القراءة والتعلم: مدخل إلى تحسين مستوى الأداء القرائي عند المتعلم (1)
سعيد الشقروني
هوية بريس – السبت 28 نونبر 2015
التربية قضية اجتماعية لأن الخوض فيها والتنظير لها مرتبط بوجود المجتمع الذي تستلهم منه معظم مظاهر التحليل والقراءة، على اعتبار الإنسان “متن” نظريات علوم التربية جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي ينتمي إليه بأصوله وهوياته وثقافته.
وتلعب التربية -بما هي قضية جوهرية يتم الخوض فيها بالتحليل والقراءة كلما اقتضى ذلك سياق من السياقات- دورا مفصليا في حياة الفرد والمجتمع من خلال صون مقوماته الأساسية مثل أساليب الحياة وأنواع التفكير المختلفة.
وإذا كان الله عز وجل قد جهز بناءنا الجسدي بجهاز عقلي قادر على تزويدنا بكل ما نحتاج إليه في طلب العلم والتعلم من: الحواس، والملكات، والطاقات، والقدرات، وتصورنا للحقائق الربانية والكونية، فإن نجاح هذه “الآلة العقلية” لن يتم إلا بتكوين وتعليم حاملها تعليما نافعا ضامنا لاشتغال “آلته” بالشكل الذي يضمن بقاء البلاد والعباد..
غير بعيد عن حقل التربية تحتل القراءة أهمية بالغة على المستويين الفردي والاجتماعي، بل هناك اليوم من يتحدث عن إمكانية استخدام القراءة وسيلة لعلاج ناجع تحت إشراف مختصين أو ما يسمى العلاج بالقراءة أو “الببيليوثيرابيا”؛ دون إغفال اعتماد القراءة رائزا من روائز قياس تقدم المجتمعات، وهذا أمر أُسيل فيه ما يكفي من المداد.
وربما هذا ما يبرر دعوة الإسلام للإنسان إلى التعلم وطلب العلم النافع، وجعل القراءة والتعلم من الأمور التي يجب أن يهتم بها الشخص وألا تغفل عنها الدولة، باعتبار القراءة الأداة الأقدم لاكتساب المعارف والعلوم والأفكار والمبادئ التي يفترض أن تنصهر لدى صاحب الرأي الراجح والعقل السديد لينتج أفكارا جديدة تساعد المتلقي على اكتساب المهارات المطلوبة والخبرات الضرورية، ولعل استحضار واقعة أن أول كلمة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في حِرَاء كانت “إقرأ”، خير دليل على أهمية طلب العلم/القراءة، وعلى اختصار القول في هذا الأمر وأهميته في هذا المقام أو غيره، من مقامات تأكيد أهمية النضال من أجل بقاء المعرفة والعلم والانتصار لقيم العقل والتفكير الضامن لبقاء العمران.
القراءة بما هي مفهوم شامل وجامع -باستحضار ما جاء في لسان العرب- لعدد من العمليات اللغوية والذهنية والنفسية، هي ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض وتلفظ بها، ومنه قول القائل: “قرأت الكتاب قراءة وقرآنا”، ومنه سمي القرآن، قال تعالى: “إن علينا جمعه وقرآنه”(2) والقراءة: أعم من التلاوة، ومن الأداء(3).
غير بعيد عن هذا، يقول ابن الأثير: تكرر في الحديث ذكر القراءة، والاقتراء، والقارئ، والقرآن، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته (4)، وسمي القرآن قرآنا لأنه جمع السور والآيات والأوامر والنواهي والوعد والوعيد والقصص والمواعظ، وأصول مكارم الأخلاق(5).
والتعلم من تعلم إذا علم وفَقِهَ، وعَلَمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه، والمعلم من له من يعلمه، ومنه قوله تعالى: “وقالوا معلم مجنون”(6)، ومنه الحديث: “تعلموا أنه ليس يرى أحد منكم حتى يموت” (7) وهو بمعنى: اعلموا، وكذلك قوله في الحديث نفسه: “تعلموا أن ربكم ليس أعور”(8) أي اعلموا، وعلم الآمر، وتعلمه: أتقنه.
ويحتاج التعلم إلى مُعَلِم، وإلى زمان ومدة كافية للتدرب والممارسة، والإنسان بطبعه يتدرج في المراحل، وكذلك في التعلم وتحصيل المعرفة، وذلك بحسب اختلاف طبائع الناس في الذكاء والبلادة، والقابلية للتذكر والنسيان.
وبالمعنى البيداغوجي، تُعَدُ القراءة من المهارات المهمة التي تركز عليها النظم التعليمية الحديثة كونها تمكن المتعلم من امتلاك المعرفة، واستثارة قدراته وإثراء خبراته وزيادة معلوماته ومعارفه وتمكينه من تحصيل المواد الدراسية جميعها، مثلما
تسهم في تكوين الشخصية النامية المبدعة المبتكرة؛ وهذا ما يؤكد وجوب القراءة والتعلم في حياة الأمم، وضرورة كالطعام والماء والهواء، لهذا يعز إيجاد الفرد المُكَون والمثقف الذي يعي ما له وما عليه، والمساهم في إنجاح نفسه ووطنه وأمته.
إن القراءة في وقتنا الحاضر مطلب أساسي من مطالب نهضة الأمم والحضارات، بل هي مقياس حقيقي لتقدّم المجتمعات وتحريرها من ربقة التخلف والانحطاط. ولعل أول آية نزلت في القرآن الكريم والتي هي “اقرأ باسم ربك الذي خلق الآية”.(العلق:1)، جاءت لتعلن بداية تحرير الإنسان لإخراجه من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة والعلم، وكأن سيادة العالم وقيادته –يقول صاحب الكتاب- لا تكون إلا للأمة القارئة التي تقدّر قيمة القراءة وتحترمها، وتسعى إلى تربية ناشئتها عليها، لتكون ملمحا من ملامح شخصيتها، ومؤشّرا من مؤشرات تفوّقها وريادتها.
ولئن كانت القراءة متميزة عن غيرها من الوسائل الأخرى التي ظهرت في الحقبة الأخيرة من تاريخ الإنسانية كلها، فإن البوابة الحقيقية للولوج إليها، والتي أصبحت اليوم قاعدة أساسية، هي بوابة التعليم. ولذلك فإن المؤشر الحقيقي لنجاح المدرسة في تحقيق أهدافها المعلنة وغاياتها المرسومة، هو مستوى الناشئة المتعلّمة في القراءة على كافة المستويات النفسية والاجتماعية والسوسيوـ ثقافية والبيداغوجية.
ضمن هذا الأفق الرحب والدال، يجب أن يقرأ كتاب الباحث المغربي عبد الكامل أوزال الذي جاء ليرد الاعتبار للمتعلم القارئ الذي لم يكن من ضمن الأولويات الكبرى في الأنظمة التعليمية السابقة على مدى نصف قرن، تراكمت فيها مجموعة من المناهج التربوية التي لا ننكر جهودها المبذولة، ولا نحطّ من قدرها المعترف به وطنيا وعربيا وكذلك دوليا، إلا أن تلك الجهود لم تثمر ما كان يُرجى منها، لافتقاد حلقة جوهرية في مسلسل شرطها التاريخي والتربوي ألا وهي حلقة شخصية المتعلم القارئ.
ولعل القارئ لهذا الكتاب يعتقد منذ الوهلة الأولى أن موضوعه يتعلق بمناهج تدريس القراءة في التعليمين الابتدائي والإعدادي، غير أن الأمر ليس كذلك إذ هو أقرب روحا وسَمْتاً إلى ميدان علوم التربية منها إلى منهجية تدريس المادة، لأنه يحاول مقاربة موضوع القراءة من زوايا متعددة نفسية واجتماعية وسوسيو ـ ثقافية وبيداغوجية.
وينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، يتناول الفصل الأول ارتباطات القراءة، من حيث كونها حاجة تعلمية واستراتيجية للتلقي ومجالا للتقويم التربوي. ويتناول الفصل الثاني الصعوبات القرائية الموروثة عن المرحلة الابتدائية، ومشاكل التنشئة الاجتماعية وأثرها في إنجازات المتعلم المغربي، فيما يتناول الفصل الثالث موضوع أفق الانتظار من النص إلى القارئ المتعلم، سعيا إلى استثمار معطيات نظرية التلقي، والاستفادة منها في تحسين مستوى الأداء القرائي عند المتعلم.
أما الفصل الرابع والأخير من هذا الكتاب، فهو فصل ميداني يتعلق باختبارين تشخيصيين: الأول هو اختبار القراءة لدى متعلمي المرحلتين الابتدائية والإعدادية، والثاني هو اختبار التذوق الأدبي لدى الفئة المستهدفة نفسها، للوقوف عند المشاكل الحقيقية والأسباب الرئيسة التي تحول دون اكتساب التلاميذ كفاية قرائية عالية.
عنوان الكتاب على ما يظهر دعوة إلى القراءة والتفكر بوعي جديد في التربية والتعليم، وأكيد سيجد فيه القارئ الكريم ما يبحث عنه، وهو يحلم بغد أفضل لناشئتنا وفلذات أكبادنا.
على سبيل الختم:
يقدر أوزال عواقب الجهل والأمية باعتبارهما من الأسقام الاجتماعية المهلكة للأمم والشعوب، مثلما يدرك أن الغفلة عنهما وعدم التصدي لهما في الوقت المناسب، قد يعسر مسألة القضاء عليها.
بهذا التقدير يمكن القول إن “القراءة والتعلم” يُقَدِرُ السياق الثقافي الذي ينخرط فيه: إنه يدعو القارئ ولو بشكل غير مباشر إلى تبصر حال الأمم التي تجاوره والتي تفوقه عدة وعددا، وثروة ورصيدا وعراقة، ويجعله يفقه ويتذكر أن العلم والتعلم والقراءة، إحدى مداخل نهضتهم وإقلاعهم الحضاري.. فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
إن إحدى الرسائل غير المشفرة في الكتاب، تؤكد على ضرورة إيلاء القراءة والتعلم المكانة الحقيقية في منظومة التربية والتكوين، كما أن أفكار الكِتاب تُشخص حقيقة إحدى الأعطاب الكائنة في واقعنا التعليمي، في أفق أن يتمتع القارئ والمتعلم بالرؤية المناسبة الكفيلة بتطوير كفاياته المنشودة.
الهوامش:
1- صدر عن مطبعة سجلماسة الزيتون بمكناس، كتاب بعنوان “القراءة والتعلم” للأكاديمي المغربي الدكتور عبد الكامل أوزال. جاء الكتاب في 202 صفحة من القطع المتوسط، وضم أربعة فصول مذيلة بملحق عبارة عن نماذج اختبار، وقائمة بالمهارات التذوقية.
2- سورة القيامة- الآية: 17
3- الكليات/ لأبي البقاء/ مادة: قرأ.
4- لسان العرب/ لابن منظور/ مادة قرأ.
5- مصداقا لقوله تعالى ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين”. سورة النحل- الآية: 89.
6- سورة الدخان- الآية: 14.
7- مسلم/ كتاب الفتن وأشراط الساعة/ رقم الحديث: 95.
8- جزء من الحديث نفسه.