الحيل الفقهية في مواجهة انحرافات المدونة

03 يناير 2025 22:05

هوية بريس – د.عبد الحميد بنعلي

مما يتمير به الفقه الإسلامي أنه (ذكي إلى الغاية) -إذا صح هذا التعبير- في إخراج المكلف من المضايق، سواء كان هذا الضيق بسبب من المكلف نفسه أو من الشرع -وإن كان الشرع في جملته لا ضيق فيه، ولكن قد يعرض الضيق للمكلف من جهات أخرى مبسوطة في موضعها-.

والفقهاء أولوا عناية كبيرة بالمخارج والحيل، وبينوا ما يكون منها محرما باطلا يأثم صاحبه، وما يكون منها مشروعا بل مستحبا فعله، وعلى الجملة فقد أعطوها حكم ما تُوصِل إليه، فإن أوصلت إلى حق فهي حق، وإن أوصلت إلى باطل فهي باطل
فمن الأول قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وحديثه في السنن، ومنه قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة، في قصة بلال: “بع الجمْع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا“.

ومن الثاني قصة أصحاب السبت وتحايلهم على السمك وهي في القرآن الكريم، وتحايلهم على الشحوم كما في حديث: “حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها”، ومن ذلك: النهي عن النجش، وحديث لعن المحلل والمحلل له، الخ
وقد ذكر البخاري في صحيه (كتاب الحيل) ثم بوب عليه (باب ترك الحيل) قال ابن حجر: مدلول الكتاب على أن من الحيل ما يشرع، ومدلول الباب على ترك الشائع منها للتوصل بها إلى إبطال الحق.

والفقهاء كلهم يذكرون مخارج الضيق، ولكن اشتهر منهم بها الحنفية حتى عد ذلك من أصول مذهبهم، وقد ألف فيها كبراؤهم كمحمد بن الحسن الذي ألف (المخارج في الحيل)، وأحمد بن عمر الخصاف في كتابه (الحيل والمخارج)، ومن الشافعية جلال الدين القزويني في كتابه (الحيل في الفقه).

وألف ابن تيمية كتابه (إقامة الدليل على بطلان التحليل) وذكر منها ما هو محرم شنيع، وما هو مباح مشروع.

ثم جاء تلميذه ابن القيم فجود هذه الحيل وقسمها تقسيما بديعا في موضع من كتابه (إعلام الموقعين)

وجاء الإمام الشاطبي فأصل للحيل تأصيلات بديعة في كتابه الموافقات

والمعاصرون تفننوا في هذه الحيل، وأجود ما وقفت عليه من مؤلفاتهم كتاب (الحيل الفقهية في المعاملات المالية) لمحمد بن إبراهيم.

إذا عُلم هذا، فلا يحزن المسلم مما يبيت له المتربصون لسحق بقايا شريعة الإسلام في هذا البلد المهضوم، فقد جعل الله لكل شيء قدرا.

ولا أريد أن أستبق الأحداث لتبصير المسلم بهذه (الحيل المشروعة)، بل نتركها إلى أن يبت فيها وتعتمد، وعسى الله أن يحول بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل، والله على كل شيء قدير.

وقبل أن يضطر المسلم لارتكاب الحيلة المشروعة، عليه أن يعلم أن شريعة الاسلام مصونة بالحلال والحرام، وقاعدة الشرع: أن حكم الحاكم لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما.

وقد بسطنا سابقا هذه القاعدة قبل زهاء سبع سنوات.

لماذا يستحيل تبديل أحكام الشرع؟

مما يجهله العلمانيون في بلاد الإسلام: أن تغيير أحكام الشرع في القانون لا يوجب أن تتغير في الدين، بل هي باقية على حكم الله الأول، ومعنى ذلك أن تبديلهم لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا، ولنضرب على ذلك بعضا من الأمثلة:

1- لو فرضوا منع الطلاق، وقالوا: إن الزوج يلزمه إبقاء زوجته معه الى الممات، وأنه لو طلقها فلا عبرة بطلاقه، فالحكم الشرعي لا يتغير، فلو طلقها ثلاثا فإنها تحرم عليه أبدا، ولو جامعها بعد ذلك فهو زان عند الله سبحانه، وأبناؤه يكونون ابناء زنى، وهذا حكم مجمع عليه.

2- لو أوجبوا المساواة في الميراث بين أولاد الميت الذكور والإناث، فالحكم لا يتغير في نفسه، وعلى ذلك يظل نصيب الأخ حراما على أخته، وإذا أخذته من غير رضاه فقد أخذت سحتا ومقتا وحراما.

3- لو فرضوا إلحاق ابن الزنى بالزاني، فإنه لا يلتحق به عند الله أبدا، بل النسب في الإسلام لا يثبت إلا بالزواج الصحيح، وحينئذ فلو ورث منه مالا فإنه يأخذه حراما.
4- لو أباحوا زواج الكافر من مسلمة، ما حلت له بالتزويج عند الله سبحانه، بل زواجها منه زنىً محض، لأنه نكاح باطل لا شبهة فيه، فالمسلمون مجمعون على تحريم هذا الزواج وربنا سبحانه يقول: (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}.

والمقصود من هذا: أن أحكام الشرع صينت عن التبديل بمبدأ التحليل والتحريم، وكونها جزءا من العقيدة، وأن حكم الحاكم لا يغير حكم الله في نفس الأمر، فلا يبيح حراما ولا يحرم مباحا، والمفتي ضامن لهذه الأحكام ومستأمن عليها، فلو أن شخصا طلق امرأته بائنا، ولكن القاضي لم يجز طلاقه، وألزمه بإمساك امرأته، فإنه إذا سأل فقيها عن ذلك وجب على الفقيه أن يفتيه بحكم الله، وأن يحرمها عليه إلى أن تنكح زوجا غيره، وهذا شيء يجهله بنو علمان لأنهم من لبان الجهل رضعوا، والحمد لله على العافية.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M