المحبة الداعرة والتسامح المجرم
هوية بريس – إبراهيم الطالب
عندما تظن أنك بنبذك لأصل الكراهية مطلقا، ستكون متحضرا، محبا محبوبا متعايشا، تبذل المحبة لكل الكائنات، للإنسان والصرصار وملكات الجمال وللقردة والسيخ واليهود، تكون تمارس المحبة الداعرة، والتعايش المنافق، والتسامح المجرم.
فكيف يمكن أن نتعايش مع من يكيدون لنا يوميا، يخططون لقتلنا أو لاستعبادنا، يستنزفون ثرواتنا، يصنعون شقاءنا وفقرنا؟؟
كيف يمكن للمحب الصادق أن يزعم حب النظام الصيني وهو يستعبد الملايين من إخواننا الإيغور؟؟
كيف له ألا يشعر بالكراهية تجاه الصهاينة الظالمين، وهو يعلم أنهم قتلوا الأطفال والنساء والعجزة والمقعدين، من مجزرة دير ياسين مرورا بصبرا وشاتيلا إلى مجازر غزة 2008، مئات الآلاف من الضحايا وملايين من المهجرين، وإلى اليوم لا يزالون يحاصرون المرضى والضعفاء والمزمنين ويغتالون الأطفال والنساء والمسنين؟؟
إنه التسامح الفاجر المجرم، الذي يقف مع الظالم ضد المظلوم ومع الجاني ضد الضحية، فالعقل والدين والقيم والأعراف من كل نحلة وملة تأبى أن يتحلى الإنسان العاقل الشهم بصفات النذالة هذه.
إن المحبة ونبذ الكراهية والتسامح والقبول بالآخر والسلام والحرب ضد الإرهاب، تستعمل اليوم عند الساسة في الدول المتحضرة وعند من يتبعهم من الإعلاميين المأجورين أدوات للحرب الباردة ضد كل من يناهض الاعتداء، ويرفض الظلم “المتحضر” الذي تسلَّطُ عليه الأضواءُ الإعلامية لتصنع حوله هالة زائفة تخفي القسمات المجرمة لوجهه القبيح.
فـ”بوش” عندما دخل العراق ودمره، فعل ذلك باسم محاربة الإرهاب وجلب الديمقراطية للعراقيين، وتحريرهم من استبداد صدام حسين، كان في سجن أبي غريب يسجن المجاهدين الذين ماتوا في سبيل دينهم ومن أجل تحرير وطنهم لأنه محب للسلام ويقوم بواجبه في حرب الإرهابيين!!!
هذا هو أسلوبهم منذ أن استبدلوا الديمقراطية التنويرية المحبة للسلام والتعايش والحب والعدالة والأخوة، بالصلبان العمياء الظلامية التي كان يرفعها القساوسة والملوك في الحروب الصليبية.
فأولئك كانوا متعصبين دينيا يقتلون من أجل الرب، في حين هؤلاء القادة الجدد مثل القائد الفرنسي المارشال هوبير ليوطي وجنوده وقادة جيشه، والإنجليزي إدموند ألنبي وضباطه كانا ينشران الحضارة العلمانية الديمقراطية في بلادنا المتوحشة، أتوا بجحافلهم وقساوستهم ورهبانهم، بنوا في بلداننا الثكنات والكنائس ليعلمونا التسامح ونبذ عقيدة الولاء والبراء التي تعلمنا التعصب والكراهية.
من يطلع على أعداد جريدة السعادة التي كانت لسان الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، يجد المصطلحات نفسها تستعمل في التأثير على سيكولوجيا الشعب المغربي، ولتوجيه الرأي العام الدولي: السلام والإرهاب، فرنسا بلاد العدالة والأخوة والمساواة وفولتير ومونتسكيو وفلاسفة الأنوار وفلسفة الحق، دخلت وجدة في 1907، وقنبلت الدار البيضاء في نفس السنة واكتسحت الشاوية في سلسلة معارك قتلت وأحرقت دمرت ونهبت، لكنها فعلت ذلك باسم “تهدئة المغرب”، تهدئة مَن؟؟
تهدئة المظلومين حتى يقبلوا بالظلم، تهدئة المنهوبين حتى يعطوا خيرات قبائلهم وأراضيهم ليَمُدّ فيها الرأسمالُ الامبريالي السكك الحديدية، ويشق الطرقات، لتمر فوقها الثروات من المناجم إلى الموانئ حيث تنتظرها البواخر لحملها إلى معامل باريس، لتزداد مدنيتهم وحضارتهم قوة، ونزداد نحن فقرا وبؤسا وقتلا.
هذه هي “القيم” عندما يمارسها الداعرون.
هذا ما يطالبنا به “وسطاء” المحبة الداعرة، حتى نكون متحضرين وعقلانيين وتنويريين.
يطالبوننا أن ننظر إلى عمليات القتل وسفك الدم المسلم في فلسطين وأفغانستان والعراق والصين وميانمار وسجن المسلمين في جوانتانامو أنه دائما يتم باسم العدل ومن أجل تحقيق العدالة وضد الظلم والديكتاتورية والإرهاب، وما عداه فإرهاب وعدوان ولو كان دفاعا عن بيت المقدس واسترجاعا للأرض المغتصبة أو انتقاما للعرض المنتهك.
إننا هنا يجب أن نتحدث عن عقيدة الولاء والبراء، التي تعرضت للتشويه والنقد المدنس المشبوه، خلال عقدين من الحرب على “الإرهاب” والتي تستهدف تفتيت تلك القوة الإيمانية الجامعة، التي كانت تقيم للمسلمين دولتهم كلما سقطت، وترفع عنهم الذل كلما اضمحلت شؤون الحكم فيهم، إنها القوة الباعثة للأمة من رماد، لترفع لهم من جديد دولة قوية العماد، وبها عاش المسلمون 14 قرنا قبل أن تسقط خلافتهم وتستباح دولهم.
الولاء والبراء ليست عقيدة تدعوك للكراهية والبغض كما يحلو للمحاربين العلمانيين أن يفتروا على الإسلام والمسلمين؛ عقيدة الولاء والبراء هي ألا ترضى الضيم ولا الخسف ولا الذل، أن تبحث عن العزة والكرامة، أن تتحيز إلى قيمك وأمتك وعقيدتك وتحفظ ثقافتك وهويتك من الاضمحلال والموت.
البراء ليس كرها غبيا متعصبا، البراء ضبط للمشاعر بوعي حتى يحاصَر الظلم، فالإسلام يعتبر الشرك ظلما عظيما، لأنه يشوه تصور الإنسان للكون والحياة ويعتدي على حقوق الخالق، ومن ثم يتسلسل الظلم ليلحق الإنسان، لهذا كان من أصول الإسلام البراءة من الشرك وأهله.
البراء هو ضبط للإحساس اتجاه الظالمين المعتدين، حتى لا يصبح الإنسان من جنود إبليس، حتى لا يصير المسلم معولا في أيدي أعداء الإسلام والمسلمين.
فالغزاة الأجانب يجدون في المسلمين من يلعب لهم دور الوسيط القذر، من يزين أخته وأمه ليركبها الإنجليزي أو الفرنسي المتسامح دوما مع الخونة “الوسطاء”، والسافك لدماء الأباة الذين لا يرضون الضيم، ولا يقبلون بالظلم.
فرنسا لم تكن تحارب المغاربة في معاركها بجيش فرنسي محض، بل كانت فيالقها مكونة من “الزْواف” الجزائريين ممن كانوا إذا جاعوا أكلوا بأثداء أمهاتهم، ربتهم فرنسا في حجرها، فرضعوا الخسة والسفالة، ومن السنغاليين الذين كانوا يسقوْن لبان القسوة والظلم والاعتداء كأنهم مبرمجون عصبيا، فأصبحوا آلات للقتل، قتلوا فيهم عقيدة الولاء والبراء فصاروا يقتلون إخوانهم بدم بارد مقابل لقيمات قذرة.
طبعا أنا لا أتحدث عن شعب الجزائر المسلم المكافح ولا عن شعب السينغال بل أتحدث عمن تم اجتيالهم عن فطرة الإسلام، من قتلت فيهم دولة الأنوار والتسامح والمَحبة، عقيدةَ الولاء والبراء لينقلبوا أعداء للمسلمين ولبني جلدتهم يقتلون إخوانهم من أجل إعلاء راية فرنسا.
فإذا وجدت نفسك تسبح في قناعات لا تؤسس لك موقفا من عناصر الوجود الذي تؤثر فيك، وفي دنياك وآخرتك، فاعلم أن تلك القناعات غير مبنية على أساس عقدي سليم، فالدين الجديد الذي صنعته المخابرات الأمريكية وصدرته إلى الإمارات العربية تحت عنوان الدين الإبراهيمي، يتأسس على قتل كل ذرة من عقيدة الولاء والبراء القرآنية في قلوب المسلمين، حتى يقع منهم الاستسلام التام في مرحلة ما بعد كورونا التي ستشهد ميلاد الشرق الأوسط الكبير بقيادة دولة الصهاينة.
هذا الدين الذي اختُرع للمسلمين في مكاتب الاستخبارات اليهودية الأمريكية هو دين القصد منه أن يُقْطَع الإنسان عن جذوره الإيمانية، ليصير حطبا تحرك ناره آلة الفساد والظلم والطغيان.
فإذا كنت مسلما، ولم تضبط أحاسيسك وفق القرآن والسنة فاعلم أنك قد حيل بينك وبين أصلك وتوشك أن تصير ظهيرا للظلم والعدوان.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم