العمومي و الخصوصي
هوية بريس – إبراهيم أقنسوس
تعتبر العلاقة بين المجالات العمومية والمجالات الخصوصية، من المحددات الأساسية التي تكشف عن مستوى التقدم والدمقرطة، داخل المجتمع.
ومبدئيا يعتبر الاهتمام بالخدمات العمومية، من المهام الرئيسة والضرورية التي تضطلع بها الدول، وتتكلف بالقيام بها الحكومات، وتسهر على مراقبة، سيرها ونجاعتها، البرلمانات وكل الهيئات المعنية بالتتبع والمواكبة ؛ فكل جهود وأعمال المسؤولين، المعنيين بتدبير الشأن العام، تنصرف بداهة، ويجب أن تنصرف، وبشكل عادي وجدي وحقيقي، إلى النهوض بالخدمات والمطالب والحاجيات والإنتظارات، ذات الطابع العمومي، لأن هذه الخدمات ببساطة، هي التي تهم، وينتظر أن تهم كل المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة.
وهي التي تحدد مستويات ونوعية، عيشهم، وشغلهم، وسكنهم، وصحتهم، ودراستهم ونقلهم، وكل ما يحقق ويضمن تواجدهم وحضورهم، داخل أوطانهم. وحين يحتل الاهتمام بالخدمات العمومية، التي تهم كل المواطنين، المكانة الكبيرة التي تستحقها بداهة، وحقيقة لا ادعاء وخطابة، يأتي بعد ذلك الحديث عن الخدمات الخاصة، والمرافق المعنية بها، والتي ينتظر بداهة كذلك، أن تكون محدودة، ومضبوطة ومدروسة، من حيث منطق اشتغالها، ومن حيث الأهداف التي تتغياها.
وحسب هذا المنطق المواطن، سيكون لدينا كمثال، تعليم عمومي ناجح وناجع، يستوعب كل المواطنات والمواطنين، بجميع شرائحهم ومستوياتهم الاجتماعية، يتدرجون في أسلاكه وشعبه، بشكل انسيابي عادي، ويحصلون من خلاله على التعلمات المنهجية والتربوية الأساس، سواء بسواء.
ولا حرج بعد ذلك، أن تكون لدينا أقسام خاصة، ولا أقول خصوصية، تهم بعض التخصصات، التي تستوعب أصحاب الذكاءات الاستثنائية، أو ما يسمى كذلك، ومن داخل المدرسة العمومية دائما، حيث يتم انتقاؤهم، وفق منهجية علمية دقيقة وواضحة، بما يعود بالفائدة على عموم المجتمع في النهاية، كما تفعل كل المجتمعات المتقدمة، التي تعرف ما تريد ؛ وما قلناه عن التعليم، ينسحب على كل المجالات الأخرى التي تهم المواطنين والمواطنات، كالصحة والشغل والسكن وما إليها، حيث تكون الأولوية، ويتجه كل الاهتمام للخدمات العمومية، وفق تصور اجتماعي واضح وناجع، يخاطب كل الشرائح الاجتماعية ، ويعرض خدمات حية ومقنعة، يراها الناس ويستفيدون منها ؛ هنا نكون إزاء سياسة، تستحق هذا الإسم، في هذا المستوى على الأقل.
أما حين تختل العلاقة بين العمومي والخصوصي، فتتغول الخدمات الخصوصية، والاعتبارات الخصوصية، وتنتشر المرافق الخصوصية وتستأسد، وتفرض سيطرتها وسطوتها، ضدا على كل القوانين والأخلاق، والأدبيات المنطقية والإنسانية، ويصبح الإنتماء إلى المجالات العمومية سبة ونقصا، وتعبيرا عن الإقصاء والإبعاد والقهر ؛ حين يحدث هذا، ترتفع السياسة المواطنة، بالمعنى العلمي والواقعي للكلمة، وتحضر لغة المصالح والمغانم، وينتشر الضباب، وتعم الفوضى الفكرية والتدبيرية، التي تتحول بعد ذلك إلى فوضى اجتماعية، حين ينقسم المجتمع إلى قسمين غير متكافئين، ولا متجانسين ؛ أصحاب الخدمات الخصوصية، والذوات الخصوصية، حيث المال والجاه والسلطة، وحيث المصالح والريع والإمتيازات، وأصحاب الخدمات العمومية، أو الإهمال العمومي، على الأصح، حيث الحاجة والفقر والخوف، وأحزمة البؤس ومشاعر الألم والضياع ، وضمن كل قسم تتوالد وتتساكن، مع الأيام، ألوان وأشكال، من المحظوظين والأثرياء الخصوصيين، من جهة، ومن البؤساء العموميين، من الجهة الأخرى، و يزداد الأمر استفحالا، حين ينضم المسؤولون عن تدبيرالشأن العام، إلى صف الذوات الخصوصيين، بعدما حازوا مواقعهم ومراكزهم، بأصوات الفقراء العموميين ؛ ما يؤدي في النهاية، إلى إحداث شروخ اجتماعية غائرة ومؤلمة، يكون لها أكبر الأثر، على تماسك المجتمع، وعلى رهاناته التي يرفعها ؛ إذ لا معنى لأي حديث عن مجتمع المواطنة، ولا عن السياسة الإجتماعية، دون تصحيح مسؤول، للعلاقة بين المجالات والمصالح العمومية، والتي يجب أن تنال كل الإهتمام، وبين بعض المجالات الخاصة، والتي يجب أن تأخذ حيزها المضبوط، وفق تصور مواطن مضبوط .