القضاء على الإسلاميين وإحياء “الإثنيات” شرط لمرحلة التطبيع الشامل
هوية بريس – إبراهيم الطالب
قبل أيام قال نائب وزير الخارجية الروسي: “أمن إسرائيل أولوية بالنسبة لنا؛ والإيرانيون والسوريون يعلمون ذلك”.
أما في أمريكا فكل رؤسائها تقريبا على مر التاريخ يجعلون أمن إسرائيل من أمن أمريكا، وكل سنة تقدم الإعانات المالية والعسكرية من الإدارة الأمريكية بمليارات الدولارات، ويعتبر اللوبي اليهودي الأمريكي من أقوى اللوبيات في العالم ويتحكم في القرارات الخارجية الأمريكية.
أما الاتحاد الأوربي فكل دوله تعتبر الكيان الصهيوني دولة كاملة السيادة، بل شرّعت منذ زمن بعيد قوانين تجرم ما اصطلح عليه معاداة السامية، قصد تكميم أفواه السياسيين والباحثين والمفكرين والحيلولة دون تعرضهم بالشجب للإجرام الصهيوني ومذابحه في حق الفلسطينيين.
أما الإنجليز فهم من أعطى فلسطين/الوطن المسلم للصهيوني الغاصب، ومكن له عبر مسلسل خيانات بدأت من شريف مكة ولَم تنته بعد وليس آخر بيادقها محمد دحلان/التيس المستعار لابْنَي زايد وسلمان، وكراكيز التطبيع من رؤساء ووزراء وصحفيين ومغنيين.
أما منظمة الأمم المتحدة فما كانت يوما ضد مصالح الصهاينة بل هي من أعطت دولتهم الغاصبة الشرعية، حيث تم الاعتراف بها مباشرة بعد تسلم قادة المنظمات الإرهابية الصهيونية للسلطة من إدارة الاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1947.
وفي الواقع، الأمم المتحدة ما هي إلا مؤسسة أنشأتها الدول الإمبريالية المهيمنة على اقتصادات الشعوب الضعيفة لتدبير مرحلة ما بعد “الاستعمار”، وهي مرحلة “استعمار” جديدة لا تُستعمل فيها الأسلحة إلا عند الضرورة القصوى، وبتفويض من أصحاب الأرض الذين يريدون قتل إخوانهم أو شعوبهم، فكل الحروب التي رأيناها وسمعنا بها حروب بالتفويض، وكل نتائجها تصب في مصالح الدول الكبرى المتحدة في منظمة الأمم المتحدة، الأمر الذي يؤكد على أن مرحلة “ما بعد الاستعمار” هي مرحلة يقتل فيها أفراد الشعب الواحد بعضهم بعضا لصالح عدوهم، وهذا ما نراه في سوريا واليمن والعراق وليبيا أما دول إفريقيا جنوب الصحراء فمن باب أولى وأحرى.
ولعل أبرز ما تمخضت عنه الحربان العالميتان هو استنبات الدولة الصهيونية في سويداء قلب الأمة الإسلامية حيث المال والتاريخ والنفط والحضارة، والديانات السماوية وملتقى طرق التجارة العالمية.
لذا كانت القضية الفلسطينية دائما على مر العقود السبعة الماضية تهيمن على النشاطات الديبلوماسية والمؤتمرات الدولية، وتشكل العناوين الأبرز في نشرات الأخبار والتقارير البحثية والصحافية.
ولأن لا سيادة لـ”دولة إسرائيل” على المسلمين دون تطبيع كامل للعرب معها، نراها تهتم بكل صغيرة وكبيرة تخدم هذا التطبيع ولو كان زيارة مطرب أو مدون، ونراها تقوي العلاقات بين شتات اليهود الذين كونت منهم شعبا وبين دولهم التي هاجروا منها، وتحيي ذاكرتهم وتقيم احتفالاتهم الدينية في بلدانهم الأصلية، وتستأجر الأقلام الصحفية والكتاب للدفاع عنهم وإبراز قضاياهم من خلال المقالات والأخبار والأشرطة الوثائقية.
وكذلك تحرص على استغلال نفوذ “لوبياتها” في الوساطة في القضايا الحساسة والوطنية للدول العربية، بحيث أقنعت الساسة العرب بأن مصالحهم الوطنية الكبرى ونجاح قضاياهم الإقليمية في العالم، لن يكون دون مؤازرة تلك اللوبيات، وغالبا ما يكون المقابل هو المزيد من التطبيع والقرب من الكيان الصهيوني.
لذا نرى كل شيء على الأرض العربية يمشي نحو خدمة الصهاينة، ويتكاتف لتنفيذ مشاريعهم الإمبريالية التوسعية من خلال المسارعة إلى اتخاذ خطوات حثيثة في ملف التطبيع.
لقد لخص الصهيوني “شمعون بيريز” مشروع الشرق الأوسط الجديد في كتابه الصادر سنة 1996، تَكونُ فيه دولة الكيان الصهيوني الحاكم السيد، ودعا للتكامل بين العقل الإسرائيلي والمال العربي، واعتبر أن العرب لا شيء يجمعهم.
ويبدو أن دعوته تلك التي مر عليها قرابة الربع قرن قد لبتها نخب العالم العربي السياسية والمالية والإعلامية، بحيث أصبح المتابع لما يجري في الإمارات وبعض دول الخليج وفِي مصر وشمال إفريقيا، مشدوها من تماهي المصالح الصهيونية مع مصالح الدول العربية، بحيث لم يعد أحد يتحدث عن فلسطين ولا عن القدس إلا ذرا للرماد في العيون.
وقد صدق المجرم “بيريز” في وصفه للعرب بـأنهم: “لا رابط يربط بينهم”، فهو يعلم أن طبيعة العرب عندما تتفلت من أحكام الإسلام وشريعته تنحو منحى الاقتتال والاختلاف وتضمحل كل الروابط الأخرى اللغوية والعرقية، بل تصبح سببا في الحروب بينهم.
فالوحدة والتآلف بين العرب لا تحققه المشاريع النهضوية مثل القومية، ولا المالية مثل مجلس التعاون الخليجي، ولا الإديولوجية مثل البعثية والاشتراكية، فكلها جُربت ولَم تكرس سوى الاختلاف والحروب؛ وهذه حقيقة ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وهو يتحدث عن العرب بعد الإسلام والإيمان في سياق الكلام عن السلم والحرب والإعداد المسلح لمواجهة الأعداء الظاهرين الذين يحاربون والمستترين الذي يشتغلون في الخفاء، وخداعهم للمؤمنين، قال تعالى:
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الأنفال:62-63.
فالصهاينة يعلمون هذه الحقيقة الاجتماعية التاريخية لهذا يشتغلون على الإثنيات والطوائف، فتراهم يدعمون المتطرفين في الحركة الأمازيغية في المغرب والجزائر وليبيا وغيرها، وكذلك ينسقون ويدعمون كل الحركات الانفصالية في الصحراء المغربية، وفِي العراق وسوريا مع الأكراد، وفِي السودان وفِي اليمن بين الزيدية والسنة، وفِي مصر بين الأقباط والمسلمين.
يقول المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله: “يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه.
غُرست إسرائيل في قلب هذه المنطقة لتحقيق هذا الهدف. فعَالمٌ عربي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة يعني أنه سيشكل ثقلا استراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية…
أما في إطار عالم عربي مقسم إلى دويلات إثنية ودينية بحيث تعود المنطقة إلى ما قبل الفتح الإسلامي، أي منطقة مقسمة إلى دويلة فرعونية في مصر وأخرى أشورية بابلية في العراق وثالثة آرامية في سوريا ورابعة فينيقية في لبنان، وعلى القمة تقف دولة عبرية متماسكة مدعومة عسكريا من الولايات المتحدة في فلسطين”اهـ.(*)
لقد علم الصهاينة بعد فشل كل المشاريع “النهضوية” العربية أنه لم يبق في الدول العربية ممانع ولا مقاوم للمشروع الصهيوني، ولا مطالب بوحدة الأمة سوى الحركات الإسلامية، سواء التي تمتح من التصور السلفي أو الحركي الإخواني.
ولهذا يرى العالم اليوم أن الإسلاميين المستهدف الأوحد بالقتل والسجن والمتابعات، فيما أسمته الولايات الأمريكية والغرب “الحرب على الإرهاب والتطرف”، وما ذلك إلا لأن مشاريع الأحزاب والحركات الإسلامية، سواء العلمية الدعوية أو الفكرية السياسية، تخدم هدف الوحدة العقدية التي تتفرع عنها كل المشاريع الوحدوية الأخرى، بما فيها العسكرية والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى عقيدتها في القدس الشريف، وإيمانها بوجوب استرداد كل التراب الفلسطيني الإسلامي.
فلا غرابة إذن أن نرى نتائج الحرب على “الإرهاب” التي قادها شارون والإدارة الأمريكية التي أعطت انطلاقتها بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، مرتبطة بالخصوص بقتل الإسلاميين ومصادرة مؤسساتهم وسجن علمائهم ونخبهم في العالم العربي برمته.
ويظهر هذا جليا في سلوكيات وتصريحات بعض الرؤساء، فبعد الزيارة الأخيرة لرئيس فرنسا للديار المصرية، كتب تغريدة كشف فيها ما دار بينه وبين السيسي جاء فيها: “تعرّضت مصر وفرنسا للإرهاب الإسلامي؛ وذكّرتُ الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن السعي الدؤوب إلى تحقيق الأمن هو جزء لا يتجزأ من مسألة احترام حقوق الإنسان. فالمجتمع المتماسك هو الحصن الواقي من الإرهاب الإسلامي”.
وأجابه السيسي وهو يتحدث في سياق انتهاكه للحريات وعدم احترامه حقوق الإنسان، قائلا باللهجة المصرية: “احنا بِنِتكلم على منطقة مضطربة، واحنا جزء منها في مشروع كبير جدا كان من المفروض إنه يِتْعِمل في المنطقة ديت والمفروض إن مصر هذا المشروع لم ينجح فيها هذا المشروع اللي هو إقامة دولة دينية في مصر بما تعنيه هذه الكلمة من كل التحديات للمنطقة وحتى لشعب مصر اللي رفضها”.
فماكرون كرئيس دولة معادية للإسلاميين لم يجرؤ على الحديث عن آلاف السجناء الإسلاميين في سجون مصر، لم يستطع وهو يدافع عن الحقوق والحريات أمام السيسي أن يتحدث عن الدكتور مرسي أول رئيس مصري غير عسكري منتخب ولا عن الوزراء الذي سجنهم زعيم الانقلاب، ولا عن مئات القتلى في مجزرة رابعة وغيرها، وفضل الحديث عن سجن المدونين والصحفيين قائلا:
“لم تمض الأمور في الاتجاه الصحيح منذ 2017، مدونون وصحفيون في السجن وبسبب هذا يمكن أن تتضرر صورة مصر”.
ولأن السيسي متواطئ في المشروع الغربي لحرب الإسلاميين والإسلام ذكّره بأن أكبر دليل على احترام نظرتكم وتصوركم لحقوق الإنسان والحريات أنني أفشلت مشروع دولة الإسلام في مصر في عهد الرئيس مرسي.
وليس عجبا أن نرى في زمن التعاون المصري/الصهيوني رئيسا لمصر يحاصر شعب غزة، ويتبجح بأنه أفشل مشروعا إسلاميا لقيام دولة إسلامية، فهو يعلم ألا ثبات لحكمه على مصر إلا بدعم من اللوبيات الصهيونية في أمريكا وإنجلترا ودول الاتحاد الأوربي.
موقف السيسي هذا تعودنا عليه في زمن الرئيس المخلوع مبارك عندما كان يرد على انتقادات أمريكا والغرب له بانتهاكه لحقوق الإنسان ومصادرته للحريات، وعدم احترامه قيم الديمقراطية، حيث كان يشدد عليهم بأن النهج الديمقراطي لن يكون إلا في صالح الإسلاميين.
وكذلك كان بعد الربيع العربي، وهذا هو مشروع الدولة الدينية الذي يزعم السيسي أنه أفشله.
إن الدول العربية اليوم إن لم تتدارك مسيرتها التطبيعية مع الكيان الغاصب وتجد طريقة للتعاون مع التيارات الإسلامية ستؤول إلى مجرد مقاطعات في دولة الشرق الأوسط الكبير التي تحكمه قادة دولة الصهاينة.
فقد سبق لشمعون بيريز صاحب المشروع أن قال: “لقد جرَّب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن”.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) في مقال له بعنوان “الشرق الأوسط الجديد في التصور الأميركي الصهيوني” نشر سنة 2006.