بنكيران يكتب: الهجرة إلى الرسول ﷺ

28 يونيو 2025 15:06

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

في زمن الفتن والاضطراب، حين تختلط الأمور ويكثر الهرج، يغلب على الناس الانشغال بأنفسهم وتغليب مصالحهم الضيقة، ويقل من يتفرغ لعبادة الله تعالى. وقد روى مسلم في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ»، إشارة إلى عظيم أجرها في وقت يغفل عنها الناس. وقد درج بعض شراح الحديث على قصر معنى “العبادة” هنا على العبادات الفردية المحضة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن، وهذا بلا شك داخل في الفضل، لكن لا ينبغي أن تقصر معنى العبادة الواردة في الحديث عليه.

فالعبادة في المفهوم القرآني والنبوي أوسع من ذلك، وتشمل كل ما يتقرب به ويحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، مما هو نافع للعبد أو للناس. وعليه، فإن العبادات المتعدية النفع، كإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وتعليم الجاهل، والإصلاح بين الناس، ونشر الوعي في أزمنة التضليل، والدعاء للغير بظهر الغيب… كل ذلك يدخل في العبادة المقصودة، بل دخولها أَولى وأحق، لأن الفتن كثيرا ما تضعف نور الهداية وتخفت صوت الحق، وتخيف المصلحين، فينزوي الصادقون، ويغلب على الناس قول: “نفسي نفسي“.

فالمرابط في ثغور الكلمة، أو الناصح في ميادين الغفلة، أو المصلح في زمن الانقسام، والمتصدق بماله على المحتاجين… كل أولئك عبادتهم في زمن الهرج أعظم من عبادة العاكف في محراب التنسك، لأنهم يقاومون التيار، ويؤدون ما عز القائمون به، وإن كان في كل خير. فالعابدون بما يتعدى نفع عبادتهم إلى غيرهم هؤلاء بصدق نيتهم والتفقه في مراتب الأعمال وحسن اختيارهم مستحقون أكثر لفضل “الهجرة” إلى سيد المهاجرين ﷺ في عصر انقطع فيه الناس عن الهجرة الحسية، وبقيت الهجرة المعنوية قائمة إلى قيام الساعة لمن وفق للثبات في زمن الفتنة.

وإذا كنا نقرر اتساع مفهوم العبادة في الهرج ليشمل العبادات المتعدية، فلا يعني ذلك بحال التقليل من شأن محراب التنسك والعبادات المحضة، كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن والذكر، فهي روح العبادة وأساس الصلة بالله، وهي الزاد الذي لا غنى عنه للسائر في درب الهجرة المعنوية.

لكن المقصود ألا يكتفي المرء بذلك وحده، ولا يركن إلى العزلة والانكفاء عن الشأن العام في أوقات الفتن، بل يجتهد في الجمع بين العبادات القاصرة والمتعدية، بحسب وسعه واستطاعته، فيكون بذلك ممن عبد الله حقا، ونفع خلقه صدقا، وحقق المقصود من قوله ﷺ: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (رواه البخاري).

فالمهاجر الكامل هو الذي كملت هجرته؛ بهجر المعاصي والذنوب، وبالانخلاع من عوائد الغفلة، وبالسعي في صلاح النفس وصلاح الناس. فكما أن العبادة الخالصة تقوي الروح وتزكي القلب، فإن العبادة المتعدية تطهر الواقع وتصلح المحيط، وتدفع الفتنة وتنشر الخير، وتعد من أرقى صور الهجرة إلى إلى الله ورسوله ﷺ في زمن اضطراب الموازين التي منها مهرجان موازين.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة