الشيخ تقي الدين الهلالي -رحمه الله-: لغتنا العربية للبقاء.. لا للفناء
هوية بريس – الدكتور تقي الدين الهلالي
مقال رائع ماتع للعلامة الدكتور تقي الدين الهلالي، حول العربية والدارجة.
لغتنا العربية للبقاء.. لا للفناء
إن شئنا وفت العربية بحاجات الزمن الجديد
العودة إلى العاميات والدوارج بتر للماضي وتفتيت للوحدة
قامت فئات من الشباب تحسب أن اللغة العربية، وهي وعاء الثقافة في الأمة، ليس بها الكفاية لسد حاجة الزمن الجديد.. وقامت فئات أخرى من شباب وكهول ترد أسباب الفشل إلى فشل في تدريس اللغة وضعف في النشئ الجديد من المدرسين.
والدكتور تقي الدين، وله حياة ثائرة جوالة في ربوع الوطن العربي، والأوطان الغربية – يذكر في هذا المقال ما أخذ الآخذون على اللغة العربية، ويحاول أن يرد الأمور فيها إلى نصابها:
لا أظن أحدا يجمع بين العلم والإنصاف يرضى عن تعليم هذه اللغة في مدارس الشرق العربي، بل كل من يحب لها الحياة والتقدم يأسى ويأسف على حالها السيئ. وقد اختلف المفكرون في تعليل ذلك وذهبوا فيه مذاهب شتى. فمنهم من زعم أنها لغة هرمة أكل عليها الدهر وشرب، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد.
وقد جاء في الخبر لكل داء دواء إلا الهرم. فلا فائدة ترجى من محاولة إحيائها وتجديدها وتشييد صرحها تارة أخرى.
ألا ترى أن أترابها ولداتها كلهن أتى عليهن الفناء وأصبحن في خبر كان؟
فأين السنسكريتية؟ وأين أخواتها السامية كالعبرانية والسريانية والآشورية، وأين اللغة اللاتينية وأين اللغة اليونانية القديمة؟ وأين الجرمانية؟
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فالصواب العدول عنها من العاميات الدوارج.
حروف كتابتها
ومنهم من قال أن العلة ترجع إلى كتابتها الناقصة التي إن كانت كافية للأجيال المتقدمة، لكونهم سَلِيقيين يتكلمون بها بالطبع، فهي غير كافية لأبناء هذا الجيل. فإنها في النطق ثمانية وعشرون حرفا، بل تزيد على ذلك بإضافة الغنة والإدغام بنوعيه، والمد، والقلب، والإخفاء، والإظهار، والإمالة، والتفخيم، والترقيق، إلى غير ذلك مما يحتاج إلى أشكال تدل عليه. وكذلك الحركات والتنوين بأنواعه.أما في الكتابة فهي خمسة عشر حرفا إذا حذفت المكرر الذي لا يتميز عن نظيره في الشكل إلا بالنقط، وهو فارق ضعيف، كم وقع بسببه من تحريف وتصحيف، حتى في عصور ازدهار اللغة العربية. (راجع كتاب التصحيف لأبي هلال العسكري). فكيف بزماننا هذا الذي تفاقم فيه أمر الجهل باللغة العربية؟
فالصواب تغيير أشكالها حتى تكون شاملة لجميع ما يلفظ من حروف وحركات وسائر الأحكام الصوتية المعروفة عندنا بالتجويد وعند الغربيين بفونيتيك.
علة لغتنا
ومنهم من زعم أن علة العلل في عدم مسايرة اللغة العربية ومجاراتها للغات الراقية في هذا العصر هي التزام الإعراب الذي هو عبء ثقيل بغيض يوقع الخطباء والمتكلمين في الأخطاء التي لا يكاد يسلم منها إلا النادر.
وقواعد هذا الإعراب معقدة صعبة الإدراك، ومن أدركها لا يستطيع تطبيقها. فلو حذفنا الإعراب وجعلنا الكلمات كلها مبنية على السكون لوفرنا على المتكلمين كثيرا من العناء، وصار كل متكلم يتكلم بحرية مطمئن البال، لا يخاف لومة لائم ولا نقد ناقد. وكيف نشتغل بتحقيق الإعراب فضلا عن العلوم النافعة الأخرى. وهذه اللغة الأنجليزية مثلا، تفكر بها وتعبر بها عن حاجاتها دول عظيمة بلغت في الحضارة شأوا بعيدا، وليس فيها إعراب. فالمرفوع والمنصوب والمجرور فيها سواء. فيجب أن ننصرف إلى ماهو أهم من الإعراب. وخصوصا المشتغلين منا بالعلوم كالكيمياء والطب والمتعاطين لعلم الحيوان والنبات وعلم الفلك. وأكثر هذه العلوم مؤلفاتها بلغات غير عربية إلى غير ذلك من أقوالهم.
والآن نجيب عن هذه الحجج
أما قولهم أن اللغة هرمت، وما بعد الهرم إلا الفناء. وقد فنى أترابها ولداتها فالصواب العدول عنها في العاميات الدوارج.
فنقول: أن اللغة عرض لا يقوم بنفسه وإنما تقوم اللغة وتحيا وتقوى بحياة المتكلمين بها وقوتهم. فإن كانوا أقوياء متقدمين منافسين للأمم الراقية في العلوم والأعمال كانت لغتهم مثلهم. وإن كانوا ضعفاء عاجزين متأخرين عن ركب المدنية والحضارة ومتواكلين ميتي الهمم، كانت لغتهم مثلهم، فلا يمكن لأمة أن تكون متقدمة قوية في جميع الميادين، إلا ولغتها غنية راقية ثابتة الأركان محكمة القواعد. والشواهد على ذلك كثيرة، فاللغة الإنجليزية واللغة الألمانية قبل أربعمائة سنة لم يكن لها وجود حقيقي في الأدب العالمي والعلوم، فقد كان الأوروبيون يكتبون ويؤلفون باللغة اللاتينية ولا يكادون يستعملون لغاتهم الخاصة. ثم نشأت اللغة الفرنسية فحلت محل اللغة اللاتينية ردحا من الزمان. ثم أخذت اللغات الحديثة الأخرى تتقوى إلى أن صارت اللغة الإنجليزية والألمانية في هذا العصر من أعظم اللغات انتشارا وجزالة ودونت بها العلوم والآداب، وتأخرت عنهما اللغة الفرنسية لتأخر أهلها بعض الشيء..
أما قولهم أن لغات قديمة قد ماتت والعربية يجب كذلك أن تموت.. فحجة من الحجج الواهية، لأن معظم اللغات التي ذكرتم فني أهلها ففنيت معهم، فلا توجد اليوم أمة سنسكريتية، ولا أمة لاتينية، ولا أمة سريانية ولا أمة آشورية، فهل تقولون أن الأمة العربية أيضا قد انقرضت كانقراض هذه الأمم، ونشأت على أثر انقراضها أمم جديدة، فتسمون الشعوب العربية أمما متباينة لا تجمع بينها جامعة، ولا توحد أفكارها لغة ولا أدب؟ وكيف خفي عليكم أن للغة العربية مزية امتازت بها عن لداتها وضمنت لها البقاء، ألا وهي القرآن والشريعة الإسلامية التي لا يدين بها العرب فقط، بل تدين بها وتقدسها أمم كثيرة غير عربية، لا يقوم دينها إلا بالقرآن والسنة، ولا يقوم القرآن والسنة إلا باللغة العربية؟
وهناك مثل هو أوضح وأظهر من كل ما تقدم وهو اللغة الصهيونية التي نشأت في غاية الضعف منذ نحو خمسين سنة على أيدي المستشرقين والصهيونيين، وبشدة العصبية والجهود التي يبذلها هؤلاء لها، لا في فلسطين المحتلة فقط، بل إنه في جميع أنحاء العالم، حيث يوجد جماعة من الصهيونيين وإن كان عددهم قليلا، توجد مدارس تبذل كل جهد في تنمية هذه اللغة الجديدة التي استخرجت من اللغة العبرانية القديمة التي مضى على فنائها أكثر من خمسة آلاف سنة، ولم يبقى من أدبها إلا التوراة، وآثار أخرى قليلة جدا. وقد قرأت في مجلة أمريكية أنه بلغ من تعصب الصهيونيين لهذه اللغة الجديدة أنهم لا يولون أحدا عملا من أعمال الحكومة صغيرا كان أو كبيرا إلا إذا كان يجيد هذه اللغة.
أما الرجوع إلى العاميات الدوارج
وأما العدول إلى العاميات فهو الحالقة والقاصمة، لأنه يحول بين العرب وبين مابقي من تراثهم المقدس، ويقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم، ويصيبهم بالإفلاس التام بزوال البقية الباقية من علومهم وآدابهم وهنا ننشدهم:
ما يبلغ الأعداء من جاهل *** ما يبلغ الجاهل من نفسه
والرأي السديد إذن هو بذل الجهود، يبذلها جميع المتكلمين بالعربية، دولا وشعوبا، لإنعاشها والنهوض بها، وإعادة ازدهارها وقوتها، مع التطور الذي لا يخدش محاسنها ويشوه وجهها.
أما أن اللغة صعبة كتابتها
وأما الحجة الثانية وهي أن صعوبة اللغة العربية جاءت من جهة كتابتها لنقصها وعدم كفايتها لأهل العصر الحاضر فنحن لانريد هنا أن نصدر حكمنا على هذا الرأي، ولكن على فرض صحته لا يصح أن يكون علة كاملة لانحطاط اللغة العربية وتأخرها عن مجاراة اللغات الراقية، وإنما هو جزء علة، لأنه إنما يتعلق بتسهيل القراءة فقط. ونحن لا نشتكي من صعوبة القراءة بل نشتكي كذلك من قلة الألفاظ وعدم كفايتها للتعبير عن كل ما نحتاج الى التعبير عنه سواء أكان ماديا أم أدبيا.
نحن عيال على ماضينا
ونشتكي من اختلال القواعد عند بعضنا جهلا بها وعند بعضنا عجزا عن تطبيقها عند النطق. ونشتكي أيضا من ضعف الأسلوب بل من فساده حتى أن الأساليب الأجنبية غزت إنشاءنا فشوهته، حتى صارت المفردات فيه على الجملة عربية والتركيب أجنبيا، وصار الإنشاء فاقدا للبلاغة والعذوبة والسحر الذي يجده القارئ في كلام أسلافنا نظما ونثرا. ونشتكي من الفقر في النتاج، والحق أن الأمة الناطقة بالعربية عقيمة منذ خمسمائة سنة، تعيش على كتب الماضي ومعارف الأجيال السابقة في مفردات اللغة وعلومها وآدابها. وهذه الأمة تعد بعشرات الملايين، وليس لها معاجم، إلا ما ألفه أهل القرن الثامن الهجري وما بعده بقليل.
فنحن في مفردات اللغة عيال على الفيروز آبادي وابن المنظور. وفي تراجم الأدباء وسيرهم عيال على ياقوت الحموي أو بروكلمن أو دائرة المعارف الإسلامية.
ودائرة المعارف الإسلامية التي ألفها الأجانب أيضا عيال على ياقوت. فقد أخبرني الأستاذ باول كالي وهو من كبار المستشرقين وغيره من المشتركين في تأليفها أنهم في أول الأمر أرادوا ترجمة معجم البلدان لياقوت، ثم بدا لهم أن يجعلوه على شكل دائرة معارف، ويضموا إليه ملتقطات من الكتب الإسلامية. وفي دائرة المعارف الإسلامية أخطاء ودسائس ناشئة عن التعصب الأوربي، وفي بروكلمان مثل ذلك وأقبح. فإذا أراد طالب أوباحث مراجعة سيرة مسلم نابه، أو عربي ثقف، لم يجد بين يديه إلا ماذكرناه، وهو لايسمن ولا يغني من جوع. وإذا سلمنا أن المفردات الموجودة في المعاجم المؤلفة في القرن الثامن الهجري كافية لأهل ذلك الزمان، فأين تقع من أهل هذا الزمان، وقد حدثت فيه آلاف كثيرة من المعاني والأدوات، واكتشفت فيه آلافا من الحيوانات وأنواع النبات؟
اللغات لا تلقن قواعد
ونشتكي أيضا من عدم وجود من يقدر على التخاطب المستمر في جميع الشؤون بالعربية لا نستثني أستاذا ولا أديبا، وهذه أعظم العلل. إذ لا يستطيع التعليم النظري، وإن بلغ كل مبلغ في الكمال، أن يكون عند الطالب ملكة في اللغة إلا إذا كان الأستاذ قادرا على تطبيق تلك القواعد النظرية، يتكلم بكلام بليغ يتلقنه الطالب منه، ويتكرر قرعه لصماخ أذنه، فينطق بمثله وإن لم يتعلم صرفا ولا نحوا ولا بلاغة. ولو صار في هذه العلوم كابن مالك وأبي حيان وابن الحاجب والجرجاني، ولم يتكرر سماعم للكلام البليغ، لم ينطق به ابدا.
ومن البديهي عند علماء اللغات أن طريق تعلمها إنما هو السمع. وضربوا لذلك مثلا تعلم الطفل لغة أمه مع صغره وضعف إدراكه وعدم دراسته لقواعد اللغة. وليس مرادنا أن القواعد لا يحتاج إليها، بل مرادنا يتلخص في العبارة التالية: من عرف قواعد اللغة العربية وعلومها وحصلت له الملكة في التكلم بها ببلاغة وكان قادرا على تعليمها فهو أديب معلم. ومن حصلت له الملكة التي تمكنه من النطق بالكلام البليغ وفهم الكلام البليغ، ولم يعرف علوم اللغة، ولا له قدرة على تعليمها، فهو أديب وليس بمعلم. ومن عرف علوم اللغة ولم تحصل له الملكة التي تمكنه من القول البليغ وفهمه فهو ليس معلما ولا أديبا. وعلى هذا الأساس كل معلم أديب ولا عكس.
صعوبة الإعراب
وأما الحجة الثالثة وهي أن العلة في ركود اللغة العربية هي وجود الإعراب فيها ولو ترك هذا الإعراب وسكنت أواخر الكلم لسهلت دراسة اللغة وخف استعمالها. فالجواب أن اللغات موضوعة على أسس وقواعد. لا يمكن تغييرها مع المحافظة على مزاياها وجمالها.
اللغة الألمانية كاللغة العربية
وليست صعوبة اللغة العربية آتية من وجود الإعراب في أواخر بعض كلماتها، ولا من تصريفها، وكون كثير من جموع التكسير فيها وأبنية مصدرها وأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة غير جارية على القياس، لأن هذه الأمور موجودة في بعض اللغات الراقية بصورة أشد مما هي عليه في اللغة العربية.
فاللغة الألمانية مثلا فيها إعراب وتصريف، وثلاث أدوات للتعريف، ومثلها للتنكير، وجموع تكسير. وغالب هذه الأمور خارجة من القياس ولا تدرك إلا بالحفظ. وإعرابها أشد من إعراب اللغة العربية، لأن القارئ والخطيب باللغة العربية يسكن كل كلمة يقف عليها فيستريح من إعرابها ولا يجوز له ذلك في اللغة الألمانية بل ينطق بالمرفوع والمضاف إليه والمجرور والمنصوب وقفا ووصلا. وحرف الجر مثلا يعمل في ثلاث كلمات أعمالا مختلفة فإذا دخل على أداة تعريف أو تنكير يليها وصف فموصوف يعمل في الأداة عملا ويعمل في الصفة عملا آخر ويعمل في الإسم عملا مغايرا لعمله في سابقيه.
والأسماء فيها ثلاثة أقسام مذكر ومؤنث وما ليس بمذكر ولا مؤنث. ولها قاعدة تضبط هذه الأنواع فعلى الطالب والمتكلم أن يعرف كل إسم على حدة من أي الأنواع هو ولكل واحد من هذه الأجناس أداة تعريف وأداة تنكير تتغيران بدخول العوامل عليها. وجموع التكسير فيها كثيرة. وفيها نحو ثلاثمائة من الأفعال غير قياسية يجب أن تحفظ تصاريف كل منها على حدة. وهذا قليل من كثير من صعوبتها.
الألمانية الفصحى لغة الجميع
ويتكلم بهذه اللغة دولتان هما ألمانيا والنمسا، ونحو الثلثين من سويسرا، ولم يفكر أحد منهم في تسهيلها بترك الأعراب وغيره من الصعوبات، ولا يتبرم أحد منهم بهذه اللغة بل يحبونها ويفتخرون بها. واللغة الفصحى في هذه الأمم الثلاث واحدة، أما العاميات الدوارج فهي لا تعد ولا تحصى، وهذه العاميات الدوارج محرم عليها أن تدخل المدرسة كيفما كانت، من الإبتدائية إلى الجامعة، ومحرم عليها أن تدخل المحكمة والبريد ودوائر الحكومة الأخرى والنوادي الأدبية والصحافة والإذاعة. وفي المدن لا تستعمل إلا في النكت المضحكة. أما في القرى والفلاحين فيما بينهم فإنهم يتكلمون باللغات العامية في مزارعهم وأسواقهم ولكنهم قادرون على التكلم بالفصحى، وكلهم متعلمون ليس بينهم أمي واحد.
كيف نحيي اللغة العربية؟
والحق أن صعوبة اللغة العربية إنما جاءت من عدم التكلم بها وعدم سماعها من القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا. ولا يوجد شعب يتكلم بها باستمرار. بل الأساتذة والأدباء في الجامعات والنوادي الأدبية يتكلمون باللغة العامية التي يتكلم بها أجهل الجاهلين الأميين. فلا وجود لها في بيت، ولا في مدرسة، ولا محكمة، ولا سوق، اللهم إلا في بعض الإحتفالات وفي الإذاعة وخطبة الجمعة، مع اللحن الكثير والأخطاء الفاحشة. فأين يسمع الطالب الكلام البليغ لينطق لسانه به. فإذا أردنا إحياء اللغة العربية وإعادة نضرتها وجمالها وكمالها فعلينا بإيجاد المعلمين المتكلمين بها.
يغوص البحر من طلب اللآلي *** ومن طلب العلم سهر الليالي
دكتور تقي الدين الهلالي
مجلة العربي، عدد رقم 3، بتاريخ 1 فبراير 1959، ص: 27-30