرة، وكأن ركام هذا الباطل مصدر من مصادر التأشير على تشكل الحق ومأذونية تمكينه وظهوره…

ولا شك أن هذا من شأنه أن يعطي انطاباعات خاطئة ومجانبة للصواب، قد تكون لها تأثيرات جانبية ستلمس بعد حين لمس اليد في طريقة تفكير الأجيال المسلمة وهي تمارس تجليات حقها، وكذا في نظرتها إلى العلاقة الموجودة أو المحشورة بين الحق والباطل، وأن الراجح أو المسيطر على هذه النظرة هو اعتبارها علاقة تقابلية بعيدة كل البعد عن مفهوم الصراع والتدافع ورد العدوان…

وكم هو الحزن كبير والمرء يتأمل في شكوى مقرئ عائد إلى وطنه، قد تأبط جائزة في مسابقة للحفظ أو التجويد مرت أطوارها بعيدا عن مسقط الرأس، قد عمد إلى صفحته، أو عمد محبوه إلى صفحاتهم للتواصل الاجتماعي مجترين في ألم وأسى وحزن وشكوى عين التقابل الذي تؤثث طرفي نقيضه، صورة المقرئ المتسابق مع ثلة قليلة لمستقبليه من المحبين والأقرباء والأصدقاء في مدرج المطار، في مقابل صورة ثانية لراقصة أو مغنية تسبح في غمرة جمهرة من المحبين والعاشقين والعاشقات تحت ضجيج مكاء وتصدية مستقبليها يكاد سقف المدرج يهتز من قوة وشديد وقعها، بينما يتوسط صورتين عويل تعليق ونحيب تباك.

ولعل هذا مظهر من مظاهر الانقلاب على المقاصد المتقدمة لإشهار أهل الحق لحقهم، إذ ظل المقصد الأهم في شهر الحق -الذي هو في الأصل عمل صالح- وإخراجه من ضيق التستر عليه ومضض إخفاء وتورية حسنة الصدع به قولا وفعلا، هو إغاظة أهل الباطل وإغضاب تجمعاتهم، ومن ثم إعمال معول الهدم في صرحهم المادي والمعنوي، وانظر في هذا إلى حجم إغاظة سيدنا بلال رضي الله عنه والإسلام في غربته الأولى بمحض كلمة كان يرددها فتستثير حفيظة “أمية بن خلف” وترفع من العصبية الشديدة في دواخل “أبي جهل”، تلك هي عبارة التوحيد “أحد أحد”، ثم يردفها بعبارة أكبر وقعا من سابقتها مفادها قوله:”ولو كنت أعلم كلمة أحفظ لكم منها لقلتها”.

إنه جيل عاش الحق وتذوق عبادة المراغمة، ولم يكن ليطأ موطئا فيقصد من ذلك المقابلة، أو الترخص وطلب الإذن لسيره وسيرة مشيه الحسنة في مناكب الأرض وزواياها من حظ الباطل والتسليم المطلق لضرورة تواجده كمبرر لا ينفك وقوع الحق وتوقيعه عن سابقيته ومسبوقيته.

ولا جرم أن من كان هذا شأنه جعل بينه وبين الباطل فواصل وحدودا، بل كان همه الأول والأخير مصارعة الباطل وترديته، لا مساكنته ومهادنته إبقاءً لجذوة الحق متقدة ومبالغة في الخوف على مفاوز دوام معانقته، فليس هذا من ذوق الإيمان المتسنى للكمل من الرجال من جنس من وصف ابن القيم كريم فعلهم ولطائف ذوقهم عند قوله:”ومن ذاق طعمه ولذته، بكى على أيامه الأول التي ما رد فيها على كافر، ولا أغاظ مشركا، ولا كبت باطلا، ولا نهى عن منكر، يبكي على أيامه الأول، كيف ما كبت الشيطان وأولياء الشيطان؟ كيف لم يحاول الرد؟ كيف سكت على الباطل؟ كيف؟ لماذا لم يقارع وينازل؟”.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M