التمويلات الأجنبية للحركات النسائية في دراسة أكاديمية
هوية بريس – الدكتور الحسن الباز / أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية جامعة ابن زهر
لن يفاجأ المهتم بقضايا الإصلاح التشريعي في بلادنا، وتعديل قانون الأسرة منها على وجه الخصوص، عندما يكتشف متابعة البحوث الجامعية ومراكز الدراسات الاستراتيجية في الدول الغربية لقضايا التحولات التشريعية في قوانينا الوطنية.
وعلى سبيل المثال؛ مما أثار انتباهي عندما زرت كلية الحقوق بجامعة بوردو وجود أقسام وتخصصات للقوانين الإفريقية. وعندما كنت أبحث في القاهرة عن بحث ضمن مراجع أطروحتي للدكتوراه، وجدتها في أحد مراكز البحث الفرنسية بالقاهرة، وهو مركز CEDEJ (مركز التوثيق والدراسات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية ) Centre d’études et de documentation économiques, juridiques et sociales.
وفي إحدى الزيارات لمكتبة جامعة ليدن بهولاندا اكتشفت دورية باللغة الانجليزية نشر فيها بحث سنة 2003، أي قبيل صدور مدونة الأسرة سنة 2004، عن ( الحوارات المستجدة حول إصلاح قانون الأسرة بالمغرب: تسييس التشريع الإسلامي في مجال عام ناشئ: Recent debates on family law reform in an emerging public sphere.Leon Buskens. Leiden University and Utrecht University. .
وفي إطار علاقة هذا الاهتمام الدولي بالتحكم في التشريع الوطني أستدعي هنا مسألة التمويلات الأجنبية لأنشطة الحركات النسائية في المغرب.
وكثيرا ما تثار هذه المسألة في سياق مدافعة مطالب الحركات النسائية، خاصة من قبل النشطاء ذوي الغيرة الوطنية والمرجعية الإسلامية.
وممن أشار إليها بوضوح المرحوم محمد الحبيب الفرقاني في الأسباب التي جعلته يرفض خطة إدماج المرأة في التنمية جملة وتفصيلا، (انظر الحلقة الثانية من مقال سابق لي بعنوان: وثيقة إيديولوجية ضد الفطرة والعرف والشرع والدستور وخارج السياق والتاريخ. في هوية بريس، بتاريخ: 24 مارس 2024)، حيث يذكر ذلك في السبب الخامس قائلا: “التمويلات المشبوهة المتدفقة من مؤسسات ليبرالية دولية، حكومات وغيرها، بما فيها الاتحاد الأوربي”.
وقد أنجزت الباحثة زكية سليم دراسة باللغة الانجليزية، وترجمت إلى اللغة العربية من قبل الصديق الرداد بعنوان: (المرأة بين الدين والدولة في المغرب نصف قرن من التفاعلات، ط1، جامعة الرباط الدولية، سلسلة المغرب ومحيطه المتوسطي، نصوص وترجمات، رقم 2، دار أبي رقراق، 2023).
والباحثة أستاذة مساعدة بشعبتي علم الاجتماع والدراسات النسائية، النوع الاجتماعي والجنس، بجامعة رادجرز (Rutgers University)، ولاية نيوجرزي، الولايات المتحدة. وأستاذة زائرة بشعبة الدراسات النسائية في جامعة يال، وباحثة زائرة في جامعة باريس 8 (Université Paris 8 Vincennes).
وفي آخر الفصل الخامس من كتابها، وتحت عنوان: “التمويلات الأجنبية وتهمة الغربنة” كتبت تقول: “في حقيقة الأمر، معظم المراكز والبرامج النسائية مدعومة من قبل شركاء وتمويلات غربية. مع ذلك فإن هذه المجموعات حذرة في اختيارها “للشركاء” الذين لا يتعارضون مع “مصالحهم الوطنية ومع القضايا العربية”. تؤكد (ل.ر) مديرة الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب بالرباطـ أن هؤلاء الشركاء ينتمون إلى “أسرة الديمقراطيين”، تقصد بهم الاتحاد الأوربي، باستثناء بريطانيا بسبب سياستها الموالية للأمم المتحدة الأمريكية بعد غزو العراق، والولايات المتحدة نفسها، والمنظمات غير الحكومية الأوربية. بالرغم من أن بعض هؤلاء القياديات أكدن أنهن بدأن يقبلن التمويلات القادمة حتى من الولايات المتحدة، فإنهن يؤكدن أنهن يفضلن “أسرة الديمقراطيين”، ولا سيما في سياق الغزو الأمريكي للعراق.” (م س، ص 229).
وتضيف الباحثة المذكورة قائلة: “صرحت لي بعض القيادات أن الجمعية المغربية لنساء المغرب والعصبة الديمقراطية لحقوق المرأة تحصلان على الدعم والتمويل من أوربا “اختيارا سياسيا”، ولا تقبلان “المال الأمريكي”. وتتعاملان مع التمويلات البريطانية بالطريقة نفسها والمبدإ نفسه بسبب دعمها للحرب على العراق.” (م س، ص 229).
وحاولت مؤلفة الكتاب أن تجد في مسار المنظمات النسائية الإسلامية ما يؤكد انخراطها في جزرة التمويلات الأجنبية، فلم تجد إلا نموذجين لا يفيدان ذلك بالضرورة؛ لأن أولهما لم يفد إلا استدعاء إحدى الناشطات الإسلامية لحضور إحدى الملتقيات الأوربية لإحدى الجهات المانحة، وهي الاتحاد الأوربي. والثاني له صبغة سياسية محضة متعلقة بحرية التعبير، ولا حضور فيه للتمويل.
وقد مهدت الباحثة زكية سليم للحديث عن النموذجين بما يوهم نسبة ما سجلته عن استفادة الحركات النسائية غير الإسلامية من التمويل الأجنبي إلى الحركات النسائية الإسلامية أيضا. وتقول: “بدأت القيادة النسوية الإسلامية تتخذ موقفا مرنا من التمويلات الدولية، حيث أكدت (م.خ) أن بعض الجهات المانحة مثل الاتحاد الأوربي تطلب من المنظمات الإسلامية أن تنخرط في البرامج الحكومية التي تمولها. لقد تم استدعاؤها شخصيا لحضور واحد من هذه اللقاءات، إلا أنها لم تتمكن من ذلك بسبب العقوبات الحكومية ضد أي منظمة تعمل وفقا للخط الإيديولوجي لجماعة العدل والإحسان.” (م س، ص 230).
ومهدت الباحثة المذكورة للحديث عن النموذج الثاني بقولها: “وهناك إشارات أخرى تظهر مدى انفتاح المجموعات الإسلامية على دوائر التأثير والتمويل الغربية” (م س، ص 230).
ولكنها لم تذكر من تلك الإشارات المتوهمة إلا “تدخل السلك الدبلوماسي الأمريكي في قضية محاكمة (ن.ي) بتهمة المس بالملكية في تصريح لأحد الصحافيين خلال محاضرتها الأولى بجامعة كاليفورنيا، باركلي، في شهر أبريل سنة 2005”.
وكما يلاحظ؛ فهذا المثال لا علاقة له بالتمويلات الأجنبية، وإنما يفيد تدخل السلك الدبلوماسي الأمريكي للدفاع عن حرية التعبير، وهو نموذج من الانتقاء والنفاق وازدواجية المعايير التي تنهجها الولايات المتحدة والبلدان الغربية في ممارسة التدخل لدعمها قضايا حقوق الانسان.
ومما سبق تتبين ملامح إحدى الخلفيات التي تستند إليها الحركات النسائية، الممثلة في هيئات رسمية وأخرى مدنية، لبعضها مراكز استشارية متقدمة لدى الهيئات الدولية، في الاستماتة والإصرار لتعديل قانون الأسرة وفق المرجعية التي سطرت بنودها في المؤتمرات والوثائق والتوصيات الدولية.
والإلمام بقسمات هذا البعد يخفف كثيرا من عنصر المفاجأة الذي تسببه مواقف الهيئات الناطقة بأفكار ومطالب الحركات النسائية للضمير الوطني والوعي الديني اللذين تنافح عنهما نخب دينية وفكرية بهذا البلد. ولا يبعد أن تستمر هذه المفاجأة، وربما في صورة استفزازية عندما تظهر مخرجات لجنة تعديل مدونة الأسرة وصيغتها المعروضة للتصويت من قبل السلطة التشريعية.
ومن قرائن ذلك تراجع المركز القانوني الذي منح لمؤسسة العلماء من الصفة التقريرية إلى الصفة الاستشارية المتحكم فيها، كما تجلى من التعسف الذي مارسه المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الطريقة التي أصدر بها مذكرته، مما دفع ممثل المجلس العلمي الأعلى في الهيئة إلى الانسحاب مسجلا موقفا مشرفا سبق لعلماء آخرين أن اتخذوا مواقف مشابهة له في أول تقنين لمدونة الأحوال الشخصية سنة 1957. وهم: محمد بلعربي العلوي والجواد الصقلي (ت1392هـ)، والحسين بن البشير (ت1384هـ) (انظر محمد بن الفاطمي، ابن الحاج السلمي، (ت 1413هـ)، إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ، تحقيق محمد حمزة الكتاني، ط 1، 2004 دار الكتب العلمية، بيروت، ص:20 ،99، 201).
بارك الله فيك أستاذ الحسن وجزاك خيرا على جهودك البحثية والعلمية مقال تنويري مهم.