الموظف القاتل
هوية بريس – حميد بن خيبش
في العام 1955 أقدم الزعيم الصيني ماوتسي تونغ على إنشاء المزارع الجماعية، بحيث لم يعد مسموحا للفلاحين، في ظل جمهوريته الشعبية الاشتراكية، أن يمتلكوا الأراضي أو يبيعوا المحاصيل لحسابهم الشخصي. ولم تمض غير سنوات قليلة حتى انخفض الإنتاج بنحو أربعين بالمئة؛ غير أن أصحاب الطموح من الموظفين المسؤولين عن تلك المزارع بلغ بهم التهور حد كتابة تقارير تتحدث عن تضخم إنتاج الحبوب في مناطقهم، لطمأنة الزعيم وإدخال السرور على قلبه.
أدت التقارير البهيجة إلى مضاعفة ضرائب الحبوب المطلوب تسليمها مقابل محصول متخيل، يتجاوز حجمه كثيرا الواقع الفعلي، فاضطر الموظفون إلى حرمان المزارعين من حصصهم المقررة من الحبوب. هكذا لقي أزيد من 30 مليون حتفهم جوعا، واضطر بعضهم إلى إدخال الفئران والضفادع كوجبات للمطبخ الصيني، بل أحيا الجوع ممارسة قديمة عُرفت باسم “يي زي إير شي” حيث يتبادل الجيران أطفالهم ليقتلوهم ويأكلوهم.
خلّفت سياسة “ماو” مجاعة هائلة، وقدمت في الآن نفسه صورة عن الأداء الوظيفي الذي سعى خلف التقدير والتحفيز لكن بأسلوب مدمر. ولا شك أن تلك الواقعة تحدث أو يحتمل وقوعها في كل مؤسسة وشركة وإدارة لا تولي اهتماما لفن “التقدير”.
تُرفع يوميا، بل على مدار الساعة، آلاف التقارير إلى الجهات الوصية، في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة. ويسهر على تدبيجها موظفون تتوزع ضمائرهم بين أداء الواجب الوظيفي، وبين التزلف للمسؤولين، أو التخلص من عبء المهمة. لكن في طيات تلك التقارير أرواح ومصالح وآمال معلقة، ومسؤولية بناء أو هدم يتحمل وزرها الموظف كما جرت العادة!
لكن، ألا يحق لنا أن نُسائل مناخ العمل، وأنواع التقدير التي تشجع الموظف على بلوغ أداء مرتفع؟
وهل يكفي إرساء مدونة تحدد الحقوق والواجبات، أم أن المؤسسات بشكل عام، في حاجة إلى ثقافة جديدة تقوم على التقدير والتحفيز، وتثمين المبادرة؟
تُولّد الأساليب الإدارية التقليدية مشاكل عديدة في أماكن العمل، تضعها خارج متطلبات الإنتاجية والتنافسية في العصر الحديث، حيث لا يزال الإطار القانوني والتنظيمي مهيمنا على علاقة الموظف برئيسه أو مديره، مما يجعل أداءه مقتصرا في الغالب على الحضور الجسدي، وتصريف الحد الأدنى من الجهد في إنجاز أعمال روتينية.
تعيق مثل تلك الأساليب كل مقاربة تروم الانتقال بطاقم العمل إلى مستوى الفريق الفاعل، وتسهم بشكل حثيث في تحول الموظف إلى قاتل صامت، يلقي بأدائه عبئا كبيرا على المؤسسة، ويُضعف من قدرتها على مواكبة عالم تنافسي.
كشفت جمعية إدارة الموارد البشرية، وهي جمعية عالمية يقع مقرها في الولايات المتحدة، أن 79 بالمئة من الموظفين يعزون أسباب تركهم لوظائفهم إلى غياب عامل التقدير، وأغلب من يتركون وظائفهم هم من ذوي الأداء المهني العالي، والذين يُعدّ وجودهم أساسيا لبقاء المؤسسة واستمرار خدماتها بشكل جيد. وفي دراسة مماثلة أنجزها معهد ساراتوغا فإن 50 بالمئة من نسبة الرضا الوظيفي تتوقف على علاقة الموظف برئيسه المباشر، وفي حالة تدهورها فإن مكان العمل يصبح خانقا.
دأب عمال المناجم في زمن سابق على اصطحاب عصفور يكون لهم بمثابة جهاز إنذار. كانوا يعلمون أنه في حال انبعاث أية غازات مميتة فإن الطائر سيكون أول من يتأثر بها ليشكل موته جرس إنذار لهم بالمغادرة. إن حال الموظف المتميز يشبه حال هذا العصفور، عدا أنه لحسن الحظ لا يسقط صريعا، ولكن يفضل الهرب والاختفاء.
والصورة الثانية للقاتل الصامت هو الموظف “الشكلي”. وإذا كان من السهل على أي رئيس أن يحصي المتغيبين، إلا انه من الصعب تمييز الحضور الشكلي، أي ذلك النمط من التصرف الذي يُعبر من خلاله الموظفون عن حضورهم الجسدي فقط، وتحملهم للإرهاق والتوتر، ولا يشعرون بالالتزام تجاه مؤسسة حريصة على تجاهلهم، وعدم الاستفادة من مواهبهم.
وفي دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يُكبّد الحضور الشكلي للموظف خسائر تبلغ 150 مليار دولار سنويا، حيث يعادل تقريبا ضياع ما بين 16 و31 يوما من أيام العمل، في حين يعادل الغياب هدر 4 أيام من الإنتاجية فحسب.
أما النوع الثالث فيمكن اعتباره آفة تنخر المؤسسة من الداخل، وتؤذن بفشلها وتراجع أدائها. يتعلق الأمر بالموظف “المتملق”، والذي يبحث عن التسلق الوظيفي بأحط الأساليب، كالوشاية، والتودد المبالغ فيه للرؤساء، واستهداف الكفاءات التي قد تعيق مساره. ولحرصه على إخفاء عجزه وعدم كفاءته، فإن المتملق عادة ما يلجأ إلى تضخيم الإنجاز، واعتماد التقارير والأرقام والبيانات مؤشرا على الكفاءة وحسن الأداء!
إن المعيار الأساسي لنجاح أية إدارة أو مؤسسة هو مدى تبنيها لثقافة عمل يتمكن الموظفون من النجاح في ظلها. ولعل أفضل الطرق هي التدرب على تقدير الموظف، وبث الحماس الذي يُشعره بأن ثمة من يتابعه ويدرك قيمته، ويحرص على بقائه.
كيف ذلك؟
على المدير أن يركز اهتمامه على الاستماع لموظفيه وتقديرهم أكثر مما يهتم بكسب رضا رئيسه المباشر أو الإدارة العليا. إن الذي يهتم فقط برؤسائه المباشرين سيعيش في عزلة عن موظفيه، وبيئة كهذه لا يخرج منها شيء عظيم.
ثانيا، يجب أن يفوق الثناء الانتقاد بنسبة تتراوح بين خمسة وواحد، وذلك لتشجيع ثقافة الأداء المرتفع. فكلما تلقى الموظفون الثناء فإنهم لا يكتفون بمواصلة العمل فحسب، وإنما يقدمون أفضل ما لديهم.
ثالثا، تكمن إحدى مظاهر التقدير في تركك لمكتبك، والتواصل مع موظفيك وهم يؤدون مهامهم، وليس فقط داخل حجرة الاجتماعات. يتعلق الأمر هنا بإظهار الاهتمام، والإصغاء لموظفيك، ومتابعة التحديات التي تواجههم كل يوم.
رابعا، عبّر عن تقديرك للإنجاز الشخصي للموظف، وتجنّب الثناء العام الذي لا يترك أثرا يُذكر. إن عبارة من قبيل: “عملكم رائع، واصلوا” غير موجهة إلى موظف بعينه، وبالتالي فهي غير محفزة على العمل.
خامسا، ينبغي لأسلوب التقدير أن يلائم اهتمامات الموظف وتفضيلاته، وبالتالي يعكس اهتماما شخصيا. يحكي أحد المديرين بمركز لمعالجة تكنولوجيا المعلومات كيف أنه كان يكافئ جميع موظفيه بجوائز من أحد متاجر القهوة نظير أعمالهم الاستثنائية، ليكتشف لاحقا أن أحدهم لا يشرب القهوة، ويسلم الجائزة لجاره!
تهدف أساليب التقدير المتنوعة إلى إبقاء الروح المعنوية للموظف عالية، لأن الإدارة، وهذا هو الأهم، لا تحيا بالأرقام والبيانات، وإنما بما تمتلكه من حماس موظفيها وتأديتهم للعمل على نحو جيد.