السجين الذي غيّرته القراءة
هوية بريس – حميد بن خيبش
خلال ستينيات القرن الماضي لم يكن سقف أمريكا يتسع للجميع بسبب العنصرية. واستقر في وعي الأمريكيين من أصول إفريقية أن استرجاع الكرامة يتطلب أولا الوعي بالذات والخصوصية، ثم البحث عن النماذج التي يمكن أن تلتقط من الفضاء العام ما يُسهل عليها تحريك الوجدان، والمطالبة بشروط عيش أفضل، تطوي صفحة مريرة من العبودية امتدت لأربعة قرون.
لم يكن مالكوم إكس سوى زنجي عادي، يُعبر عن حنقه ورفضه للعنصرية بكافة السلوكيات الدنيئة، من سرقة وتعاطٍ للمخدرات وغيرها. إلا أن الفترة التي قضاها في السجن أحدثت الأثر المطلوب لتحرير قوى الزنجي المعطلة، ونقله إلى مصاف الزعماء الملهمين، والفضل في ذلك كما يقول مالكوم نفسه، يعود لتعرفه على الدين الإسلامي ونَهَمِه الشديد للمطالعة.
حثه أحد السجناء ويُدعى بيمبي على أن يستثمر ذكاءه في دروس المراسلة ومكتبة السجن، بعد أن أفسدت حياة اللهو حصيلة تعلمه الذي توقف عند مستوى الثالثة ثانوي. وبعد نقله إلى سجن نورفولك التربوي بولاية ماساشوسيتس، شعر مالكوم أن الجو” الثقافي” نسبيا داخل السجن يحرر طاقته من النميمة والمخدرات، ويوفر له برنامجا إصلاحيا يتضمن ارتياد مكتبة تتسع لحوالي عشرة آلاف مجلد نادر وقديم.
تزامنت عودة مالكوم للقراءة مع حِرص أقاربه على انضمامه لحركة إلاَيْجا محمد الذي كان يدعو لإسلام مشوب بمفاهيم ومزاعم خاطئة، أهمها ادعاؤه أنه مُوفَدُ الله إلى الأمريكيين السود. فشكلت تعاليم الإسلام حافزا آخر للقراءة وتحسين خطه الرديء الذي كان يعجز هو نفسه عن قراءته. ولأنه إنسان عملي كما يقول فقد عزم على نسخ المعجم بكامله، ومع كل صفحة كانت معارفه تتسع لعدد هائل من الأماكن والأعلام والأحداث التاريخية. يقول مالكوم: ” عندما بدأت أفهم ما أقرأه وانفتح لي ذاك العالم الجديد، بدأت بدوري ألتهم الكتب، وأستعير فوق ما يسمح به قانون المكتبة وأقرأ أكثره في الزنزانة.”
كان انطفاء الضوء يثير سخطه، خاصة بعد أن توجه لقراءة الكتب الجادة. فعوَّد عينيه على القراءة تحت ضوء شاحب لمصباح قريب من زنزانته، حيث يواصل القراءة ممددا على الأرضية حتى الرابعة صباحا. ولعل أهم الكتب التي حركت وعيه النضالي كتاب تاريخ الحضارة لويل ديورانت، والخطوط العريضة للتاريخ لـ هـ.ج. ويلز، وبفضلهما تعرف مالكوم على الامبراطوريات السوداء وصراعاتها الأولى من أجل الحرية. كانت القراءة سبيله الأوحد لاكتشاف جذوره وتبديد وهم تفوق الرجل الأبيض !
انتشرت تعاليم إلايجا محمد وسط زنوج أمريكا بفعل تركيزها الشديد على مقولة احتكار الرجل الأبيض للتاريخ، فكان لها دور كبير في توجيه دفة القراءة لدى مالكوم:” حدت بي نظرية السيد محمد حول تكوين الرجل الأبيض إلى قراءة كتاب (اكتشافات في علم الوراثة) للراهب الأسترالي مانديل. قرأت هذا الكتاب وأعدت قراءته، ودرست الأجزاء التي تقول إن بالإمكان الوصول إلى تكوين جنس أبيض انطلاقا من الجنس الأسود، ولكن العكس مستحيل لأن الكروموزومة البيضاء بطبيعتها تنازلية. وحيث إن هناك إجماعا على أنه لا يوجد إلا إنسان واحد، فمن البديهي أنه كان أسود.”
بعد أن فتحت كتب التاريخ عينيه على الحقائق، وكشفت حجم الدمار الذي خلفته أطماع الرجل الأبيض في ربوع العالم، انتقل مالكوم إلى تعميق قراءته في حقل الفلسفة، وقرأ لمعظم فلاسفة الشرق والغرب قبل أن يصل إلى قناعة مفادها: أن الفلسفة الغربية مجرد اقتباس، وأن الغرب ليس سوى مرآةٍ لِتجَلي الحكمة الشرقية.
يفخر مالكوم بأن السجن جامعته الحقيقية، لأنه خالٍ من الملاهي التي تشغل عن الدراسة، كالجمعيات واتحادات الطلبة. وفي ردهاته اكتشف متعة أخرى لا تقل عن القراءة: إنها المناظرات الأسبوعية التي كان يعقدها سجن نورفولك، وأتاحت له فرصة مناسبة لعرض أفكاره، وإقناع جمهوره من السود بالطبيعة الشيطانية للرجل الأبيض وعظمة إفريقيا الأم:” هل يجب أن يكون التدريب العسكري إجباريا؟ كان خصمي قد قال إن الإثيوبيين رموا الطائرات الإيطالية بالحجارة والرماح، فقلت له: إنهم فعلوا ذلك لأنهم كانوا يحاربون الشيطان، وأنهم كانوا سيرمونها بأجسادهم المجردة لو دعا الأمر. فاستنكر الجمع ذلك لأنه يزج بالعنصرية في الموضوع، فقلت لهم: إنه الواقع التاريخي.”
انطلق مالكوم بعد خروجه من السجن، في مسيرة دعوية تعيد الروح لزنوج أمريكا. وكلّفه الأمر مواجهات عديدة مع رجال الكنيسة ووسائل الإعلام التي كانت تعتبر مواقفه من الرجل الأبيض عنصرية تهدد استقرار المجتمع، لكنه لم يستسلم: ” لقد أغمد الرجل الأبيض سكينه في ظهورنا مدة أربعة قرون، والآن وقد بدأ يحركها قليلا يُراد منا أن نكون ممتنين. إن الجرح سيبقى حتى وإن أخرج السكين.”
كان لمناظراته في السجن أثرها العميق على ظهوره الإعلامي، خاصة بعد أن تمكن من توسيع قاعدة منظمة “أمة الإسلام” وضم العديد من السود إلى قوائم منتسبيها. ولأن القراءة ساعدته على إعادة اكتشاف الذات التي فقدها في عالم الانحراف والجريمة، فقد آن لثقافته وتكوينه العصامي أن يُثري القضية التي حملها على عاتقه، وناضل ثم استشهد في سبيلها: قضية السود وحقوق الأمريكان من أصل إفريقي.
ألهمته قراءاته الدائبة والمحمومة في عالم الفلسفة والفكر والعلوم الاجتماعية أسلوبا مميزا تظهر تشكلاته الفريدة في خطبه. فقد تمتع بأسلوب لاذع ومنطقي في الآن نفسه، سواء في مناظراته التلفزية، أو في الخطب والمحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات الأمريكية والعالمية. ويذكر أتباعه كيف كان يستخدم الأمثلة والقصص الواقعية ببراعة مؤثرة، تنتزع من روح الزنجي ما خلّفته الثقافة المجتمعية السائدة من بقايا الانحناء للسيد.
في خطبة شهيرة يُجري مالكوم مقارنة بين زنجي المنزل وزنجي الحقل؛ حيث يربط الأول حياته بحياة سيده، لأنه يأكل من طعامه ويلبس من لباسه، فهو يدافع بكل السبل عن ممتلكات سيده لأن في هلاكها هلاكه. وفي المقابل يقف زنجي الحقل على أرض صلبة، واثقا من أنه ليس لديه ما يخسره، ولو اشتعلت النيران في بيت سيده فإنه يصلي من أجل هبوب الرياح لتزيد النيران اشتعالا. ويختم مالكوم بالشاهد من المقارنة الحاسمة قائلا: ” أنا من زنوج الحقل”.
أحدثت تجربة الحج منعطفا حاسما في فكر مالكوم إكس، بعد أن وقف على حجم المفارقة المؤلمة بين تعاليم الإسلام كدين حنيف، وادعاءات إلايجا محمد ومنظمته “أمة الإسلام” التي استفادت من جهوده الدعوية لأزيد من عشر سنين.
لقد انتزعت الكتل البشرية المختلطة في البيت الحرام حساسيته إزاء الألوان، حين أدرك ما في الحج من روحانية بالغة تذيب الفروق بين البشر. هاهنا رجال بيض وسمر يدينون بالتوحيد، ولا يثير لديهم اللون مشكلة انقسام في التصور والسلوك، كالتي يئن تحت وطأتها المجتمع الأمريكي. إن إيمانهم بالرب الواحد، يقول في رسالة لمساعديه، نزع “البياض” من أنفسهم وسلوكهم ومواقفهم. ولذلك أعتقد أن الأمريكيين البيض إذا قبلوا وحدانية الله، سيقبلون بالتالي وحدة الناس، ويكُفون عن وزنهم في الموازين، وصدّهم وإيذائهم، لا لشيء إلا لاختلاف ألوانهم.
يصف الدكتور عبد الوهاب المسيري سيرة مالكوم إكس بالترتيلة التي تُمجّد روح الإنسان، ويمكنها البقاء والاستمرار في مواجهة أكثر الظروف إفسادا وتدميرا، مادامت تؤمن بعالم البراءة الأولى. إن هذا الرجل الذي تواطأ كل شيء ضده وضد إنسانيته، جعل من غالبية السود قوة احتمال حضارية، تملك القدرة على الحلم والتخيل في عالم المادية المطلقة.
تحول القارئ الزنجي إلى مناضل حررته الكتب من وهم الاندماج، وحفزته ليُحدث فارقا حيويا في مجتمع اكتسبت فيه العبودية سمات القدر المحتوم. إنها إحدى مزايا الكتب التي يكتشفها المرء في المنعرجات الخطِرة من حياته، ويشكر المآسي التي قادته إليها. لذا حين كان يُسأل عن الجامعة التي تخرّج منها، يجيب بلا تردد: إنها الكتب!